على هامش كتاب قتل الشهود


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ارتبطت الحرب العسكرية منذ الأمد البعيد بالجانب الدعائي والإعلامي، وشكلت \"الدعاية\" جزءاً رئيساً من الصراع النفسي المتبادل بين الأطراف المتحاربة، وقد تطور مفهوم الحرب النفسية بدرجة كبيرة في القرن الأخير، إذ برز دور المذياع في الحرب العالمية الثانية، ووظف المعسكر الغربي الدعاية والإعلام الثقافي ضد المعسكر الشيوعي \"الحرب الثقافية الباردة\"، الأمر الذي كان له أثر كبير في ترويج النموذج الثقافي الغربي في الشرق وفي المجتمعات الشيوعية. وشهدت حرب الخليج الثانية دوراً ملحوظاً للإعلام، وتميزت بهذا الخصوص قناة السي إن إن، ونالت شهرة عالمية.

إلا أن النظر إلى دور الإعلام في الحرب تطور بشكل ملحوظ، خاصة في مراكز الخبرة الأمريكية، إذ صدرت عدة دراسة عن مؤسسة راند (1999) تتحدث عن الحرب الافتراضية، وتؤكد على أهمية الإعلام المتزايدة في الحروب، إلى درجة باتت تعتبر فيها هذه الدراسة - وغيرها من الدراسات - أن الأهمية القصوى في الحروب هي للإعلام وليس للجيوش، وأن مفهوم الحرب قد تغير، وأن الدول الآن قد لا تحتاج إلا إلى قوات تكتيكية محدودة على الأرض، وتحتاج في المقابل إلى دعاية إعلامية كبرى لخلق قناعات لدى الخصم تعمل على وصوله إلى مرحلة الانهيار النفسي، والقبول بالدعاية التي تروج ضده.

هذه المفاهيم الجديدة في الإعلام والدعاية في الحروب وجدت تطبيقاً حيوياً وكبيراً لها في حرب العراق الأخيرة، والتي وظفت الإدارة الأمريكية جزءاً كبيراً من جهودها في مجال الدعاية والإعلام، وعملت على تقييد الحريات الإعلامية في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية والحليفة، للسيطرة على الصورة المنقولة والمبثوثة، والمعلومات المتداولة، وصولاً إلى التحكم بالمعلومات، الأمر الذي يؤثر بدرجة كبيرة على معنويات الخصم، وعلى الرأي العام العربي والغربي.

في هذا السياق ظهر مفهوم \"الصحفي المندمج\"، إذ اشترطت الإدارة الأمريكية على وسائل الإعلام الأمريكية والأخرى تحديد أسماء المراسلين، ومرافقتهم للجيش الأمريكي، ومراقبة التقارير التي تبث، الأمر الذي يعني منطقياً تحول الصحفي والإعلامي إلى جزء من الدعاية والعسكر الأمريكي.

لكن المشروع الأمريكي اصطدم بدور بعض القنوات العربية كالجزيرة وغيرها، والتي خرجت على النص الإعلامي الأمريكي، وخربت جزءاً كبيراً من الدعاية الأمريكية، الأمر الذي استفز الإدارة الأمريكية، ودفع بها إلى مهاجمة الجزيرة، وأدى الأمر في النهاية إلى قتل طارق أيوب وعدد من الصحفيين \"غير المندمجين\" في قوات التحالف، لكن بقي الدور الذي أدته الجزيرة تاريخياً ومميزاً إلى درجة وصف بها عدد خبراء الإعلام الغربي حرب العراق الأخيرة بأنها حرب الفضائيات، وبالتحديد حرب \"قناة الجزيرة\".

السجال الفكري والتحليلي حول دور الإعلام في الحرب الأخيرة انعكس بشكل رائع ومتقن بكتاب الزميل باسل النيرب \"قتل الشهود.. الاغتيالات الأمريكية للصورة الإعلامية العربية\" (الصادر مؤخراً عن دار غيناء للنشر والتوزيع)، والذي يبرز فيه من خلال منهج متسلسل قصصي مبني على شهادات الإعلاميين الذين غطوا الحرب الأخيرة، والممارسة الأمريكية ضد الحرية الإعلامية وبشكل خاص العربية.

قتل الشهود يقرأ بأكثر من دلالة ومعنىº فهو قتل للإعلامي العربي الذي نقل الحرب بأمانة وموضوعية، فدفع ثمن ذلك من حياته (طارق أيوب نموذجاً)، وهو قتل للشهادة الإعلامية الحرة، وفرض رقابة صارمة على الإعلام، وهو قتل للشهادة الجريئة على جرائم الاحتلال ضد المدنيين والأبرياء العزل خلافاً للدعاية الأمريكية، وللأسحلة الذكية (التي ثبت أنها غبية بالوجه الشرعي القاطع)!.

\"قتل الشهود\" كتاب وثائقي متميز لباسل النيرب، يؤكد على تقارير المنظمات الدولية \"مراسلون بلا حدود\"، والعفو الدولية، وغيرهاº على الانتهاكات الأمريكية لحقوق الصحفيين والإعلاميين، انتهاك لحقهم في الممارسة الإعلامية الحرة، وانتهاك لحرمة حياتهم باستهداف قتلهم منعاً لانتشار الشهادة الإعلامية الصحيحة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply