بسم الله الرحمن الرحيم
الكثير من الكتاب الذين تفرغوا للنكاية بالهيئات هم مثل تلك البكتيريا المضرة التي تنتظر الجو المناشب لتنشر بلاءها، فهم لا يقدمون رؤية محترمة، ولا نقد هادف بناء، بقدر ما يتفنون في أذية كل ما هو من مظاهر التمسك بالشريعة عقيدا وفكرا وسلوكا..
لقد رأيناهم بعد الحادي عشر من سبتمبر يشنون غارات مكثفة على المناهج لا بقصد إصلاحها، بل بقصد نزع الرؤية الإسلامية منها، ورأيناهم يشنون الغارات المتتابعة على العمل الخيري الذي يقوم به ثلة مباركة من أهل الخير لسد رمق الجوعى، ورعاية الأيتام، بحجة إمكانية استخدامها لتمويل الإرهاب، وهاهم اليوم يشنون غاراتهم الكريهة على الحسبة وأهلها بقضية لا تزال قيد التحقيق والمسائلة، ثم يهدرون كل قيمة وجهود تبذلها الهيئات إلى عبثية مضرة، فأي قلوب يحملها هؤلاء؟
إنه لم يقل أحد بأن رجال الحسبة أناس ملائكيون منزهون عن الخطأ، فهم رجال دولة يتبعون لجهاز رسمي، يحتك بالمجتمع كل دقيقة، ويمارس دورة المشهود العظيم في كل مكان، فوقوع عضو منه في خطأ أو تجاوز، أو حتى في جريمة لا يجوز أن يتعدى فيه إلى كل الجهاز، وإلا لما بقي جهاز من أجهزة الدولة بريئ من هذه التهم، وخاصة أن رجال الحسبة يتعاملون وفق نظم موضوعه من جهات الاختصاص العليا، والخطأ الواقع منهم هو مثل أي خطأ من غيرهم، إلا عند من يريد أن يستخدم هذه الأخطاء وسيلة للنكاية والتشهير، وتصفية الحسابات..
إن الهجوم على الهيئة يأتي في سياق الهجوم على \" خصوصية \" هذه البلاد، وهذه الخصوصية تزعج الكثير من متبني الفكرة الليبرالية التي تريد أن تحيل هذه البلاد إلى بلاد غربية الروح والدم، وهذا هو الخطير في مثل هذه الدعوات المضللة، فهم لم يقتنعوا حتى هذه اللحظة إلى أن هذه البلاد ليست كغيرها، فهي حاضنة الحرمين، قائمة على الشريعة، مجتمعها متدين متمسك بقيمه، مرحب بكل فئاته بأناس يحفظون عفته وطهره، ويسهرون الليالي في سبيل الضرب على من يريد إشاعة الفاحشة فيه، قد شهد لجهود رجال الحسبة فيه القاصي والداني، وخاصة في قضايا الرذيلة والمخدرات والمسكرات.. إن النقد مقبول بلاشك، ولكنه النقد الذي يأتي من اتفاق مبدئي على أهمية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معظما لهذه الشعيرة العظيمة، ثم بعد ذلك لا بأس أن تطرح الأفكار التي ترشد العمل، وتعمق من مفهوم الحسبة، وتدرس قيمة التطوير في الموارد البشرية وآليات العمل، من خلال ندوات ومجامع من أهل الرأي والفكر والعلم..
إننا بحاجة إلى دعوة معاكسة لدعوة المأفونين، دعوة إلى توسيع مفهوم الحسبة ليدخل في مجالات تتعدى الممارسات الأخلاقية، مفهوم يجعل الحسبة عملا يراقب كل فعالية من فعاليات الواقع، فلا فرق بين من يضر بالشجر، وبالأرض، ومن يضر بالقيم والأخلاق، فكلها في مفهوم الشريعة منكرا، وبحاجة إلى توسيع إطار (الأمر بالمعروف) في مقابل (النهي عن المنكر)، وإن كان كل نهي عن المنكر هو أمر بالمعروف، والعكس صحيح أيضاً..
إن الأمة الإسلامية في عصورها المتطاولة تعظم من شأن الحسبة لأنها فعل اجتماعي عام لا يقتصر على فئة من الناس، ولا يدخل في مجال دون آخر، بل هو فعل شمولي يأتي على كل منكر يمارس في الواقع، وهاهو عمر الفاروق - رضي الله عنه - يقول: (والله لو عثرت بقرة في العراق، لخشيت أن يسألني الله عنها لم لم تصلح لها الطريق)، إيمانا من الفاروق عمر - رضي الله عنه - بأن إصلاح الطريق معروف، وإفساده منكر، وكان إمام عمر النبي- صلى الله عليه وسلم - يتحسس ما يباع لينكر الغش في البيع، ويقول (من غش فليس منا)، فهل نرى توسيعا لإطار الحسبة ليأتي على جوانب حياتنا كلها، وخاصة حين يتفق الناس على أن هذا منكر، يمس الضرورات الكبرى للبشر في المجتمع الإسلامي.
كما أننا بحاجة إلى مراجعة مفاهيمنا تجاه المنكر والمعروف، حتى ننكر بعلم، ونأمر بعلم، وحتى لا يترك المجال لاجتهاد المجتهدين، من خلال ضبط مفاهيم الإنكار، ووضع الأسس الصحيحة المعتمدة على مقاصد الشريعة في الأمر والنهي، والتفريق بين مسائل الظن والاجتهاد، ومسائل القطع واليقين والإجماع، حتى يقلل من أخطاء المجتهدين الذين ينكرون المعروف، او يأمرون بالمنكر وهم لا يشعرون..والله الموفق!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد