بسم الله الرحمن الرحيم
كان ذلك من قرابة ربع قرن.. كنت في زيارة أحد الأصدقاء في حي العباسية مساء الخميس، وفي مهاتفة تليفونية مع صديق له سمعته يقول:
- ما تنساش.. والله... خللي ابنك يحجز لي معاكم...
واعتقدت أنه علي سفر في الغد، وأن «الحجز» منصرف إلي تذاكر السفر، ولكنه كشف لي ما لم أكن أعلم: فالأب يكلف ابنه «بفرش» مصلية «فردية» -سجادة- أو أكثر بجوار المسجد الذي يخطب فيه «الشيخ عبد الحميد كشك» خطبة الجمعة في دير الملاك بالعباسية، قبل الأذان بساعتين، أما المسجد فلا مطمع في الحصول علي مكان فيه لأنه يكون مكتظا قبل ذلك بساعة أو ساعات.
سمعتُه وعشت كلماته
واستمعت للشيخ كشك، وعشت كلماته في عشرات من الأشرطة المسجلة، فرأيته في مجال الدعوة، والوعظ والخطابة والإرشاد له تفرٌّدياته، وملامحه الفارقة التي تميزه عن آلاف من الخطباء والوعاظ:
- فهو ينطلق في خطبه من آيات القرآن الكريم، والحديث الشريف، وكان ذا قدرة فائقة علي التمثيل والاستشهاد بهما دون تعسف أو افتعال.
- وكان يربط بين الحاضر والماضي.. مستمدا ثوابت الماضي في مواجهة المواضعات، والمشكلات الحاضرة.
- وكان قديرا على استدعاء الشواهد الشعرية التراثية والأمثال والحكم لتطعيم آرائه وأطروحاته بلا تكلف، حتى ليخيل للسامع أنها ما صيغت في القديم إلا للشيخ كشك، وللمواقف التي يعرضها في الحاضر.
- وكان قديرا على تجنيد معارفه التاريخية والفقهية والعلمية والاجتماعية وغيرها، لنقض أباطيل الملاحدة، وأعداء الإسلام، والظالمين البغاة من أبناء جلدتنا.
- أما أداؤه التعبيري فكان قمة في الفصاحة الناصعة، والبيان الآسر، والتصوير الأخاذ. مع سهولة تنزهت عن الابتذال. كما كان أسلوبه صحيحا سليما لا مكان فيه لخطأ لغوي أو قاعدي.
- وكل أولئك يؤدَّي «بحنجرة» ذهبية، قادرة على التلوين، والتنويع، والمواصلة، دون افتعال أو توقف.
خطوط من حياته
ومن حق هذا الداعية العظيم أن نلقي الضوء على بعض ملامح حياته ومسيرته:
1- كان - رحمه الله - حافظا للقرآن حفظا كاملا، وعالما بأسراره، قادرا على تعمق معانيه وتفسيره، وكذلك السنة النبوية الشريفة.
2- كان يملك رصيدا ضخما من الشعر العربي، والأمثال والنصوص التراثية الرفيعة. يعينه على ذلك حافظة قوية جدا تسعفه في كل مجال.
3- كان متمكنا من علوم الدين، وخطيبا متميز الأداء، يملك ناصية البيان والبلاغة، مما مكنه من السيطرة على قلوب الملايين في الشرق والغرب.
4- له مؤلفات تعد بالعشرات، وأغلبها ملتقط من خطبه. وهذه الكتب توزع بمئات الألوف.
5- له مئات من الخطب المسجلة على «أشرطة كاسيت» عرفت طريقها إلى البلاد العربية والإسلامية، وأوروبا، والأمريكتين. وكانت سببا في إسلام كثيرين. وتركت - ومازالت تترك - آثارا عميقة جدا في نفوس الناس، وخصوصا الشباب.
6- امتُحن بالسجن بضع سنين في عهد عبد الناصر فكان مثالا للصبر والثبات.
7- ومعروف أنه تخرج في كلية أصول الدين -إحدى كليات الأزهر الشريف- وكان ترتيبه الأول على دفعته.
إنها مجرد خطوط عريضة سريعة، أهديها لأحباب الشيخ كشك - وما أكثرهم - وللذين لا يعرفونه، ولم يدركوه، ونجابه بها وزير الأوقاف الدكتور (الشيخ) محمود زقزوق الذي تولى تجريح هذا الداعية العظيم - من بضعة أسابيع- علي رءوس الأشهاد.
العُرب تعرف من أنكرتَ والعجَمُ
وأنا لا أبالغ ولا أسرف إذا قلت: إن الشيخ عبد الحميد كشك - رحمه الله - دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وأصبح شخصية عالمية، وأشهد -خلال السنوات الخمس التي قضيتها في «إسلام أباد» عاملا بالجامعة الإسلامية العالمية- أنني كنت أرى الباكستانيين في محلاتهم، وأسواقهم -وخصوصا- «أيوب ماركت»- يتحلقون حول أجهزة الكاسيت يستمعون لأشرطة الشيخ كشك. مع أن أغلبيتهم لا يفهمون اللغة العربية، ولا يتكلمون إلا «الأوردية»، وأحيانا الإنجليزية.
سألت أحدهم: أراكم مشدودين لكلمات الشيخ كشك مع أنكم لا تفهمونها?! وكان الجواب: «إننا نستمع لدفقات الروح، ونحس دفء الإيمان، ونعيش في عالم آخر مع هذه النبرات الربانية، حتى لو لم نفهم الكلمات.. أليس في هذا الكفاية»??
وما رأيته في إسلام أباد، رأيته في اسطنبول، وبعض الولايات الأمريكية، وخصوصا ولايتي «نيوجرسي» و«بنسلفانيا».
المنطق.. الزقزوقي
ومع ذلك يقف الدكتور (الشيخ) زقزوق - وزير الأوقاف المصري - في مسجد النور بالعباسية يوجه الأئمة صارخا: «... لا تقلدوا الشيخ كشك، فإن أسلوبه لا يتفق مع منهج الدعوة الإسلامية.. لأنه كان يسب الناس ويجاهر بأسمائهم على المنابر... ». وطالبهم بألا تزيد خطبة الجمعة على ربع ساعة. وهذا يحتاج منا إلى وقفة أخرى ... مع هذا المنطق الزقزوقي العجيب .
* * * * *
هذا ... وبعدها تلقيت على بريدي (الالكتروني) عددا من الرسائل موجهة إليّ من «أوقافيين» أئمة وخطباء ممن حضروا اجتماع الشيخ الدكتور محمود زقزوق، وكان توجيهه الأساسي لهم «.. لا تقلدوا الشيخ كشك، فإن أسلوبه لا يتفق مع منهج الدعوة الإسلامية لأنه كان يسب الناس، ويجاهر بأسمائهم على المنابر.. ».
وكل هذه الرسائل -على وجه التقريب- تلتقي على استهجان كلمات الشيخ الوزير. وأحدهم يقول في رسالته «.. يا وزير الأوقاف إن الشيخ كشك كان في خطبه يحمل في شدة على الظلم والظالمين الذين عاملوا شعبنا كأنه قطيع من العبيد.. فهل هذا يعد سبًا وقذفًا، ونقضًا لمنهج الدعوة الإسلامية... ?! لو صح هذا لكان علينا أن نُسقط من تاريخنا ثلاثة أرباع خطب الدعوة الإسلامية.. ».
وفي رسالة أخرى تتدفق ظرفا «.. الوزير العجيب يطلب منا ألا نقلد الشيخ كشك... وهل فينا من وهبه الله القدرة على تقليد هذا العالم الداعية العظيم... ?».
رسالة وحيدة وجهت إليّ نقدا.. يقول فيها صاحبها: «.. لقد صورت الشيخ كشك بصورة ملاك لا يخطئ، فلماذا هذا الإسراف مع أنك من دعاة الاعتدال والوسطية.. ? ».
وأقول للأخ الكريم: أنا لست في مقام التقييم الشامل للشيخ كشك، إنما أنا في مقام إنصاف عالم هاجمه الوزير على رءوس الأشهاد مع أنه بين يدي الله، وكأنه لا بواكي له. والشيخ كشك بشر له هنات وهفوات كانت تولدها حماسته، وأنا أرى أنها - في مجموعها - من قبيل اللمم.
تعلَّم من أدب النبوة
ألا إن للأموات حرمة أشد من حرمة الأحياء حتى بالنسبة لمن خالفونا في الدين.. ألا تعلم - يا وزير- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد انتصاره في بدر لم يترك جثث الكفار لتكون طعاما للوحوش، ولكنه أمر المسلمين بأن يحفروا لهم «القُلُب» جمع قليب وهو القبر الجماعي -ودفنوا فيها، وخاطب القتلى الكفار بأدب يا سيدي زقزوق- فنادي: «... يا شيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا? فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا... » فلما تعجب المسلمون كيف يتحدث إلى أموات قال: إنهم الآن أسمع لكلامي منكم.. ».
شهادة غربي غير مسلم
ولكن يشاء الله أن يأتي باحث عالم مسيحي اسمه «جيلز كيبل»- مؤلف كتاب «النبي والفرعون»، الذي ترجمه إلى العربية الأستاذ أحمد خضر-، ويعقد في كتابه فصلا من عشرين صفحة عن الشيخ كشك، و مما جاء فيه «... إنهم يستمعون لكشك في القاهرة، وفي الدار البيضاء، وفي مارسيليا، فهو نجم الدعوة الإسلامية. وقد كان لكشك بالطبع مقلدوه، ولكن لم يتوافر لأحدهم أحباله الصوتية التي لا تُضاهَى، أو ثقافته الإسلامية الواسعة، وقدرته غير العادية على الارتجال، وروحه الجسور في نقده للأنظمة الكافرة، والدكتاتورية العسكرية، ولمعاهدة السلام مع إسرائيل، ولتواطؤ الأزهر... أي أن الشيخ كشك -أعلى أصوات الإسلاميين- كان معارضا.. ».
سبقك إليها حجازي
وإنصافا للشيخ الدكتور زقزوق أقول: إنه لم يكن رائدا في التهجم على هذا الحصن الدعوي الإسلامي المتين. فقد سبقه إلى تجريح الشيخ كشك بصورة خسيسة: أحمد عبد المعطي حجازي «فيلسوف التعري». فوصف الشيخ كشك بأنه «أميّ.. أو نصف أمي. وأنه واعظ محدود الثقافة... » ثم يتساءل بسخرية مفضوحة «... لماذا لم يعين الشيخ كشك أستاذا في جامعة المنصورة، أو جامعة القاهرة... ?» الأهرام 2/6/1999.
إنه أحمد عبد المعطي حجازي... أحد «كبار» قادة الفكر «التنويري» ومن «تنويريته» أنه حمل لواء الدعوة إلى إعادة النماذج البشرية الحية لتُرسم عارية تماما في كليات الفنون، إن كنا - على حد قوله - نريد حقا أن نحرر عقولنا من الخرافة، ونعالج نفوسنا من الخوف، ونعامل أجسادنا بما هي جديرة به من اعتزاز واحترام» الأهرام 16/6/1999.
وبذلك يصبح «التنويري جدا» أحمد عبد المعطي حجازي، ووزير الأوقاف الشيخ زقزوق هما أشهر من هاجم وجرح الشيخ كشك العالم الجليل. وإن احتفظ «التنويري» حجازي بمكان السبق والريادة.
وإليك هذه الأسئلة يا وزير
ومن حقي -وحق كل عاقل- أن نتوجه بعدة أسئلة للسيد الشيخ الدكتور الوزير، منها: هل خلا الشيخ كشك -كداعية- من كل فضيلة ? ألا تعتبر -يا وزير- أن حفظ القرآن، والعلم بأسراره، والعلم بالسنة والفقه، وسلامة اللغة العربية، وحسن الإلقاء، والقدرة علي توليد المعاني.. ألا تعتبر كل أولئك من الآليات الأساسية للداعية الناجح، وكلها والحمد لله متوافرة في الشيخ كشك - رحمه الله -? يا ليتك -يا وزير- نبهت الدعاة الأوقافيين إلي تقليد الشيخ كشك في هذه المآثر والفضائل.
وإذا كان الشيخ كشك بهذا السوء الذي رأيته عليه فما سر انتشاره علي مستوي العالم كله، وكثير جدا من المعجبين به علي قدر من الوعي والثقافة تفوق ما يتباهي به كثيرون من الوزراء والقادة التنويريون في عصرنا المنكوب?
وأنا أعلم -يا وزير- وأنت أيضا تعلم -أن هناك دعاة علي مستوي رفيع جدا أُبعدوا، أو لم يعينوا أئمة وخطباء في وزارتك، لأنهم ممن يؤمنون بأن الإسلام هو الحل، وأنه دين ودولة، ومصحف وسيف، وعزة وكرامة، وجرأة في الحق لا تلين.
ثم ألا تري -يا وزير- أن الكلمة العليا في وزارتك ووزارة التربية لرجال الأمن?.. فلا تؤاخذني لأني كتبت مقالا -من بضعة أشهر- أطالب فيه -انسجاما مع الواقع واعترافا به-بأن تدمج الوزارات الثلاث في وزارة واحدة باسم «وزارة الداخلية والتربية والأوقاف».
ثم مسألة خطبة الجمعة التي تصر على ألا تزيد على ربع ساعة... ألا ترى أن ذلك ضرب من المستحيل? قسًّمها -يا وزير- واحسبها: كم دقيقة للخطبة الأولى? وكم دقيقة للخطبة الثانية? وكم دقيقة لافتتاح الخطبة? وما العقاب الذي ينتظر خطيبا نسي نفسه «فزودها» خمس دقائق?
ثم مسألة «ميكنة» الأذان التي ستكلف الدولة عشرة ملايين من الجنيهات -على الأقل- ألا ترى أن مثل هذا المبلغ يمكن أن يحل أو يساهم في حل بعض المشكلات وما أكثرها? مثل رفع المستوى المادي التثقيفي للدعاة، أو بناء وحدات سكنية لمن يستحق منهم? أو إنشاء مراكز لتحفيظ القرآن..أو... أو.. ?!
وفي النهاية أدعو الله أن يرحم الداعية العظيم الشيخ عبد الحميد كشك، كما أدعو للشيخ الدكتور زقزوق أن ينير الله بصره وبصيرته، فيرى الحق حقا، ويرزقه اتباعه، ويرى الباطل باطلا ويرزقه اجتنابه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد