بسم الله الرحمن الرحيم
أعتقد أن من أهم الدروس التي ينبغي أن يعيها الدعاة المسلمون وعياً كاملاً الجهر بكلمة الحق، والدعوة لهذا الدين بكل جرأة وشجاعة، وعدم التنازل أمام أي أحد عن شيء منه، لأن هذا الدين الذي ارتضاه الله - جل وعلا - لعبادهº وحدة متكاملة، لا تقبل أنصاف الحلول، فالله يريد أن يُطَبّق شرعه كاملاً غير منقوص.
لقد كان بعض المسلمين في المرحلة المكية وهي مرحلة استضعاف يجهر بكلمة الحق، وهذا رد على الذين يحتجون بأن المرحلة التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم هي مرحلة استضعاف، وهذا يعني عندهم أنه ينبغي أن تكون الدعوة سرية خالية من الصدع بكلمة الحق ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونحن نقول لهم: إننا نتفق معكم في أن المرحلة التي يعيشها المسلمون اليوم هي مرحلة استضعاف، وأنها عظيمة الشبه بتلك المرحلة الأولى من دعوة النبي - عليه الصلاة والسلام -، التي تسمى (المرحلة المكية) بسبب حكم الجاهلية المعاصرة التي أقصت حكم الله عن الأرض في كثير من البلدان، وليس معنى ذلك أن ننكر على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصدع بكلمة الحق ومن تأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف أن الحكمة هي الجهر بالدعوة، والصدع بكلمة الحق.
وها أنا أسطر كلمات أعجبتني للأستاذ محمد قطب - حفظه الله - يقول فيها: » لقد أصبح كثير من الناس يتصورون أن الحكمة والموعظة الحسنة تعني التربيت على أخطاء الناس وانحرافاتهم، وعدم مواجهتهم بها خشية أن ينفروا من الدعوة ولا يستجيبوا لها! فمن أين جاءوا بهذا الفهم لهذا التوجيه الرباني الكريم؟ ! هل هناك من هو أكثر فهماً لهذا التوجيه الكريم من الرسل الذين وجه القول إليهم؟ فكيف فهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر المنزل إليه من ربه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؟ وكيف فهم موسى وهارون - عليهما السلام - توجيه الله لهما أن يقولا لفرعون قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى؟ فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد صدع بما أُمِرَ فقالت عنه قريش: لقد عاب آلهتنا وسفه أحلامنا، وكفر آباءنا وأجدادنا! ! وأما موسى وهارون - عليهما السلام - فقد بدآ بأن قالا: السلام على من اتبع الهدى، ولم يقولا لفرعون: السلام عليك! وفي ذلك إشارة ملحوظة إلى أن فرعون غير متبع للهدى، ثم ثنيا بأن قالا: (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى)، وفي ذلك تهديد واضح لفرعون وقومه بالعذاب الذي ينتظرهم إن هم كذبوهما، وتولوا عن الحق الذي يعرضانه عليهم.
وكان هذا هو القول اللين الذي أُمِرَا بتوجيهه إلى فرعون.
إن التلطف واجب ولكنه التلطف في إظهار الحق، وليس التلطف في إخفاء الحق.
فهذا الأخير هو الذي قال عنه - تعالى -لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (ودوا لو تدهن فيدهنون). [1]
والآن نذكر بعض المواقف والأحداث التي مرت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والتي تبين لنا كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قوالاً لكلمة الحق جاهراً بها لا يخاف في الله لومة لائم.
* موقفه - صلى الله عليه وسلم - عندما صعد إلى الصفا فجعل ينادي » يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب، فقال: » أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً! قال: » إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد « فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ ! فنزلت (تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب)[2].
* ومرة اجتمع أشراف قريش في الحجر فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا على أمر هذا الرجل قط، سفه أحلا منا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمرٍ, عظيم فبيناهم في ذلك إذ طلع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول: فعرف ذلك في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرف ذلك في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها.
فوقف ثم قال » أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح « فأخذت القوم كلمته حتى مامنهم رجل إلا وكأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً، فو الله ما كنت جهولاً.. إلخ القصة.[3]
ومن خلال هاتين القصتين نعرف مدى جهره - عليه الصلاة والسلام - بالحق ولم يكن هذا فقط خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل حتى أتباعه الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين لهم مواقف رائعة عرضوا فيها إسلامهم وبلغوا دعوتهم بكل جرأة وبكل صراحة، دون أن يحسبوا لأهل الشرك أي حساب، ومن تلك المواقف جهر ابن مسعود - رضي الله عنه - بالقرآن [4] وقصة إعلان أبي ذر لإسلامه أخرجها الطبراني، وأبو نعيم في الحلية والحاكم في المستدرك [5] وغيرها من القصص التي يطول ذكرها.
وفي الختام أسأل الله - جل وعلا - أن يهيئ لهذه الأمة علماء ربانيين يقولون كلمة الحق ويدافعون عنها ولا يخافون في الله لومة لائم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة كتاب مقومات التصور الإسلامي لسيد قطب ص 13.
(2) صحيح البخاري (4492)، مسلم (208).
(3) السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص289 290 وإسنادها حسن البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص44 45.
(4) السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 314.
(5) حياة الصحابة للكاند هلوي ج 1 ص 276.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد