بسم الله الرحمن الرحيم
1- تقرير توحيد الألوهية ببيان دلائل الربوبية:
جميع دعوات الرسل قائمة على تقرير توحيد الألوهية الذي من أجله خلق الله الثقلين (ومَا خَلَقتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعبُدُونِ)، وهو الذي اختلف الناس فيه، ووقع لديهم بسببه زيغ عظيم، ولذلك أخبرنا الله عن هدف بعث الرسل بقوله (ولَقَد بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ, رَّسُولاً أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ واجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
أما توحيد الربوبية: فأكثر الناس متفقون عليه، وهو الإقرار لله بالخلق والتدبير والملك (ولَئِن سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، فالذي يستحق العبادة وحده هو الذي يخلق ويرزق، ويحي ويميت، وينفع ويدفع، ويملك ويدبر، وقد بيّن الأنبياء لأقوامهم هذا أتم بيان، ومنهم إبراهيم (إذ قَالَ لِقَومِهِ اعبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ ذَلِكُم خَيرٌ لَّكُم إن كُنتُم تَعلَمُونَ * إنَّمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوثَاناً وتَخلُقُونَ إفكاً إنَّ الَذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَملِكُونَ لَكُم رِزقاً فَابتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزقَ واعبُدُوهُ واشكُرُوا لَهُ إلَيهِ تُرجَعُونَ) فبين أن الله هو الرزاق، فهو إذن المستحق للعبادة دون سواه ممن لا يملكون لأنفسهم - فضلاً عن غيرهم - رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً، وقال: (أَفَرَأَيتُم مَّا كُنتُم تَعبُدُونَ * أَنتُم وآبَاؤُكُمُ الأَقدَمُونَ * فَإنَّهُم عَدُوُّ لِّي إلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ * الَذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهدِينِ * والَّذِي هُوَ يُطعِمُنِي ويَسقِينِ * وإذَا مَرِضتُ فَهُوَ يَشفِينِ * والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحيِينِ...) وأمثلة ذلك كثيرة.
2 - التصريح بقصد النصيحة وأنه لا هدف للداعي إلا نفع المدعوين وأنه لايريد على ذلك حظا من الدنيا:
إن إعلان الداعية عن هذا للمدعوين من شأنه أن يلين قلوبهم، ويدعوهم إلى تأمل ما يُدعون إليه، ولقد درج على ذلك الأنبياء جميعاً، فقال نوح: (ويَا قَومِ لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مَالاً إن أَجرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ.. ) وقال هود: (يَا قَومِ لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجراً إن أَجرِيَ إلاَّ عَلَى الَذِي فَطَرَنِي) وفي سورة الشعراء ذكر الله: (ومَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ, إن أَجرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ) ذكرها عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وقال محمد - صلى الله عليه وسلم -: (قُل مَا سَأَلتُكُم مِّن أَجرٍ, فَهُوَ لَكُم إن أَجرِيَ إلاَّ عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, شَهِيدٌ).
وحكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه: (يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيطَانِ ولِياً) فهو لا يريد شيئاً من أبيه، وإنما يخاف عليه من عذاب الرحمن، فيكون ولياً للشيطان، وتأمل في العبارات التي نطق بها إبراهيم: (أخاف) و (يمسك) و (عذاب من الرحمن) تُلفها تعبر بصدق عما يكنه إبراهيم لأبيه.
3 - الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة:
وقد جاءت جلية في دعوته لأبيه وخطابه الرقيق الحاني المتدفق ليناً - وعطفاً ولطفاً، اتباعاً للحكمة التي تقرب المدعو من الدعوة وتلين قلبه للاستجابة.
4 - التشنيع على المعبودات الباطلة وعابديها:
لما بين إبراهيم لقومه دعوته، وألان لهم الخطاب، لعنهم يستجيبون، وما زادهم ذلك إلا التمادي في باطلهم، فما كان من إبراهيم إلا أن أظهر تهافت معبوداتهم وأحنق النكير عليهم، فقال: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُم لَهَا عَاكِفُونَ) فسماها تماثيل ولم ينعتها بوصف (الألوهية)، ولما ظهر له أنهم لا يعتمدون فيما فعلوا على حجة وبرهان قال لهم: (لَقَد كُنتُم أَنتُم وآبَاؤُكُم فِي ضَلالٍ, مٌّبِينٍ,) وزاد فقال: (أُفٍ,ّ لَّكُم ولِمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعقِلُونَ) ولقد برهن لهم على سفههم ما سوغ في تهكمه بتصرفاتهم حيث سألهم: (هَل يَسمَعُونَكُم إذ تَدعُونَ * أَو يَنفَعُونَكُم أَو يَضُرٌّونَ) فإن أقل ما يقال في هؤلاء المعبودين أنهم لا يسمعون كعابدين فكيف يجلبون لهم نفعاً أو يدفعون عنهم ضراً؟
5 - التذكير بنعم الله على عباده:
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ولذلك عنىَ الدعاة إلى الله بتذكير الخلق إحسان الله إليهم ليكون ذلك أدعى إلى قبول الدعوة فهذا هود يقول: (واذكُرُوا إذ جَعَلَكُم خُلَفَاءَ مِن بَعدِ قَومِ نُوحٍ, وزَادَكُم فِي الخَلقِ بَصطَةً فَاذكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ).
وقال صالح: (واذكُرُوا إذ جَعَلَكُم خُلَفَاءَ مِن بَعدِ عَادٍ, وبَوَّأَكُم فِي الأَرضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وتَنحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ولا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدِينَ) وأما إبراهيم فقال: (أَفَرَأَيتُم مَّا كُنتُم تَعبُدُونَ * أَنتُم وآبَاؤُكُمُ الأَقدَمُونَ * فَإنَّهُم عَدُوُّ لِّي إلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ * الَذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهدِينِ * والَّذِي هُوَ يُطعِمُنِي ويَسقِينِ * وإذَا مَرِضتُ فَهُوَ يَشفِينِ * والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحيِينِ * والَّذِي أَطمَعُ أَن يَغفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَومَ الدِّينِ).
6 - التذكير بأيّام الله:
ما من أمة تَخلف في الأرض إلا وتنظر في أحوال من سلف من الأمم تتبع مواطن العبرة فيها، فتستفيد من الإيجابيات، وتحذر من السلبيات، وكان أنبياء الله يذكرون أممهم بأحوال الغابرين ممن كذبوا أو آمنوا، فيذكرونهم بعاقبتهم، وينذرونهم أن يحل بهم ما حل بمن كفر من أمم الأرض، لعلهم يتعظون أو يرتدعون، ولذا قال إبراهيم لقومه: (وإن تُكَذِّبُوا فَقَد كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبلِكُم ومَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ) أي فقد كذبت أممٌ أنبياءهم فحل بهم ما تعلمون من العذاب، فإن فعلتم عوقبتم بمثل عقابهم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
7 - المناظرة والتدرج في إفحام الخصم:
قال ابن القيم في مناظرات إبراهيم: » وهو الذي فتح للأمة باب مناظرة المشركين وأهل الباطل، وكسر حججهم، وقد ذكر الله مناظرته في القرآن مع إمام المعطلين، ومناظرته مع قومه المشركين، وكسر حجج الطائفتين بأحسن مناظرة، وأقربها إلى الفهم وحصول العلم [1] » وسنذكر هنا مناظرتين وقعتا لإبراهيم، وذكرهما القرآن الكريم: - الأولى: مناظرته لعبدة النجوم قال الله - تعالى -(وإذ قَالَ إبرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصنَاماً آلِهَةً إنِّي أَرَاكَ وقَومَكَ فِي ضَلالٍ, مٌّبِينٍ, * وكَذَلِكَ نُرِي إبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ والأَرضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأَى كَوكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبٌّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّم يَهدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَومِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكبَرُ فَلَمَّا أَفَلَت قَالَ يَا قَومِ إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشرِكُونَ * إنِّي وجَّهتُ وجهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأَرضَ حَنِيفاً ومَا أَنَا مِنَ المُشرِكِينَ * وحَاجَّهُ قَومُهُ قَالَ أَتُحَاجٌّونِّي فِي اللَّهِ وقَد هَدَانِ)... الآية إلى قوله (وتِلكَ حُجَّتُنَا آتَينَاهَا إبرَاهِيمَ عَلَى قَومِهِ نَرفَعُ دَرَجَاتٍ, مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [*] لقد عني إبراهيم بإخوانه من الأنبياء بالتوحيد وإيضاحه، والاستدلال له أيما عناية، وسلك في سبيل بيان الحق، وتزييف الباطل كل وسيلة تؤدي إلى ذلك، ومنها هذه المناظرة التي قامت بينه وبين قومه لبيان حقيقة ما هم عليه من الضلال.
فأنكر على أبيه اتخاذ الأصنام آلهة، ولما أشرك قومه معه شدد في إعلان الفكر عليهم، وبين أن ما هم فيه ما هو إلا ضلال يبُين عن نفسه، وذلك ليثير عواطفهم، ويدفعهم إلى التفكير الجاد العميق فيما هم فيه، وكان إبراهيم قد بصره الله بالدلائل الكونية الدالة على وحدانية الله - تعالى -، فآراه آياته في ملكوته، ليعلم حقيقة التوحيد، أو ليزداد علما به، ويقينا إلى يقينه.
وأرشده إلى طريقة الاستدلال بها على المراد من العباد.
ودخل إبراهيم مع قومه الصابئة الذين يعبدون النجوم، ويقيمون لها الهياكل في الأرض، دخل معهم في مناظرة لبيان بطلان ربوبية هذه الكواكب المعبودة، ولم يشأ أن يقرر التوحيد مباشرة.
بل جعل دعوى قومه موضوع بحثه، وفرضها فرض المستدل لما لا يعتقده، ثم كر عليها بالنقض والإبطال، وكشف عن وجه الحق، فحينما أظلم الليل ورأى النجم قال: هذا ربي فرضا وتقديرا، وقال: أهذا ربي، فلما غاب عن أعينهم علم أنه مسخر ليس أمره إليه، بل إلى مدبر حكيم يصرفه كيف شاء، ثم انتقل بهم في البحث إلى كوكب هو في أعينهم أضوأ وأكبر من الأول، وهو القمر، فلما رآه قال مثل مقالته الأولى، فلما ذهب عن أعينهم تبين أنه ليس بالرب الذي يجب أن تألهه القلوب، ويضرع العباد إليه في السراء والضراء، ثم انتقل بهم إلى معبود لهم آخر أكبر جرماً من السابقين فلما أفل، قال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، فاستدل بما يعرض لها من غيرها على أنها مأمورة مسخرة بتسخير خالقها.
فإذا كانت هذه الكواكب الثلاثة في نظرهم أرفع الكواكب السيارة وأنفعها قد قضت لوازمُها بانتقاء سمات الربوبية والألوهية عنها، وأحالت أن تستوجب لنفسها حقاً في العبادة فما سواها من الكواكب أبعد من أن يكون لها حظ ما في الربوبية أو الألوهية، ولذا أعلن إبراهيم في ختام مناظرته براءته مما يزعمون من الشركاء، وأسلم وجهه لفاطر السماوات والأرض ومبدعهما، دون شريك أو ظهير، وضمَّن إعلان النتيجة الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، وهذا هو معنى (لا إله إلا الله) فإن ما فيه من البراءة من الشركاء نظير نفي الألهية الحقة عن الشركاء في كلمة التوحيد، وبهذا يكون إبراهيم قد سنَّ للدعاة إلى الله أسلوبا متميزا في دعوة المنحرفين، وذلك بالتنزل معهم بالتسليم بأباطيلهم فرضاً، ثم يرتب عليها لوازمها الباطلة، وآثارها الفاسدة، ثم يكر عليها بالنقض والإبطال، فإن الدعوة إلى الحق - كما تكون بتزيينه، وذكر محاسنه - تكون بتشويه الباطل، وذكر مساويه ومخازيه (بتصرف من مقالة الشيخ عبد الرازق عفيفي في مجلة التوعية الإسلامية عدد 6، 7).
الثانية: مناظرته للملك في قوله - تعالى - (أَلَم تَرَ إلَى الَذِي حَاجَّ إبرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَن آتَاهُ اللَّهُ المُلكَ إذ قَالَ إبرَاهِيمُ رَبِّيَ الَذِي يُحيِي ويُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحيِي وأُمِيتُ قَالَ إبرَاهِيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأتِي بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ المَغرِبِ فَبُهِتَ الَذِي كَفَرَ واللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 258].
لقد جادل الملكُ إبراهيم في ربه، وفي ذكر الرب وإضافته إلى الضمير العائد على إبراهيم تشريف لإبراهيم وإشعار بأن الله سيتولاه وينصره.
ولماذا يجادله؟ لأن الله آتاه الملك، فحمله كبره وبطره على طلب المخاصمة، ولم يكن بسبب إيثاره الحق وطلبه له.
وكان الملك قد طلب من إبراهيم - عليه السلام - أن يقيم له الدليل على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم: » ربي الذي يحيي ويميت « أى أن الدليل على وجوده هو: هذه المعجزة المتكررة الظاهرة المستترة، معجزة الحياة والموت، عندئذ قال الملك » أنا أحيي وأميت « فآتى برجلين استحقا القتل فأمضيه في أحدهما دون الآخر، فأكون قد أحييت الثاني، وأمت الأول، وهذه مكابرة صريحة، وعناد ظاهر، يعلمه كل ذي عقل، ولذلك ترك إبراهيم الخوض معه في مكابرته، وجاءه بواقعة لا يحير معها جوبا، قال: » فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب « أي إذا كنت قادراً على الإحياء والإماتة، وهما من صفات الرب، فيلزم أن يكون بمقدورك التصرف في الكون، وأن تأتي بالشمس من المغرب، عندئذ بهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين.
إن انتقال إبراهيم من دليل إلى آخر دون مناقشة لإجابة الملك الساذجة ليس عن هزيمةº لأن حجته كانت قائمة، إذ إبراهيم وكل عاقل يعلم أن المراد حقيقة الإحياء والإماتة، أما ما فعله الملك فأمر يقدر عليه كل أحد، حتى إبراهيم كان يمكن أن يقول له: إني أردت حقيقة الإحياء والإماتة، أما هذا فأنا أفعل مثله، ولكن إن قدرت على الإماتة والإحياء فأمت هذا الذي أطلقته من غير استخدام آلة وسبب، وأحي هذا الذي قتلته، فيظهر به بهت اللعين، إلا أن القوم لما كانوا أصحاب ظواهر، وكانوا لا يتأملون في حقائق المعاني خاف إبراهيم الاشتباه والالتباس عليهم، فضم إلى الحجة الأولى حجة ظاهرة، لا يكاد يقع فيها أدنى اشتباه.
وهذا الانتقال من أحسن ما يكون، لأن المحاجج إذا تكلم بكلام يدق على سامعيه فهمه، ولجأ الخصم إلى الخداع والتلبيس جاز له أن يتحول إلى كلام يدركه السامعون، وأن يأتي بأوضح مما جاء به، ليثبت ما يريد إثباته، وهذا لأن الحجج مثل الأنوار، وضم حجة إلى حجة كضم سراج إلى سراج، وهذا لا يكون إلا دليلا على ضعف أحدهما أو بطلان أثره.
8 - استثارة الخصم:
والمقصود بذلك: تحريك نفوس المدعوين، وتنبيه عقولهم، ولفت أنظارهم إلى الأمر الذي يدعوهم إليه الداعية.
لقد فعل إبراهيم ذلك حين ترك كبير الأصنام بلا هدم (فجعلهم حطاماً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون) وذلك من أجل أن تدور في أذهانهم الأسئلة التالية - من فعل هذا بآلهتنا؟ - لِم لم يدافع الصنم الكبير عن صغاره؟ وهل كان ذلك عن عجز أو عدم إدراك لما يقع حوله؟ - لِم لم يوقع الصنم.
الكبير سوءاً بمن فعل ذلك؟ ثم استشارهم مرة أخرى حينما جاؤا إليه يسألونه عمن أوقع ذلك بآلهتهم فقال: - بل فعله كبيرهم هذا، فنسكب التكسير إلى جماد لا يتحرك، ليقولوا له مباشرة: إنه لا يفعل شيئاً، وليقروا بضعف هذه الآلهة.
- ولم يكتف بذلك، بل أمرهم أن يوجهوا إليها الأسئلة إن أخبرهم بمن أوقع بها ذلك، ولذلك أجابوا بكل سذاجة: » لقد علمت ما هؤلاء ينطقون « وعند ذلك انطلق مبادرا » أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون «.
ثانياً الأساليب العلمية:
وهي كثيرة نختار منها:
1 - القدوة: لقد كان إبراهيم مثالاً يحتذى في الخير، ولذلك وصفه الله بقوله (إنَّ إبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) أي جامعا للخير، كلفه الله بأمور فقام بها خير قيام (وإذِ ابتَلَى إبرَاهِيمَ رَبٌّهُ بِكَلِمَاتٍ, فَأَتَمَّهُنَّ) وكان الجزاء: (إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً) فالسبب الذي أهله للإمامة إتمامه الكلمات التي ابتلاه ربه بها، ومن أجل ذلك أُمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - باتباع ملته (ثم أوحينا إليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا) وأُمرت هذه الأمة أن تأتسي بإبراهيم ومن معه، لكونهم قدوة (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) والأمر الذي نهينا عن الإقتداء بإبراهيم فيه استغفاره لأبيه » إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، وما أملك لك من الله من شيء « وقد تقدم ذكر بعض من صفات هذا النبي الكريم وأساليبه وأعماله وما كان به قدوة للمصلحين من بعده (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه).
2 - البداءة بالأهم: بدأ إبراهيم بالدعوة إلى توحيد العبادة، وهو أهم ما يدعي إليه، وأول ما يبدأ به (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
3 - اللين والشدة: وهذا ظهر جليا في دعوته لأبيه، وفي دعوته لقومه، فقد دعا كلا منهم باللين والاستعطاف، لعل كلامه يتخلل قلوبهم، ولينه يعطف أفئدتهم لقبول الحق الذي جاء به، ولكن ما زادهم إلا عتوا، فما كان منه إلا أن أغلظ لهم القول، وشدد اللهجة، ففي اللين قال: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعبُدُ مَا لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ ولا يُغنِي عَنكَ شَيئاً) وفي الشدة قال: (وإذ قَالَ إبرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصنَاماً آلِهَةً إنِّي أَرَاكَ وقَومَكَ فِي ضَلالٍ, مٌّبِينٍ,).
4- البراءة والمعاداة: التي تعني البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم، وهي أصل من أصول العقيدة ومن مستلزمات (لا اله إلا الله).
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: » أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله « ومفاصلة خصوم الدعوة ارتفاع بالنفس والعقيدة إلى المستوى اللائق بهما، فلا يستوي حزب الله الذى كتب الله له العزة والكرامة وحزب الشيطان الذي كتب الله له الذلة والهوان، وفيها إشعار لأولئك الخصوم بأنهم على باطل، وأن الأمر ما وصل بالداعية إلى المقاطعة إلا لحق يعتنقه ويدعو إليه، فيكون ذلك ردعا لهم عما هم فيه.
وفيها قطع لآمال أعداء الدعوة في الحصول على تنازلات من الدعاة، يستدرجونهم بها.
وقد قال إبراهيم لأبيه حين استكنف واستكبر: (واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي... ) وجعله الله في براءته من المشركين قدوة، فقال: (قَد كَانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذ قَالُوا لِقَومِهِم إنَّا بُرَآءُ مِنكُم ومِمَّا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرنَا بِكُم وبَدَا بَينَنَا وبَينَكُمُ العَدَاوَةُ والبَغضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللَّهِ وحدَهُ إلاَّ قَولَ إبرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَستَغفِرَنَّ لَكَ ومَا أَملِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيءٍ, رَّبَّنَا عَلَيكَ تَوَكَّلنَا وإلَيكَ أَنَبنَا وإلَيكَ المَصِيرُ).
وقد اشتملت هذه الآية على أمور نوجزها فيما يلي: - أن البراءة قائمة على الإيمان بالله فمن كان مؤمنا بالله أحب في الله.
- أنها نهج الأنبياء، فمن أراد النجاة فليلحق بركابهم، ويستن بهديهم.
- أن البراءة ليست من أشخاصهم فحسب، بل ومن آلهتهم، وأفكارهم، ومذاهبهم.
- أنها مستمرة علنية، وليست مجرد شعور قلبي إلا عند الضرورة.
- أنها مما اتفقت عليه الشرائع، وليست لهذه الأمة الخاتمة فحسب.
- أن دعامتها التوكل على الله والدعاء كما ذكر في ختام الآية (رَّبَّنَا عَلَيكَ تَوَكَّلنَا وإلَيكَ أَنَبنَا وإلَيكَ المَصِيرُ).
- أنه لا فرق في البراء بين قريب أو بعيد مادام قد وحد بينهم كفر أو شرك.
5 - الدعاء والتضرع: وهو السلاح الذي لا يحق للمؤمن أن يسير في ركاب الحياة بدونه، وقد امتدح الله خليله بدعائه فقال: (إنَّ إبرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مٌّنِيبٌ) وقد تقدم معنى (الأواه)، ولذا تل أن نجد موطنا تذكر فيه دعوة إبراهيم إلا ويذكر معها جانب من تضرعه ودعائه ومن ذلك: (رَبَّنَا وابعَث فِيهِم رَسُولاً... )، (رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ)، (وتُب عَلَينَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، (واجنُبنِي وبَنِيَّ أَن نَّعبُدَ الأَصنَامَ)، (رَبِّ اجعَلنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وتَقَبَّل دُعَاءِ)، (رَبَّنَا اغفِر لِي ولِوَالِدَيَّ... )، (رَبِّ اجعَل هَذَا بَلَداً آمِناً وارزُق أَهلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ... ).
إلى آخر ما هناك من الدعوات المباركات، التي تضرّع بها إبراهيم، وخلدها القرآن، فكان قدوة في اللجوء إلى الدعاء.
6- تحطيمه للأصنام: لم يكتف إبراهيم في دعوته بالكلمة والحجة التي أبطل بها حجج الخصوم، بل عضد ذلك بعمل كبير، أقدم عليه بشجاعة وعلو همة، وهو تحطيم الأصنام التي تعلق بها قومه، حتى صرفهم تعلقهم بها عن التفكير في حقيقتها، والنظر في ماهيتها، فأراد إبراهيم أن يبين عن ذلك بالقول والفعل فكان بيانه القولي الذي شرحنا طرفا منه فيما تقدم، وكان بيانه الفعلي بما أقدم عليه من تحطيم الأصنام، وجعلها جذاذاً (إلاَّ كَبِيراً لَّهُم لَعَلَّهُم إلَيهِ يَرجِعُونَ).
والآية هذه تشير إلى مدي البيان الذي أراد إبراهيم إبلاغه لقومه، فلم تأخذه فورة التكسير بتحطيمها كلها، بل ترك كبيرها لا لعجز ولا لخوف بل لعلهم إليه يرجعون، فيحقق إبراهيم غرضه من هذا الأسلوب الدعوي الرائع، وفعلاً لقد كان ما أراده إبراهيم حين قالوا: (لَقَد عَلِمتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ) وحينها انقض عليهم كالشهاب: (أَفَتَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُم شَيئاً ولايَضُرٌّكُم * أُفٍ,ّ لَّكُم ولِمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعقِلُونَ) وتحقق لإبراهيم مراده حين قالوا: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِهَتَكُم إن كُنتُم فَاعِلِينَ) فالآلهة تحتاج إلى من ينصرها، ويدافع عنها، وتحقق له كذلك حين (رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) ولكنه التعصب الذي ردهم على أعقابهم (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِم لَقَد عَلِمتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ).
7 - الهجرة: ذكر الله - تعالى -هجرة الخليل في ثلاثة مواطن فقال: (ونَجَّينَاهُ ولُوطاً إلَى الأَرضِ الَتِي بَارَكنَا فِيهَا لِلعَالَمِينَ) وقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهدِينِ).
فهو أول من هاجر لله - كما ذكره بعض المحققين - وكانت سنة لمن بعده من الأنبياء وأتباعهم، وممن عمل بها محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه، فكانت هذه من ثمرات تلك التجربة الإبراهيمية ولونا من الإقتداء به.
إن الهجرة أسلوب يلجأ الدعاة إليه لأن أرضهم ما عادت تقبل الكلمة الطيبة، فهم يبحثون عن أرض طيبة تحمل دعوتهم، أو لأن القوم المعرضين بدأوا يناوشون الداعية، ويوصلون الأذى إليه فهو يفر بدينه من الغتن (ومَن يُهَاجِر فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِد فِي الأَرضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وسَعَةً).
(*) [والصحيح أن إبراهيم في هذا الموطن كان مناظرا لقومه لا ناظرا بنفسه ويدل على ذلك:
أ - قوله - تعالى -: (ولَقَد آتَينَا إبرَاهِيمَ رُشدَهُ مِن قَبلُ) والمراد بالقَبلية ما كان قبل النبوة على الصحيح، وأي رشد آتاه الله إبراهيم إن لم يكن موحداً مؤمنا بالله
ب - قوله - تعالى -: (ومَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ)يقتضي نفي الشرك عن إبراهيم في كل مراحل عمره السابقة
ج - أن الله ذكر هذه الحادثة بعد إنكاره على أبيه وقومه، مما يدل على المناظرة
د - أن الله - تعالى -ذكر القصة بعد أن ذكر منته على إبراهيم برؤية ملكوت السماوات والأرض ليكون من المؤمنين، ولذلك ذكر الفاء التعقيبية( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ )
ر - أن الله ذكر فيها( وحَاجَّهُ قَومُهُ )مما يدل على قيام المناظرة بينه وبينهم
و - أن الله - تعالى -ذكر في خاتمتها(وتِلكَ حُجَّتُنَا آتَينَاهَا إبرَاهِيمَ عَلَى قَومِهِ)فقال (على قومه) ولم يقل (على نفسه) وبهذا القول قال كثير من علماء السلف والخلف وهو الذي تدل عليه الأدلة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد