التربية البيئية في التصور الإسلامي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد أحيا الإسلام الضمير في وجدان المؤمنين، وعمّق في نفوسهم أهمية المسؤولية، ومنها حماية البيئة ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، وحثهم على النظافة والطهارة، وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث..وفي ظل هذه التوجيهات الحكيمة كانت تربة الإسلام خصبة للتربية البيئية السليمة لينشأ المسلم نشأة صحيحة ويحيا في بيئة صحية حياة كريمة سعيدة.

إن الله - عز وجل - خلق الإنسان في أحسن تقويم وأودع فيه قدرات عقلية ونفسية وجسدية تؤهله إلى التكيف وتحمل المسؤولية في تعمير الأرض باعتباره مستخلفاً فيها.

وقد حض الإسلام المسلمين دائماً وأبداً على السلوك البيئي الأمثل بدءاً من طلب العلم، وأعمال العقل فتحمل المسؤولية وحماية البيئة.. فالعلم النافع هو المدخل الصحيح للتربية البيئية السليمة.. يقول الله- تبارك وتعالى -: إنما يخشى الله من عباده العلماء(28) {فاطر: 28}. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: \"طلب العلم فريضة على كل مسلم\"(1)، وفي مقام تحمل المسؤولية قال رسول الله {: \"كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته.. \"(2).

 

النهي عن الإفساد في الأرض:

نهى الإسلام عن الإفساد في الأرض، وحرم التخريب في البيئة بكل أشكالهº لكونه يشكل خطراً كبيراً عليها، وليس من شك في أن تدهور النظام البيئي فيه تهديد مباشر لمستقبل البشرية جمعاء.. فأحيا هذا الدين القيم الضمير الإنساني، ودعا إلى تهذيب النفس، الجالب للفلاح والصلاح فقال - تعالى -: \" قد أفلح من زكاها 9 وقد خاب من دساها 10 \" {الشمس: 9، 10}، وحذر الله - تبارك وتعالى - من الإفساد والعواقب الوخيمة للمفسدين فقال - عز وجل -: \" وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد 205 \"{البقرة: 205}، وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن رسول الله قال: \"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسلفها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً\"(3)، فالإنسان لا يعيش في هذه الدنيا وحده يفعل ما يشاء وما يحلو له ولو كان فيه ضرر على الآخرين.. فالإسلام يرفض هذه الحرية المطلقة غير المسئولة والقاعدة هنا \"لا ضرر ولا ضرار\".

 

الإسراف والتدهور البيئي:

نهى الدين الإسلامي الحنيف عن الإسراف والتبذير، ومنه: السرف في الموارد، ووصف المبذرين بأحقر الصفاتº لأن الإسراف، وهدر الموارد يؤدي إلى أفدح المشاكل وعلى رأسها التدهور البيئي عن طريق التدخل السلبي للإنسان.. وقد وضع الدين الإسلامي الحنيف الضوابط المنظمة للإنفاق، والقواعد التي تمنع الهدر والسرف.. ففي الاعتدال خير كثير.. قال الله - تعالى - في وصف المؤمنين الصالحين: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما 67 {الفرقان: 67}، كما حذر الله- تبارك وتعالى - من الإسراف فقال - عز وجل -: \" ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين 141 \" {الأنعام: 141}، ووصف المبذرين بأحقر الصفات فقال - عز وجل -: \" إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا 27 \" {الإسراء: 27}، ويرشد النبي المسلمين إلى السلوك الأمثل في الإنفاق والتصرف في الموارد فقال : \"كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة\"(4).

فلا ينبغي لمسلم أن يتجاوز حدود الاعتدال في هذا الأمر، بل عليه الاقتصاد في الإنفاق والانتفاع بموارد البيئة وثرواتها ما أمكن إلى ذلك سبيلا.. ومن المعلوم أن الإسراف سبب رئيس من أسباب تدهور البيئة واستنزاف مواردها، ومن أخطر صور هذا الإسراف وذاك الاستنزاف:

1- هدر المياه، وما أدراك ما هدر المياه؟! فالماء عصب الحياة.. قال - تعالى -: \" وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون 30 \" {الأنبياء: 30}، وهذا الهدر في المياه لا يقتصر على الاستهلاك الآدمي المباشر من مياه الشرب ولكن في الاستهلاك المفرط لها في الصرف الصحي والري والزراعة وغيرها.. ولا يخفى عليك أن هناك أزمة عالمية على وشك الانفجار بسبب نقص المياه العذبة، وأنها قد تؤدي إلى نزاعات مسلحة في المستقبل يصطلح على تسميتها بحرب المياه.

2- الإسراف في استهلاك الطعامº وما ينتج عنه من مشاكل بيئية وصحية مختلفة، ومن المعروف أن بلادنا العربية هي دول مستهلكة يلقي في كثير منها جل المواطنين بآلاف من الأطنان من بقايا الطعام في صناديق ومقالب القمامة.. وهي أيضاً من المشاكل التي تؤرق الحكومات، ومنظمات حماية البيئة التي تسعى جاهدة لتوعية الناس للسلوك الصحي والغذائي الأمثل، كما تعمد إلى عمليات إعادة تدوير هذه القمامة للانتفاع بها كأسمدة وفي أغراض أخرى لحل بعض المشاكل المترتبة عليها.

3- الإفراط في الرعي والصيد الجائرين، حيث يؤدي ذلك إلى العديد من المشاكل البيئية كإبادة أنواع من الحيوانات، وتصاعد احتمالات تعرضها إلى الانقراض.

4- الإفراط في استهلاك الكهرباءº يؤدي أيضاً إلى مشاكل بيئية عدةº لأن هذا الإفراط يزيد الأحمال على أجهزة توليد الكهرباء، وبالتالي اللجوء إلى استخدام البدائل كالوقود التقليدي، وهذا يؤدي إلى تلوث الهواء بالعوادم الضارة.

 

الصحة العامة وحماية البيئة:

دعا الإسلام ذويه إلى حماية البيئة والمحافظة عليها نظيفة، وأحاط ذلك بسلسلة من الإرشادات القويمة في هذا المضمارº فجعل إماطة الأذى عن الطرق شعبة من شعب الإيمانº لما فيها من تأكيد على صحة البيئة وحماية الناس من الأذى أو التلوث.. يقول رسول الله : \"الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق\"(5).. وكذا نهى النبي عن التغوط في موارد المياه والطريق، كما نهى أيضاً عن التبول في الماء الراكد(6).. وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله : \"اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، وفي الظل\"(7).

ولاشك في أن إتيان مثل هذه السلوكيات الدنيئة يلوث البيئة ويضر بصحة الإنسان أيما ضررº فالبول في الماء بعامة والراكد بخاصة يؤدي إلى انتشار الأوبئة والأمراض المتوطنة، والعدوى عن طريق انتشار الديدان الخطيرة كالبلهارسيا والأنكستوما والميكروبات المسببة للتيفوئيد والكوليرا(8).

 

وماذا بعد.. ؟

يجب على الإنسان المسلم أن يحيا حياة إسلامية خالصة متخلقاً بأخلاقيات هذا الدين العظيم فيكون ذا دور إيجابي نحو بيئته دائماً.. ينفع نفسه ومجتمعه، ويعمر في الأرض إلى ما شاء الله - عز وجل -، والزراعة على سبيل المثال من الموارد الأساسية التي تحمي بيئة الأرض، وقد أولاها الإسلام عناية متميزة، وجعل الاهتمام بها عبادة.. فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله : \"ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاًº فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة\"(9).. ومن هذه التوجيهات الإسلامية الحكيمة تتضح لنا عناية الإسلام بالصحة العامة وحماية البيئة، وبالتالي المحافظة على صحة الإنسان محور هذه البيئة.. وهي جميعاً توجيهات جديرة بالاعتبار والتطبيق ففيها أمن البيئة وحمايتها من كل عبث وسوء.

 

ـــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- رواه ابن ماجه في مقدمة سننه- الحديث رقم: (224).

2- رواه البخاري في صحيحه - كتاب: الجمعةº باب: الجمعة في القرى والمدن- الحديث رقم: (853).

3- رواه البخاري في كتاب: الشركةº باب: هل يقرع في القسمة- الحديث رقم: (236) ورواه الترمذي في كتاب الفتن- الحديث رقم: (2174).

4- رواه البخاري في صحيحه - كتاب اللباسº باب: قول الله - تعالى -: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده 32 {الأعراف: 32}- الحديث رقم: (2181).

5- رواه مسلم في كتاب الإيمانº باب: الإيمان شعبة وفضيلة الحياء- الحديث رقم: (35).

6- راجع صحيح مسلم- كتاب الطهارةº باب: النهي عن البول في الماء الراكد.

7- رواه الطبراني - كنز العمال- الجزء 9 - رقم الحديث: (365).

8- للاستزاده في هذا الجانب: راجع- الصحة الوقائية في منظور الإسلامº دراسة بقلم: ممدوح إبراهيم الطنطاوي (كاتب المقال) منشورة بمجلة الجندي المسلم- العدد 115 - صفحة (30-33) ربيع الأول 1424ه.

9- رواه البخاري في كتاب الحرث والمزارعة، باب: فضل الزرع والغرس إذا أُكل منه- حديث رقم: (2320)، كما أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب:فضل الغرس والزرع- الحديث رقم: (1552).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply