الوسواس أنواعه وأسبابه وعلاجه


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الوساوس من المشكلات العصيبة التي يتعرض لها عدد كبير من الناس، وهي متفاوتة في خطورتها، فقد تبدأ بأمور بسيطة عارضة حتى تصل بصاحبها إلى قضايا خطيرة، كالوساوس القهرية وما تسببه من شكوك قد تتصل بمسلمات دينية وثوابت عقدية مثل الشك في وجود الله - تعالى -، وفي عقيدة القضاء والقدر، وفي أداء العبادات كالطهارة والصلاة وغيرها من العبادات.

قال ابن منظور - رحمه الله تعالى -:\"الوَسوَسَة والوَسواس: الصوت الخفي من ريح، والوَسوسة والِوسواس: حديث النفس، يقال: وَسوَست إليه نفسه وَسوَسَة وِوسوَاساً، بكسر الواو المصدر، وبالفتح الاسم، مثل الزِّلزال والزَّلزال، والوَسوَاس بالفتح هو الشيطان، وكل ما حدثك به ووَسوَس إليك..ورجل مُوَسوس إذا غلبت عليه الوَسوَسة\"(1).

وقد تناول قدماء الأطباء المسلمين موضوع الوساوس بشيء من التفصيل، ومنهم أبو زيد البلخي الذي ذكر أنَّ \"المريض لا تزال تلمٌّ به وساوس القلب التي قد تكون من جنس ما يحبٌّ مثل عشقه شيئاً يهواه، فيعلق قلبه به ويصرف فكره في كل الأوقات إليه، ويخطر بباله كلَّ حين، ويجعله نصب وهمه دائماً، فيمنعه ذلك من التفكير فيما سواه، ويشغله عن أكثر أعماله، وعن قضاء أوطاره.. وقد تكون الوساوس من جنس ما يخافه المريض ويخشاه من أمرٍ, لعله يحلٌّ به عن قريب، وأشده ما يخشى أن يصيبه في أمر بدنه وحياته فإن هذا من أصعب المخاوف وأشدها تمكناً من القلب واستيلاءً عليه.. وهو أيضاً وسواس أصعب من الذي قبله، لأن انشغال الفكر بما يحبه الإنسان فيه حظ من اللذة، فأما انشغاله بمكروه يتوقعه فهو مؤذٍ, للنفس.. وصاحب الوسواس في حال اليقظة شبيه بصاحب الأحلام المروعة في حال النوم\"(2).

ويقسم الأطباء أعراض الوساوس القهرية إلى قسمين: (الوساوس والشكوك الفكرية) و (العادات والسلوكيات) التي تترتب على هذه الوساوس. بمعنى آخر، أنه يمكن أن يوجد خلل فقط في الفكرة (الوسواس)، أو خلل فقط في العمل (القهر)، أو قد يكون المرض مركباً من الوسواس والقهر (الاثنين معاً) والأكثر شيوعاً هو الوسواس القهري.

 

الوساوس الفكرية:

هي أفكار أو صور ذهنية أو نزعات تتكرر وتتطفل على العقل بحيث يحس الشخص أنها خارجة عن سيطرته، وتكون هذه الأفكار بدرجة من الإزعاج بحيث يتمنى صاحبها مغادرتها من رأسه، وفي نفس الوقت يعرف صاحب الأفكار أن هذه الأفكار ليست إلا تفاهات أو خرافات. ويصاحب هذه الأفكار عدم الارتياح، والشعور بالخوف أو الكراهية، أو الشك أو النقصان. ومن أمثلة هذه

 

الوساوس:

1- الاجترار الوسواسي: وهو الوقوع في شراك مجموعة من الأفكار متعلقة بموضوع معين بحيثُ لا يستطيع المريضُ التوقف عنها وعادةً ما يكونُ الموضوعُ نفسه من المواضيع التي لا معنى للتفكير فيها، أو من المواضيع المحرم شرعًا بالنسبة للشخص أن يخوضَ فيها مثلَ: من خلقَ الله؟ أو كيفَ يستطيعُ الله أن يراقبَ كل هذا الكم الهائل من البشر... إلى آخره

2- استحواذ فكرة الوسخ والتنجيس: وتشمل مخاوف بلا أساس من التقاط مرض خطير، أو الخوف المبالغ من الوسخ أو النجاسة أو الجراثيم (أو حتى الخوف من نقلها إلى الآخرين، أو البيئة أو المنزل)، أو كراهية شديدة للإخراجات الشخصية، أو الاهتمام الزائد عن الحد بطهارة ونظافة الجسم.

3- شكوك غير طبيعية: وتتمثل في شكوك لا أساس لها من أن الشخص لم يقوم بالشيء على وجهه الصحيح، مثل إغلاق أجهزة أو إتمام الوضوء أو الصلاة على وجهها الأكمل.

4- أفكار دينية مستحوذة: مثل: الخوف المبالغ فيه من الموت، أو الاهتمام غير الطبيعي بالحلال والحرام، والخوف الزائد من ارتكاب الذنوب والمعاصي، وأفكار ووساوس مزعجة بانتهاك الحرمات والأعراض والوقوع في الكفر، ضغط عصبي شديد بسب الدين والله - تعالى -والنبي - صلى الله عليه وسلم - مع العجز عن وقف هذا السباب.

5- أفكار تطيرية أو خيالية: الاعتقاد أن بعض الأرقام أو الألوان أو ما أشبهها هي محظوظة أو غير محظوظة.

6- أفكار تسلطية: وغالباً ما تكون دون سلوك قهري، أي أنها أفكار فقط دون استجابة عملية. وهو نوع مزعج جداً من الأفكار، لأن صورها غالباً ما تكون صوراً أو أفكاراً جنسية أو غير أخلاقية مع الأقارب أو الأطفال أو مع الناس المقدسين كالأنبياء، أو تكون على شكل رغبة عدوانية لإيذاء الآخرين. وغالباً ما يشعر المريض معها بالذنب وتأنيب الضمير ويصاحبها الشعور بالدونية والكآبة، وبالذات لو أصابت رجال الدين أو المتدينين عموماً.

 

العادات والسلوكيات:

المصابون بالوساوس القهرية يحاولون التخلص من الأفكار المتكررة، عن طريق القيام بعادات اضطرارية، والقيام بهذه العادات لا يعني أن القائم بها مرتاح من قيامه بها، ولكن العمل بهذه العادات هي لمجرد الحصول على راحة مؤقتة من تكرار الوسواس، ومن هذه العادات والسلوكيات:

1- التنظيف والتغسيل الكثير: التكرار الروتيني المبالغ فيه للغسيل أو دخول الحمام أو تغسيل الأسنان، أو الشعور الذي لا يمكن التخلص منه بأن الأواني المنزلية مثلاً نجسة، وأنه لابد من غسلها بما فيه الكفاية حتى تكون نظيفة بالفعل. ويعرف هذا السلوك عند الأطباء المختصين باسم: (البطء الوسواسي القهري) حيث يقضي أصحابه فترات مفرطة في الطول \"ساعات\" لقضاء أفعال يفعلها معظم الناس خلال دقائق، ومن الأمثلة المستمدة من تراثنا على (البطء الوسواسي) ما ذكرهُ عبد الوهاب الشعراني إذ يقول: وَشهدتُ أنا بعينيَّ موسوساً دخلَ ميضَأةً ليتوضأ قبل الفجر من ليلة الجمعة فلا زال يتوضأ للصبح حتى طلعت الشمسُ.... ثم جاءَ إلى باب المسجد فوقفَ ساعةً يتفكر.... ثم رجعَ إلى الميضأةِ... فلا زال يتوضأ ويكررُ غسلَ العضو إلى الغاية... وينسى الغسل الأول... ولم يزل حتى خطبَ الخطيبُ الخطبةَ الأولى... ثم جاءَ إلى باب المسجد فوقفَ ساعةً ورجعَ.. فلا زالَ يتوضأ حتى سلمَ الإمامُ من صلاة الجمعة... وأنا أنظرُ من شُبَّاكِ المسجد.. ففاته صلاةُ الصبح والجمعة!!! (3).

2-الشك في عدم طهارة الماء المتوضأ به ونجاسته، وعدم التيقن من نزول الماء على كل مكان في العضو بنفس قوة جريانه على باقي الأعضاء، والوسوسة الشديدة في انتقاض الوضوء سواء بخروج ريح أو نزول نقطة مَذي أو بول أو لمس القدم للأرض أو رذاذ الماء، والشك المستمر في نجاسة الملابس والمياه المكشوفة، والشك في النية في العبادات كالوضوء والصلاة.

3- الوسوسة في مخارج الحروف وعدم نطق الكلمة بالصورة الصحيحة والتكلف فيها بكثرة تكرارها. الوسوسة في التكبير والفاتحة وغيرها من أركان الصلوات المنطوقة، والوسوسة في ضبط اتجاه القبلة، والوسوسة في الطعام هل تم ذبحه بالطريقة الشرعية؟ وهل الذي ذبحه مسلم أم لا؟

4- الاضطرار لعمل شيء معين إلى أن يصبح صحيحاً: مثل تكرار العبادات خشية القيام بها بصورة خاطئة، وكذا تكرار الأذكار.

5- الإحساسُ المتضخمُ بالمسؤولية، مثل استعادة الحديث الذي تم إجراؤه مع الناس للتأكد من عدم الكذب فيه أو مخالفة الحقيقة.

6- سلوكيات تعتمد على اعتقادات تطيرية، مثل النوم في وقت معين حتى يبعد الشر.

والمصاب بالوساوس القهرية يتمنى لو أنه تخلص من الأفكار الشنيعة أو الأفعال المتكررة، ولكنه لا يقدر، وربما يكون من الصعب جداً على المريض علاج نفسه، وخصوصاً أن العلاج السلوكي يحتاج إلى مواجهة المرض، وقد لا يعرف مدى شدة الألم الذي يصيب المريض بمرض الوساوس القهرية سوى الشخص المصاب به، ولكن هذا الألم لا يمكن الهروب منه، لذلك نقول للمريض إن المرض لن يختفي إن تُرك للوقت، فالعلاج الدوائي والسلوكي (وهو الأهم) وإن كان مؤلماً في البداية ولكنه بعد مدة من الزمن سيذهب، وهذه الأفكار التي تزعج وتقلق المريض ستزول وتضعف تدريجياً إن شاء الله - تعالى -، حتى تصبح بلا قيمة.

الوساوس من كيد الشيطان الرجيم:

الشيطان له مداخل عدة، وطرق شتى على بني آدم، تختلف باختلافهم، ومن أخطر هذه المداخل وأعظمها ضرراً، وأقواها تأثيراً، وأعمها فساداً هي الوسوسة، التي هي طريقه لفريق من المسلمين الذين عجز عن إغوائهم بالطرق الأخرى، ولم تصدهم حبائله المختلفة، فعمد إليهم بهذه الوسيلة، وخدعهم بخدعة ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب، لهذا أمر الله - تعالى -أن نستعيذ منه ومن وسوسته على وجه الخصوص، وأنزل سورة خاصة بذلك وهي سورة الناس، قال الشيخ أبو محمد الجويني في ذمه للموسوسين في كتابه \"التبصرة في الوسوسة\" كما نقل ذلك عنه النووي في المجموع: (وهذه طريقة الحرورية الخوارج، ابتُلوا بالغلو في غير موضعه، وفي التساهل في موضع الاحتياط، قال: ومن فعل ذلك فكأنه يعترض على أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وسائر المسلمين)(4).

 

إلقاء الشبهات على القلب:

على الرغم من أن العباد نُهوا أن يتفكروا في ذات الله، وفي حقيقة صفاته وكيفيتها، وأُمروا أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على قدرته، إلا أننا نجد الشيطان يوسوس لبعضهم ويورد عليهم أسئلة تضيق منها صدورهم ويتحرجون منها، مصداقاً لما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما حدث ذلك لبعض أصحابه.

فعن أبي هريرة- رضي الله عنه-  قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته\"(5) وعن أنس- رضي الله عنه-  قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟ \"(6) وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله، فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه\"(7) وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-  قال: جاء ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال - صلى الله عليه وسلم -: \"وقد وجدتموه\" قالوا: نعم، قال - صلى الله عليه وسلم - \"ذاك صريح الإيمان\"(8) وعن ابن عباس (قال: جاء رجل إلى النبي \"فقال: يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه يُعَرِض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة\"(9) وعن أبي زُميل قال: \"سألت ابن عباس، فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم بهº قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله - عز وجل -: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك(94) - صلى الله عليه وسلم - يونس: 94}، قال لي: إذا وجدتَ في نفسك شيئاً فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم 3 ){الحديد: 3}\"(10).

قال النووي: (أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله - صلى الله عليه وسلم - \"ذلك صريح الإيمان، ومحض الإيمان\" معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً وانتفت عنه الريبة والشكوك. وقيل معناه: إن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد. فعلى هذا معنى الحديث: سبب الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسة علامة محض الإيمان. وهذا القول اختيار القاضي عياض. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله\" وفي الرواية الأخرى: \"فليستعذ بالله ولينته\" فمعناه: الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله - تعالى -في إذهابه.

قال الإمام المازري - رحمه الله -: ظاهر الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، قال: والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمراً طارئاً بغير أصل دفع بغير نظر في دليل، إذ لا أصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فأنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"فليستعذ بالله، ولينته\" فمعناه: إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله - تعالى -في دفع شره عنه، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها والله أعلم\"(11).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"ولفظ \"التسلسل\" يراد به التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل: \"آمنت بالله ورسوله\"(12).

وسوسة الشيطان في العبادات، كالطهارة والصلاة وغيرهما:

قال ابن الجوزي: \" اعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مُسارقة، وقد لبَّس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم، لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم، وقد قال الربيع بن خُثَيم: تفقه ثم اعتزل \" ثم أخذ - رحمه الله تعالى -يمثل لذلك بقوله: \" ومن ذلك أنه يأمرهم بطول المُكث في الخلاء. ومنهم من يقوم فيمشي ويتنحنح ويرفع قدماً ويحط أخرى وعنده أنه يستنقي بهذا من البول وكلما زاد في هذا نزل البول. ومنهم من يلبس عليه في النية، فتراه يقول: أرفع الحدثº ثم يقول: أستبيح الصلاةº ثم يعيد فيقول: أرفع الحدثº وسبب هذا التلبيس الجهل بالشرع لأن النية بالقلب لا باللفظ. ومنهم من يلبس عليه بالنظر في الماء المتوضأ به، فيقول: من أين لك أنه طاهر ويقدر له فيه كل احتمال بعيدº وفتوى الشرع يكفيه بأن أصل الماء الطهارة، فلا يترك الأصل بالاحتمال. ومنهم من يلبس عليه بكثرة استعمال الماء.. وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة، أو فات أوله وهو فضيلة، أو فاتته الجماعة \"(13).

وقال أبو الوفاء بن عقيل - رحمه الله -(14): أَجَلّ محصول عند العقلاء الوقت، وأقل متعبد به الماء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: \"صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من الماء\"(15)، وقال في المني: \"أمطه عنك بإذخرة\"(16)، وقال في الحذاء: \"طهوره بأن يدلك بالأرض\"(17)، وفي ذيل المرأة \"يطهره ما بعده\"(18)، وقال: \"يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام\"(19)، وكان يحمل بنت أبي العاص بن الربيع في الصلاة(20)، ونهى الراعي عن إعلام السائل له عن الماء وما يرده، وقال: \"ما أبقته لنا طهور\"، وقال: \"يا صاحب الماء لا تخبره\"(21).

وقال سعيد بن المسيب - رحمه الله -: إني لأستنجي من كوز الحُب \"وعاء الماء كالجرة\" وأتوضأ، وأََفضل منه لأهلي(22). وقال أحمد - رحمه الله -: من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء(23) وقال المروزي: وضأت أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من الناس، لئلا يقولوا: إنه لا يحسن الوضوء، وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يَبُلٌّ الثرى(24).

وقال البخاري: وكره أهل العلم الإسراف فيه - يعني الوضوء - وأن يجاوزوا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (25) وقال ابن عمر: \"إسباغ الوضوء الإنقاء\"(26) وقال أبي بن كعب- رضي الله عنه- : \"عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله - عز وجل - فاقشعرَّ جلده من خشية الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيلٍ, وسُنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل ولا سنة، فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصاداً أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم\"(27).

قال العلامة ابن القيم: \"ومن أصناف الوساوس ما يفسد الصلاة، مثل: تكرير بعض الكلمة، كقوله في التحيات: آت آت، التحي التحي، وفي السلام: أس أس، وقوله في التكبير: أكككبر، ونحو ذلك، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماماً فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعاداً له عن الله من الكبائر، وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه، وما كان عليه أصحابه، وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها، وتعذيب نفسه، وإضاعة الوقت، والاشتغال بما ينقص أجره، وفوات ما هو أنفع له.. وتغرير الجاهل بالاقتداء به.. كما قال أبوحامد الغزالي وغيره: الوسوسة سببها إما جهل بالشرع، وإما خَبَل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب\"(28).

من أسباب العلاج لوساوس الشيطان المتعلقة بالطهارة والصلاة والتشاغل عنها بجانب ما سبق ما يأتي:

1- التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال القرطبي في تفسير قوله: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم 200 ){الأعراف: 200} أي: اطلب النجاة من ذلك بالله، فأمر - تعالى -أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه، والاستعاذة به، وقد حُكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سوَّل لك الخطايا؟ قال: أجاهدهº قال: فإن عاد؟ قال: أجاهدهº قال: فإن عاد؟ قال: أجاهدهº قال: هذا يطول، أرأيتَ لو مررتَ بغنم فنبحكَ كلبُها ومنع من العبور، ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهديº قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك\"(29) ولما أتى عثمان بن أبي العاص النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يُلبِّسهُا عليّ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ذاك شيطان يقال له خِنزَب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً\". قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني(30).

2- استصحاب القاعدة الفقهية العظيمة: \"اليقين لا يزال بالشك\"، فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين. ودليل ذلك ما صحَّ عن أبي هريرة} قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئاً فأشكَل عليه أَخَرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً\"(31) فمن كان متيقناً أنه توضأ، ثم شك هل أحدث أم لا؟ لم يلتفت إلى هذا الشك، وبنى على ما هو متيقن منه. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"إذا شك أحدكم في الصلاة فلم يَدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطَّرِح الشك وليبنِ على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان\"(32).

3- عدم البول في المستحم، والمراد به الماء الراكض، فقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فقال: \" لا يبولن أحدُكم في مستحمه ثم يغتسل فيه - قال أحمد: ثم يتوضأ فيه - فإن عامة الوسواس منه\"(33).

4- الإقتداء والتأسي بمسلك السلف الصالح في هذا الجانب، حيث كانوا يتشددون ويحذرون مما يدخل في بطونهم، وما كانوا يغالون في مسائل الطهارة، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً: فروى أبو داود في سننه عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: \" قلت يا رسول الله، إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا تطهرنا؟ قال: \"أوليس بعدها طريق أطيب منها؟ \" قالت: قلت: بلىº قال: \"فهذه بهذه\". (34) وقال عبد الله بن مسعود}: \"كنا لا نتوضأ من موطِئ\"(35) أي موطوء، يعني إذا وطئ على المكان القذر الجاف لا يجب عليه غسل القدم. وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الرجل يطأ العذرة؟ قال: \"إن كانت يابسة فليس بشيء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه\"(36). وقال حفص: \"أقبلتُ مع عبد الله بن عمر عامدين إلى المسجد، فلما انتهيتُ عدلتُ إلى المطهرة لأغسل قدمي من شيء أصابهما، فقال عبد الله: لا تفعل، فإنك تطأ الموطئ الرديء، ثم تطأ بعده الموطئ الطيب - أو قال: النظيف - فيكون ذلك طهوراًº فدخلنا المسجد فصلينا جميعاً\"(37) وقال أبو الشعثاء: \" كان ابن عمر يمشي بمنى في الفروث والدماء اليابسة حافياً، ثم يدخل المسجد فيصلي فيه، ولا يغسل قدميه\"(38) وقال عمران بن حدير: \"كنت أمشي مع أبي مِجلز إلى الجمعة، وفي الطريق عذرات يابسة، فجعل يتخطاها ويقول: ما هذه إلا سودات، ثم جاء حافياً إلى المسجد فصلى، ولم يغسل قدميه\"(39). وقال عاصم الأحول: \" أتينا أبا العالية فدعونا بوضوء، فقال: مالكم، ألستم متوضئين؟ قلنا: بلى، ولكن هذه الأقذار التي مررنا بهاº قال: وهل وطئتم على شيء رطب تعلق بأرجلكم؟ قلنا: لاº فقال: فكيف بأشد من هذه الأقذار يجف، فينسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم؟ \"(40).

 

----------------------------------

*الهوامش والمصادر:

(1) لسان العرب لابن منظور ج6 254-255 مادة \"وسس\" بتصرف.

(2) المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي: أبحاث وأعمال المؤتمر العالمي الرابع عن الطب الإسلامي، الكويت 1981، مقالة د. محمد عبد الهادي أبو ريدة (الصحة البدنية والنفسية في الإسلام) ص 652 65.

(3) عبد الوهاب الشعراني في المنن الكبرى ص 342.

(4) المجموع للنووي ج 6 ص 345.

(5) رواه الإمام البخاري - رحمه الله - في كتابه الجامع الصحيح كتاب بدء الخلق حديث رقم 2560، ورواه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها رقم 214.

(6) رواه البخاري في كتاب الاعتصام حديث رقم 6007.

(7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده كتاب باقي مسند الأنصار رقم 25006، وقال الألباني حديث صحيح، أنظر صحيح الجامع 1542.

(8) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها برقم 209.

(9) صحيح أبو داود- الألباني رقم 5112.

(10) رواه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في رد الوسوسة حديث رقم 4446.

(11) صحيح مسلم بشرح النووي باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها ج الأول ص 433-434 ط دار الحديث بالقاهرة بتصرف.

(12) درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول لابن تيمية ج1 ص 363 دار الكنوز الأدبية الرياض 1391ه بتحقيق محمد رشاد سالم.

(13) تلبيس إبليس ص 131-132 ط دار عمر بن الخطاب الإسكندرية تحت باب: \"ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات\" بتصرف.

(14) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 86 الباب الثامن (ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات).

(15) الحديث رواه البخاري عن أبي هريرة في كتاب الوضوء باب ترك النبي والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد 1-65، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول 1-91.

(16) الحديث رواه الدار قطني عن ابن عباس كتاب الطهارة، باب ما ورد في طهارة المني وحكمه رطباً ويابساً 1-124 الحديث رقم 1 وفي مجمع الزوائد (279/1، 280): رواه الطبراني في الكبير وفيه محمد بن عبيد الله العزرمي وهو مجمع على ضعفه، وعن ابن عباس قال: لقد كنا نستله بالإذخر والصوفة يعني المني رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.

(17) رواه أبو داود عن أبي هريرة كتاب الطهارة، باب في الأذى يصيب النعل (267/1-268) والحديث برقم 385، ورواه البيهقي في السنن الكبرى كتاب الصلاة، باب طهارة الخف والنعل (430/2 وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم 833).

(18) الحديث رواه الترمذي عن أم ولد لعبد الرحمن بن عوف كتاب الطهارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب ما جاء في الوضوء من الموطأ رقم 133.

(19) ورواه أبو داود عن علي- رضي الله عنه-  كتاب الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب (262/1، 263) والترمذي في أبواب الصلاة باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع (509/2، 510) رقم610.

(20) رواه مسلم عن أبي قتادة الأنصاري كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب جواز حمل الصبيان في الصلاة.

(21) الحديث رواه الدار قطني في كتاب الطهارة عن ابن عمر باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة(26/1) رقم 30 والحديث ضعفه الألباني تمام المنة رقم 48.

(22) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم ج1 ص 128 دار المعرفة بيروت 1975.

(23) المصدر السابق.

(24) المصدر السابق.

(25) المصدر السابق ص 132.

(26) المصدر السابق ص 132.

(27) المصدر السابق ص 132.

(28) إغاثة اللهفان ج1 ص 146.

(29) تفسير القرطبي - سورة الأعراف ج 3 ص 2863 ط دار الغد العربي بمصر.

(30) رواه مسلم كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة رقم 4083.

(31) رواه مسلم كتاب الحيض باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك حديث رقم 362.

(32) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب السهو في الصلاة والسجود له رقم 888.

(33) رواه أبو داود عن عبد الله بن مغفل كتاب الطهارة باب في البول في المستحم حديث رقم 25.

(34) أبو داود كتاب الطهارة باب في الأذى يصيب الذيل حديث رقم 327.

(35) رواه الترمذي في كتاب الطهارة عن رسول الله باب ما جاء في الوضوء من الموطأ رقم 133.

(36) أنظر إغاثة اللهفان لابن القيم ج1 ص 152.

(37) المصدر السابق.

(38) المصدر السابق.

(39) المصدر السابق.

(40) المصدر السابق.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply