بسم الله الرحمن الرحيم
بين البقر المجنون والحمى القلاعية، تتخبط أوروباº منذرة بهول كارثة اقتصادية وصحية تتهددها، تاركة وراءها آثارًا عميقة، ليس في طبيعة النظام الغذائي للأوروبيين - ومن تبعهم في كل جحر دخلوه - فحسب، بل في ترتيب حياتهم، وثقتهم بأنظمتهم السياسية والاجتماعية، وحتى علاقاتهم بعضهم ببعض على أعتاب اتحادهم المفروض عليهم رغم أنوفهم.
فجنون البقر..ليس اسمًا مضحكًا لمرض أصاب أبقار أوروبا، وتسبب في اختلال نوعية وعادات الطعام فيها، كما في تلك البلاد التي تعيش عالة على كل ما تصنعه وتنتجه القارة الأوروبية فحسب، ولكنه ظاهرة سياسية واجتماعية بالغة الخطورة، قد يترتب عليها في القريب العاجل تغييرات واسعة النطاق في النظام الاجتماعي الأوروبي، وسقوط حكومات ووزارات، وجنون للبشر قد ينتشر انتشار النار في الهشيم.
محاولات تخفيف حجم الضربة
لقد واجهت الحكومات الأوروبية بسبب هذا المرض، معضلات بالغة التعقيد، واضطرت أكثر من حكومة إلى تشكيل لجان وزارية رفيعة المستوى لمعالجة الكارثة المنتظرة المحدقة بالعباد والبلاد، وتقرر- في مرحلة أولى- شراء جميع الأبقار التي تجاوز عمرها الثلاثين شهرًا التي حددها القانون كحد أدنى يحرم معه استهلاك الأبقار، في محاولة للتخفيف من حجم الضربة الاقتصادية التي ضربت قطاعات الرعي، ومساعدة عشرات الآلاف من الأسر كي لا تنهار اقتصادياتها بالكامل، ولوقف عمليات الانتحار اليومية التي يقدم عليها أصحاب المزارع الذين يشهدون يومًا فيومًا دمار مزارعهم وموت أبقارهم، وضياع \"شقاء عمرهم\" وإفلاسهم التام.
لكن هذه القرارات الاعتباطية لم تكن بالسهلة، ولم تعرف الحكومات أين تذهب بكل هذه الأبقار التي اشترتها من مواطنيها، فشراء الأبقار المريضة والمشتبه بمرضها يعني اضطلاع الحكومة بعملية التخلص من مئات الآلاف منها، وحمل مسؤولية تطهير المزارع والحظائر من جراثيم المرض، وذلك بعد إعدام المواشي في محارق جماعية هائلة، تذكّر رؤيتها بتلك المذابح المقدسة التي كانت تُعَدّ في القرون الغابرة لتقديم القرابين إلى المعبود لعله يرضى، ولقد كانت أوروبا قد امتنعت خلال عقود متطاولة عن تقديم القرابين، والمساعدات للآخرين، حتى حلّ بها ما أرغمها على تقديم الأضاحي بطريقة إجبارية عبثية مؤلمة مذهلة.
رماد الحرق نفايات نووية
ولا بد عند التخلص من هذه الأبقار أن يتم القضاء الكامل على \"منابت أجنة\" المرض المعدية، باعتبارها أجسامًا غريبة اخترقت النظام البيئي الحيوي لكوكبنا المبتلى بتلاعب العلم غير الأخلاقي فيه، وقد استعملت لهذه المهمة الأفران المنتشرة في القرى والمدن، حتى إن بعض المناطق اضطرت إلى استعمال الأفران الخاصة بالبشر ممن يختارون اختفاء جثثهم بعد الموت بالحرق! وترتب على ذلك مشكلة أكبر من الأولى وأشد تعقيدًا، وهي مشكلة الرماد المتخلف عن عمليات الحرق هذه، والذي يقدر حجمه بعشرات الآلاف من الأطنان التي تعتبر مواد ملوثة للبيئة، وعالية الخطورة، ويجب أن تعامل معاملة النفايات النووية! فلقد أدى التلاعب العلمي في النظام البيئي للأرض إلى ضرب سلسلة التغذية الحيوية (البيولوجية)، ولم يبقَ أمام الناس إلا الصلاة لكي لا تتسرب هذه المواد عالية التلوث إلى مياه البحار والأنهار، فتسبب خرابًا وكوارث لا يمكن لأحد التكهن بأبعادها على المستوى الاقتصادي والصحي والإنساني.
في إسبانيا- على سبيل المثال لا الحصر- قررت الجهات المختصة تخزين هذه النفايات الحيوية في مخازن منشآت الجيش، لتكون تحت الحراسة الدائبة بعيدًا عن التماس مع الإنسان أو الهواء أو البيئة.
وبقيت مشكلة مئات الآلاف من الأطنان من \"العلف الحيواني\" الذي كان قد تسبب أصلاً بمرض جنون البقرº لأنه صنّع من بقايا حيوانية، واستخدم لتغذية الحيوانات العشبية، ويبدو أن هذه الأعلاف لم تستخدم في تغذية الأبقار فحسب، بل جميع أنواع الحيوانات الأليفة، وخاصة تلك التي تدخل في السلسلة الغذائية الإنسانية، وقد تقرر كذلك جمع هذه الأعلاف وتخزينها في قاعات المطارات العسكرية ريثما تستطيع الدولة التفرغ للبتّ في أمرها.
إغلاق الحدود.. انتقام مقنع
أما ما كان من اتخاذ إجراءات غريبة عجيبة لإغلاق الحدود، فلقد كان له الأثر البعيد في تعميق شقة انعدام الثقة فيما بين الشعوب الأوروبيةº إذ استغلت إسبانيا خلافها التاريخي مع بريطانيا حول مسألة جبل طارقº فقامت بالانتقام منها فيما يتعلق بمحنتها البقرية، ولم تكفّ وسائل الإعلام الإسبانية عن الحديث عن \"الخنازير الإنكليزية المشبوهة\" أثناء عرضها صورًا للمواطنين البريطانيين الذين أرغموا لدى وصولهم إلى الأراضي الإسبانية جوًّا وبحرًا وبرًّا على الوقوف بصورة هزلية داخل صناديق، قيل إنها أعدت لتعقيم أحذية المسافرين!
بينما لم تتردد الولايات المتحدة الأمريكية من جهتها عن إصدار قرارات تمنع عمليات نقل الدم من المواطنين الأوربيين إلى أشقائهم من الأمريكان للحيلولة دون إصابتهم بالجنون البقري الأوربي.
تصريحات الوزراء.. تخبط واضح
وأما عن تخبط المسؤولين الأوربيين في هذه المجالات فحدّث ولا حرجº فلم يمضِ أكثر من أربع وعشرين ساعة حتى انهار سوق استهلاك اللحوم في إسبانيا، عندما خرج علينا وزير الثروات الحيوانية ليتحدث، في غاية من الصدق والشفافية، قائلاً: إنه لا يضمن أي استهلاك للحم البقر غير موثّق من قبل وزارته، وامتنع أربعون مليون إسباني ومقيم عن تناول لحم البقرº مما دفع وزيرة الصحة المفوّهة إلى الإعلان عن أنه بإمكان الناس ألا يبالغوا في الانصراف عن أكل لحم البقر، واستخدام عظامه في صنع طبق الحساء الإسباني اليومي المعتاد، على ألا يأكلوا عيون البقر ولا أدمغته ولا أذنابه ولا العمود الفقري، ولا الأقسام الأمامية ولا الجيوب ولا الحوايا! وإنه بإمكان أي إسباني- ولم تذكر \"المقيمين\" هناº لأنها تستثنيهم من بني البشر- أن يتناول وجبته المعروفة والشهية من شرائح البقر وبكل ثقة واطمئنان، على أن يجتهد أن تخلو من الأعصاب- هذا بالحرف كما ورد في بيان الوزارة-!
أسماك.. ولكن
ولم يبق أمام الأسبان، وغيرهم من الأوربيين، إلا الاتجاه إلى أكل الأسماك التي تؤكد جميع التقارير العلمية أن معظمها ملوث بالإشعاع الذري، بسبب الغواصة البريطانية الراسية في شواطئ جبل طارق بانتظار قيام بريطانيا بإصلاح العطل الخطير الذي أصاب مفاعلها الذري، أو بسبب سكب مئات الملايين من الأمتار المكعبة من البترول أو مخلفات المصانع الأوربية في البحار، ولا ينظر أحد منهم نحو المغرب المسكينº لأن الصيادين الأسبان كانوا، وخلال الثلاثين عاما الأخيرة، قد قضوا على مصادر الثروة السمكية في المصائد المغاربية والإسبانية معا، بسبب الاستهلاك الهائل للأسماك في إسبانياº حيث كان الجشع يدفع هؤلاء إلى استخدام شبكات صيد هائلة غير بيئية أتت على الأخضر واليابس في كل المصائد البحرية والمحيطيّة المحيطة بشبه الجزيرة الإيبيرية.
الأوربيون يطلبون اللجوء البيئي
وبين جنون البقر والحمى القلاعية، كان الصائمون قد أمضوا هذا العام في إسبانية شهرًا رمضانيًّا نباتيًّا كئيب الموائد، وكاد المضحون من عرب وأسبان أن يأخذوا بالفتوى التركية لا بذبح الدجاج، ولكن بالتضحية بوزيرة الصحة!
واللهم لا شماتة، وكما يقول المثل \"عليّ وعلى أعدائي يا رب\" في أرض العولمة ونظام السوق الواحدة، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر العالم بالموت الأحمر البنفسجي، والأخضر المشع، والبقري المجنون.
لقد احتكرت أوروبا- ويعض أتباعها في بلاد الدنيا وبلادنا- ثروات العالم وكانت تتناول لحمها وسمكها وبيضها وعسلها، وهي تتفرج في نشرات الأخبار على ملايين الجوعى المعدومين في هذا العالم المنكوب بالحضارة الأوربية، وقد جاء الدور عليها لتدفع ثمن بخلها واحتكارها وعدم مشاركتها البشرية خبزها وملحها.
وإذا استمرت الحال على ما نحن فيه اليومº فإنني لا أستبعد ذلك اليوم، الذي قد نرى فيه الأوربيين، وهم يتصببون عرقا وذلا على أبواب سفارات \"أوغندة\" و\"إفريقيا الوسطى\" و\"ليبيا\" و\"أفغانستان\" طالبين اللجوء البيئي هربا من بقرهم المسكين المكتئب، ووزيرات صحتهم المصابات بعصاب السلطة، وعنصرية الرؤية، و\"هستيريا\" الأزمات الاقتصادية التي تلوح في أفق أصحاب نظريات الكوارث والمصائب والولولة وشد الشعر، من الذين لا يثقون بالله ولا بالإنسان ولا بالمستقبل.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد