ظاهرة الأعمال المبتورة .. الأسباب والعلاج


بسم الله الرحمن الرحيم

 

هناك ظاهرة سلبية فوضوية تشوب الكثير من أعمالنا..هي ظاهرة الأعمال التي لا تكتمل، حيث نكتفي من أعمالنا بالشروع فيها أو في أحسن الأحوال الابتداء بإنجازها.. ونعد ذلك إنجازاً، ثم إذا بنا ننقطع عن إكمال تلك الأعمال وإنهائها.. !

إنـهـــا ظـاهرة الأعمال المبتورة التي لا تكتملº ونحن لو أجرينا إحصاء لمرات البدء في الأعمال المختلفة في مــيـدان العمل الإسلامي - سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات - ثم أحصينا كم من الأعمال بلغت النهاية أو حتى قاربت بلوغها،، ستصيبنا صدمة كبيرة إذ إننا سنجد أن معظمها لم تبلغ حتى خط المنتصف، ولا أبالغ إذا ما قلت إن غالبية تلك الأعمال تنتهي فور بدايتها!!

 

نظرة لأهم أسباب تلك الظاهرة:

1- العشوائية التي تسود مجتمعاتنا، والعادات اللانظامية التي ينشأ الشباب عليها فهم يرون جميع من حولهم هكذا يبتدئون ثم ينقطعون، بل ولا أبالغ إذا قلت أن هذا الداء قد أصيب به كثير من الدعاة إلى الله، فأحدهم يبدأ بقراءة كتاب ثم ما يلبث ينقطع، والآخر يبدأ في شرح درس علم ثم ما يلبث أن تراه قد توقف، وثالث يحفظ شيئا من القرآن ثم يهجره!!

2- ضياع لذة الأعمال والاستشعار بها، ففي خضم زحمة الحياة ودورتها يصبح العمل الصالح بالنسبة لكثيرين هو أداء واجب لازم فهو يفعله ليتخلص منه ولينتهي من مسؤوليته، أو يراه وكأنه فضل يأتيه ويرتجي ثوابه الآني السريع والحق أن المسلم في طريقه لربه يحتاج إلى أن يحب عمله ويستشعر لذته ليتوق إليه دائما فلا ينقطع عنه، والمسلم الذي لم يستشعر حب العمل ولم يذق طعم حلاوته لن يصبر عليه ولن يثابر في الثبات عليه.

3- اهتمام المربين بالأوامر والغفلة عن تبيين سبيل التطبيق، فقد صار المربون يوجهون الناس إلى العبادات ويحثونهم عليها بل ويعظونهم فيها وقد يغلظون لهم القول وهم لم يعلموهم كيف التطبيق القلبي الكامل لذاك العمل، بل وكيف يرتبط قلبه به ليحب العودة إليه، لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه أن ترتبط قلوبهم بالعمل قبل جوارحهم فلقد كان يقول لبلال: \" أرحنا بالصلاة يا بلال \" فليست الصلاة عبادة بدنية قولية فحسب، إنما هي راحة للقلب وإزالة للهم ولذة للروح...

 

نظرة الكتاب والسنة لظاهرة انقطاع الأعمال:

يقول الله - سبحانه -: \" أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلاً وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى \".

فالقرآن يلفتنا إلى أولئك الذين تنقطع بهم أعمالهم الصالحات ويتولون عن العطاء والبذل والتضحية، وهم لم يعطوا حقاً لربهم ولا لدينهم ولا لآخرتهم إلا قليلاً من عمل ونزراً من عطاء، فكأن صورتهم هي صورة الباحث عن ماء ليطهر نفسه ويرتوي من عطش فهو يحفر بئر ماء وبينما هو يبتدئ بالحفر إذ تواجهه صخرة (كدية) توقفه عن العمل والحفر والبحث عما يسعده وينفعه.. وههنا تقول العرب عنه: (أكدى) يعنى انقطع بينما هو يبحث عن مائه.. فلا هو انتفع بما حفر سابقاً ولا هو انتفع بماء وجده!!

كما ينبهنا القرآن العظيم إلى حال هذا الشخص المنقطع عمله.. فهو لم يعلم علم الغيب أن له عمرا آخر يستطيع أن يتدارك فيه ما قصر، كما أنه تغافل عما علمه من وصايا الشرائع كلها أنه لن ينفعه سوى بذله الدائم وسعيه المستمر، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن ذاك السعي سوف يراه ربه - سبحانه - فينبغي أن يحرص على نقائه وشفافيته وكماله واستمراره، وبقدر اكتمال سعيه بقدر ما يجازى به من الخير من ربه..

ويقول الله تعالى: \" وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون \".

فالصبر على العمل والثبات عليه مع اليقين الجازم بقدرة الله - سبحانه - على تحقيق وعده هو من أعظم صفات الدعاة إلى الله ومن أسمى صفات الأئمة الذين هم يعدون أنفسهم لقيادة هذه الأمة، فأما الذين لا يصبرون على عباداتهم وعلى أعمالهم الصالحات أيا ما كانت وإذا بهم يغيرون قناعاتهم ومبادئهم مائلين في ذلك إلى متاع الدنيا الزائل فأولئك لا يستحقون مكانة في هذا السبيل مهما كانوا إذ إنهم انقطعت بهم الأعمال ولم يكملوا السبيل ولم يثبتوا عليه.

ويقول الله تعالى: \" يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون \"

يقول القرطبي - رحمه الله - \" تضمنت هذه الآية من الوصايا التي جمعت الظهور في الدنيا والفوز بنعيم الآخرة، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات... ثم قال: والمصابرة قيل: إنها إدامة مخالفة النفس عن شهواتها فهي تدعو وهو ينزع وقيل صابروا الوعد الذي وعدتم به.... ثم قال: وأما المرابطة، فالرباط في اللغة هو العقد على الشيء حتى لا ينحل ومنها الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة وقال الشيباني: ماء مترابط يعنى دائم لا ينزح فالمرابط على العبادة من يحبس قلبه على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة في سبيل الله \" (تفسير القرطبي)

 

ومن السنة: عن عائشة رضي الله عنها فيما رواه مسلم \" سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: \" أدومه وإن قل \"، ولمسلم أيضا بلفظ \" كان عمله ديمة \".

يقول النووي - رحمه الله - شارحا الحديث: \" وفيه الحث على المداومة على العمل وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطعº لأنه بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الله - سبحانه - ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا مضاعفة. (شرح مسلم للنووي)

وقد وعى الصحابة الكرام ذاك التوجيه العظيم وعياً سليماً فكان أحدهم لا ينقطع عن عمل أبدا حتى يكمله.. وكان أحدهم يستمسك بالسنة حتى يلقى ربه مستمسكاً بها.

فقد أخرج مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات ثم تقول: لو نشرني أبواي ما تركتها.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال عند صلاة الفجر: \" يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة\"، قال: \"يا رسول الله ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي\".

وأخرج الترمذي عن بريدة قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بلالاً فقال: بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي قال: يا رسول الله، ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، فقال رسول الله: بهما.

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أتانا رسول الله فوضع رجله بيني وبين فاطمة - رضي الله عنها - فعلمنا ما نقول إذا أخذنا مضاجعنا، فقال: يا فاطمة إذا كنتما بمنزلتكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، وحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين قال علي: والله ما تركتها بعد.

 

- لماذا الاستدامة على العمل وعدم الانقطاع؟

إن للاستدامة على الأعمال الصالحة وعدم قطعها فوائد لا تحصى، فهي سبب لمداومة الاتصال بالله - سبحانه -، إذ إن المنقطع عن عمله غافل في لحظة من اللحظات عن صلة ربه، ومن وصل بربه لم يضره الدنيا بما فيها، كذلك فإن اتصال العمل واستمراره فيه تعاهد النفس عن الغفلة، وترويضها على لزوم الخيرات حتى تعتادها

كذلك فإن الاستمرار على الطاعات يتابع نقاوة السريرة والظاهر ويتعاهدهما فيكن سبب لمحو الخطايا والذنوب، قال - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجاه في الصحيحين: \" لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا\".

كذلك فالاستمرار والمداومة وعدم الانقطاع في الطريق سبب لحسن الختام، قال تعالى: \" و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين\"، فهو لما جاهد نفسه وثبت على طاعة ربه هداه الله إلى سواء الصراط.

كذلك هي سبب للنجاة من النفاق، فقد أخرج الترمذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان، براءة من النار، وبراءة من النفاق\". فانظر كيف أنه لما ثبت وداوم على تلك العبادة الأيام المتتابعة شهد له بذلك.. فأي فضيلة تلك وأي مقام...

 

كيف نربي شبابنا على الثبات على الأعمال؟

1- نشر فكرة الثواب المترتب على الاستدامة على العمل:

فالمتطلع إلى الثواب يكون الثواب دافعه ورجاؤه، وقد سبق ورأينا كيف يحفز النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابتين على الصالحات بالعتق من النار والبراءة من النفاق وغيرها، فينبغي أن ننشر بين شبابنا ثقافة الثواب المتعلقة باستمرار العمل حتى الإنجاز فيه.

 

2- تربية الشباب على أن الدنيا كلها هي دار عمل صالح وليست دار راحة

وكسل فالمسلم دائما حارث وهمام بالصالحات في سبيل ربه وهو لا ينقطع عن ذلك أبداً ومشهور قول الإمام أحمد لولده لما سأله يا أبت متى الراحة، فقال الإمام: عند أول قدم أضعها في الجنة.

 

3- الإنكار على المنقطعين والمتخاذلين في وسط الطريق، وبيان قبح أعمالهم

ففي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو: ياعبد الله لا تكن كفلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل.

 

4- تعويد الأبناء على عدم التأثر بمدح المادحين ولا بذم الذامين،

فهو عامل مؤثر للغاية في الاستمرار، فالمرء الذي ينتظر المدح من الناس على عمله سوف ينقطع ولا محالة عندما لا يجد ذلك المديح.. فانظر وتأمل!

 

5- الإسرار بالعمل، فعمل السر أدوم وثوابه أعظم،

وهو أرجى ألا ينقطع إذ إنه بعيد عن مراءاة الخلق ورجاء ثوابهم فهو لله - سبحانه - ومن داوم على عمل السر صار من الصالحين ذوي الصلة الوثيقة بربه.

 

6- التربية على الدليل والبرهان والإقناع

ومعرفة سبب كل عمل يستجده ولماذا، ولا يكون المرء مقلدا للناس فيما يراهم يفعلونه من الأعمال فحسب ولكن يفتح عقله وقلبه ليدرك المعاني العظيمة والحكم الرائعة من وراء الإعمال فيعدها كمبادئه وقيمة من قيمه فيحافظ عليها ولا يفرط فيها.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply