دعوتهم ولم يستجيبوا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

السؤال

ما رأيك: لي أربع سنوات وأنا أدرس في قرية، وأرى في استجابتهم ضعف، فهل أبحث عن قرية أخرى أقيم فيها بعض المناشط الدعوية؟

 

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

أخي الحبيب: سلام الله عليك ورحمته وبركاته.

لقد قرأت رسالتك الطيبة بطيبك، المباركة بما خطته يمينك، ولا أخفيك سراً أنه انتابني شعوران متناقضان: أما الأول: فهو فرحي وسروري بأنك تعمل في حقل الدعوة إلى الله، فالدعوة إلى الله فضلها عظيم، وأجرها كبير، فهي طريق الأنبياء والمرسلين، ومن سار على نهجهم من العلماء والمصلحين عبر الأزمنة والعصور، فهنيئاً لك أن سلكت هذا الطريق القويم، فاحمد الله على هذه النعمة العظيمة، \"ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين\" [فصلت: 33].

 

أما الشعور الثاني: وهو الحزن والأسى لضعف استجابة هؤلاء الناس لك، والذين هم في أمس الحاجة إليكº لتأخذ بأيديهم إلى طريق الهداية الذي امتن الله عليك بسلوكه، فكم كنت أتمنى منك أن تسأل عن الأساليب المتنوعة والمختلفةº حتى تستطيع أن تصل إلى قلوبَهم، بدلاً من أن تسأل عن الفرار وترك الساحة للجهل والشيطان.

أخي: هل تذكرت كم جلس نبي الله نوح - عليه السلام - يدعو قومه؟ ألفاً إلا خمسين عاماً، هل تذكرت كيف كان يدعوهم؟ استمع إليه وهو يناجي ربه، فيقول: \"...رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً\" [نوح: 5]، ويقول: \"ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً\"[نوح: 8-9]، الله أكبر، الليل والنهار، الجهر والكتمان، الإسرار والإعلان، لم يترك وسيلة إلا واتخذها، ولا طريقاً إلا وسلكه، ولا باباً إلا وطرقه من أجل هداية قومه إلى الله، إنه العمل الدائم الذي لا يعرف التوقٌّف، والجهد المستمر الذي لا يعرف الانقطاع، إنه العطاء الذي لا يعرف المنع، إنه البذل الذي لا يعرف الشح، إنه الإقدام الذي لا يعرف الجبن، إنها التضحية في أسمى معانيهاº فالحياة كلها بليلها ونهارها موقوفة لله والدعوة إليه، ومع ذلك كيف كانت النتيجة؟ استمع إليه وهو يشكو بثه وحزنه إلى الله: \"فلم يزدهم دعائي إلا فراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً\"[نوح: 6-7]، بل وفوق هذا كله توعده قومه بأنه إذا لم يكف عن دعوتهم لينزلن به العقاب، فاستمع إليهم وهم يقولون له: \"لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين\"[الشعراء: 116].

 

أخي الحبيب: سرِّح طرفك، وأمعن النظر في تاريخ تلك القافلة المباركة، قافلة الأنبياء والرسل صلوات ربي وتسليماته عليهم جميعاً-، وهم يبذلون المهج والأفئدة، والدماء، والمال، والأنفس، وكل غال ونفيس، وبذله بسخاوة نفس في الدعوة إلى الله، وهداية البشر إلى طريق الهدى والنور، بكل ثقة وثبات، ويقين بنصر الله تعالى- لهم، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى أتاهم الله بالنصر المبين، تجد العجب العجاب، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى الطائف، ويحدث له ما هو معلوم للجميع، حتى دعا بهذا الدعاء المشهور، فما كانت النتيجة؟ نزل جبريل - عليه السلام - بأمر من الملك العلام - سبحانه وتعالى -- على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ملك الجبال، وقال جبريل - عليه السلام - للرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن قرأ - عليه السلام - إن الله قد سمع مقالة قومك لك، وهذا ملك الجبال قد أرسله الله لك، فأمُره بأمرك، فلو شئت أن يطبق عليهم الأخشبين- أي الجبلين العظيمين- لفعل، فماذا كان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: \"بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يوحده لا يشرك به شيئاً\" متفق عليه أخرجه البخاري(3231-7389)، ومسلم(1795) من حديث عائشة رضي الله عنها-، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول حكاية عن نبي من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه: \"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون\" البخاري(3477)، ومسلم(1792)، وصدق الله حيث قال: \"لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتٌّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ\"[التوبة: 128].

 

فيا أخي الحبيب- ليكن لك في هؤلاء الثلة المباركة من أنبياء الله ورسله الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة، فلا تترك هذه القرية وتذهب إلى غيرها، وتذكَّر دائماً قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه- عندما دفع إليه الراية يوم خيبر لفتحها: \"لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم\" متفق عليه عند البخاري(3701)، ومسلم(2406) من حديث سهل بن سعد-رضي الله عنه-.

أخي الحبيب: إذا نظرت إلى أهل الباطل من نصارى وغيرهم من أهل الكفر والإلحاد، والفسق والزندقة تجد عندهم من الصبر والجلد الشيء العظيم، من أجل نشر باطلهم وعقائدهم الفاسدة، فلزاماً على أهل الحق والخير أن يكونوا كذلك وأشدº لأنهم يدعون إلى الحق المبين، وكان سيدنا عمر رضي الله عنه- يقول: \"أعوذ بالله من عجز الثقة وجلد الفاجر\".

أخي الكريم: أرى لزاماً علي أن أنصحك بما يلي:

1- الاستمرار مع هؤلاء الناس في الدعوة إلى الله، حتى وإن كانت استجابتهم ضعيفة.

2- العمل الجاد على أن تجعل لك طلبة علم يحملون هم هذه الدعوة، حتى إذا خرجت من عندهم، كان هناك من يسد هذه الثغرة المهمة.

3- فتش في نفسكº فلعل هناك خللاً ما في أسلوب دعوتك، قد يكون السبب في عدم استجابتهم لك.

4- لا تستعجل قطف الثمار قبل الأوانº فتصاب بالحرمان.

5- أكثر من القراءة في كتاب ربنا، وسنة نبينا- صلى الله عليه وسلم -، وخصوصاً في الجوانب الدعوية.

6- الدخول في دورات تطوير الذات كالخطابة، وأساليب الإقناع والتأثير، ونحو ذلك فإنها ترفع من كفاءتك في إيصال المعاني إلى الناس.

7- عليك بالإكثار من مطالعة سير الصالحين من الأنبياء والرسل، والصحابة الكرام رضي الله عنهم- ومن سار على نهجهم من العلماء الربانيين، ولعلك تقرأ سيرة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى-º ففيها النفع الكثير.

8- عليك بالإكثار من القراءة في الكتب التي عنيت بالدعوة من حيث الطرق والأساليب.

9- عليك باستشارة أهل العلم والدعاة، ومن عندهم خبرة في هذا المجال.

10- عليك بصدق اللجوء إلى الله والتضرع إليه بالدعاء بأن ييسر أمرك، ويشرح صدرك، ويطلق لسانك، ويلهمك الحجة البالغة.

11- وأخيراً أود أن أهمس في أذنك وأقول: نحن الدعاة إلى الله أمرنا بالدعوة والتبليغ، أما استجابة الآخرين فهذا ليس من شأننا، فمن يشأ الله أن يهديه يشرح صدره للدعوة وسلوك طريقها، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيِّقاً حرجاً كأنما يصعّد في السماء، ولله الحكمة البالغة في ذلك، فما علينا إلا البلاغ المبين، وكذلك لا يشترط وليس من الضروري أن نرى ثمرة دعوتنا في القريب العاجل، أو نرى ذلك ونحن أحياء، بل قد يجنى هذه الثمار الأجيال القادمة، فكم من أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلوا وماتوا وهم لم يروا أي ثمرة لهذا الدين الجديد، ولكن أبناءهم ومن جاء بعدهم جنوا هذه الثمرة المباركة، فهذا ياسر وسمية وغيرهما - رضي الله عنهم - جميعاً- ممن قتلوا في بداية الدعوة لم يشاهدوا هذا الفتح المبين، ولم يجنوا ثمرة دعوتهم وجهادهم في سبيل الله، لكن عمار وخباب وبلال رأوا هذا كله، فليكن لنا فيهم رضوان الله عليهم جميعاً- الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، وهذه سنة الله في كونه \"وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبدِيلاً\"[الأحزاب: من الآية62]. هذا والله أعلم، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply