العجز مصدر شرور


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لو عدنا بذاكرتنا إلى الوراء وتلمّسنا الأدبيات التربوية التي كانت شائعة لدى أسلافنا لوجدنا أن هناك نوعاً من الارتياح لما يمكن أن نسميه انحسار الذات وتضاؤل المجال الحيوي لحركة الإنسان، وتجد في ثقافة أهل الزهد والعبد تحبيذاً قوياً للعزلة والصمت وتخفيض الطموحات والبعد عن الأضواء إلى أقصى حد ممكن، وأنا لا ألوم السابقين على ذلك، إذ ربما نشأت الدعوة إلى هذه المعاني في ظروف انتشرت فيها اللصوصية والنهب والسلب والجشع والأثرة والترف والإغراق في كل ما هو دنيوي، أي: أن الدعوة إلى سلوك العاجزين كانت من أجل إيجاد نوع من التوازن الاجتماعي، واستمرت تلك المعاني لتشكل في النهاية جزءاً من البنية العقلية والشعورية للأمة مع تغير الأحوال والأوضاع التي سوغت الدعوة إلى سلوكات العجز التي أشرنا إليها!

لست أميل إلى إطلاق الأحكام والنظر بعين واحدة، ولذا فإني لا أستطيع القول: إن كل حركة بركة، والقول: إن النشاط والحيوية والاندفاع لاصطياد الفرص وتحقيق النجاحات الكبرى والعلاقات الواسعة... هي دائماً أمور جيدة ومحمودة ومطلوبةº فالسلوكات لا تمدح لدينا – نحن المسلمين –º لأنها تبدو جالبة لمنفعة أو مصلحة مادية فحسب، وإنما ينظر إليها من زاوية مقاصدها، أي: النيات الدافعة إليها، ومن زاوية مشروعيتها، أي: كونها أنشطة مباحة في نظر (الفقيه)، كما ينظر إليها من منظار التوازن العام للشخصية، إذ لا يصح أن ينهمك الإنسان في عمل صالح على حساب عمل آخر عليه أن يؤديه.

 

وتأمل معي قول الله - جل وعلا -: \"ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبداً مَملُوكاً لا يَقدِرُ عَلَى شَيءٍ, وَمَن رَزَقنَاهُ مِنَّا رِزقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنهُ سِرّاً وَجَهراً هَل يَستَوُونَ الحَمدُ لِلَّهِ بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَينِ أَحَدُهُمَا أَبكَمُ لا يَقدِرُ عَلَى شَيءٍ, وَهُوَ كَلُّ عَلَى مَولاهُ أَينَمَا يُوَجِّههُ لا يَأتِ بِخَيرٍ, هَل يَستَوِي هُوَ وَمَن يَأمُرُ بِالعَدلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيمٍ,\" (النحل:76).

إن الله - جل وعلا - لم يضع في مقابل الضعيف الذي لا يقدر على شيء ذلك الرجلَ القوي الكفء واسع النشاط، وإنما وضع في مقابله الرجلَ الذي آتاه الله المال فأنفقه في الخير سراً وجهراًº كما أنه لم يضع في مقابل الأبكم الرجل المنطيق البليغ الذي يسحر الناس ببيانه، وإنما وضع في مقابله رجلاً فصيحاً يأمر بلزوم الطريق المستقيم، وهو مع ذلك مستقيم على طريق الهداية، وهكذا فالقوة مقيدة بالخلق والمشروعية،

 

إذا اتضح هذا أمكننا أن ننتقل إلى التساؤل التالي: هل الأضرار الفردية والاجتماعية التي تحدث بسبب الانحسار والتكاسل والتقاعس والعجز أكبر، أم الأضرار التي تحدث نتيجة الحركة والفاعلية والجدية والطموحات المديدة..؟

بعد أخذ الملحظ السابق بعين الاعتبار، والأخذ بالاعتبار أيضاً الأوضاع والأحوال التي يعيش فيها المسلمون، يمكن القول: إن الأضرار والشرور التي تترتب على العجز وقلة الحيلة.. أكبر بكثير من الأضرار التي تترتب على الفاعلية والنشاط، ويحضرني في هذا المقام ما ذكره ابن خلدون في (مقدمته) عن مزايا الأجير الماهر الذي تنقصه الأمانة، والصانع الأمين الذي لا مهارة لديه ولا إنتاجية جيدة، فقد رأى الرجل أن الشخص الذي تستأجره إذا كان ماهراً في عمله، فإن في الإمكان أن تجد بعض الطرق التي تحول إلى حد بعيد بينه وبين السرقة والخيانة، وبذلك يمكن أن تنتفع به، أما الأجير غير الماهر فإنك لا تدري كيف ستنتفع به، وحينئذ فلن تستفيد أيضاً من أمانته.

 

وهكذا فالإنسان المعطاء المتحرك المنتج يمكن توجيهه، ويمكن أحياناً الأخذ على يديه، كما يمكن وضعه ضمن سياق تنظيمي يحد من الأضرار التي يمكن أن يسببها لنفسه أو لغيره بسبب عدم التزامه، أما الإنسان الكَلٌّ المحطم العاجز، فإن وجوده ضمن مجموعة قد يغريها بالتكاسل والتسيب، بالإضافة إلى أن ما يرجى من وراء عمله يظل قليلاً أو معدوماً، ومع ذلك فإن هذا الحكم ليس مطلقاً، ولا ينطبق على كل أحد، ولكل واحد منا أن يتأمل في أوضاعه الخاصة، ويتخذ القرار المناسب، لكن يمكن القول مع ذلك: إن هذه الرؤية تتسم بقدر كبير من القابلية للتعميم على كثير من الناس.

 

روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: \"إلى الله أشكو جَلَد الفاجر وعجز الثقة\"، وتلك الشكوى من ذلك الرجل العظيم تعبير عن وجه خطير من وجوه الخلل في حياتنا الاجتماعية، حيث يسيطر في كثير من الأحيان على الحياة العامة أولو القوة والتفوق والنشاط والكفاءة، فيوجهونها توجيهاً سيئاً ومدمراًº وحيث يتوارى الثقات المؤتمنون على عقيدة الأمة ومصالحها بسبب عجزهم وكسلهم وفوضويتهم وقلة خبرتهم وضعف كفاءتهم!

 

إذا تأملت في الشرور والمفاسد التي يجرها عجز العاجزين على أنفسهم ومجتمعاتهم لوجدت أنها كثيرة، ولأمكنك أن تعد منها الآتي:

 

- انتشار مشاعر الإحباط وانسداد الآفاق، وذلك لأن إحساس المرء بالدونية والعجز عن القيام بما يقوم به أقرانه يُربك وعيه ويفقده ثقته بنفسه، ولو أننا استطعنا قراءة أفكار أولئك العاجزين وانطباعاتهم عن أنفسهم لوجدنا أنهم يعتقدون بأنهم أشخاص لا أهمية لهم ولا قيمة، وأن نصيبهم من الحمق والضعف العقلي ليس قليلاً، وكثيراً ما تأتي الوقائع وشواهد الأحوال لتزيد في محنتهم، ولتؤكد صدق الصور التي كوَّنوها عن أنفسهم، والنتيجة لكل ذلك هي العزوف عن المحاولة، وانقطاع الرجاء من حدوث أي تقدم.

- الحسد وسيطرة روح الانتقام، حيث يتصور الشخص الذي يشعر بالعجز والضعف أن ما هو فيه بسبب ظلم الآخرين له أو تخليهم عنه، ولذا فإن صدره يغلي بالحقد، ويتمنى أن ينزل بالآخرين مصائب لا نهاية لها!

 

- سلوك سبل الاحتيال والكذب والخداع بوصفها وسائل للخروج من الأزمات التي تحل بمشلولي الحركة وضعيفي الكفاءة والقدرة، وبوصفها وسائل لتوسيع المجال الحيوي الذي توفره عادة اللياقة العامة، وهذا واضح لدى العديد من الشعوب الإسلامية التي صار الفقر فيها عبارة عن وباء مستوطن.

- انهيار البيئة الطبيعية، حيث إن الأرض التي نعيش عليها لا تحافظ على قدرتها على العطاء إلا من خلال العناية المستمرة، وحين يتقاعس الناس عن القيام بذلك، فإنها تتآكل يوماً بعد يوم كما يتآكل كل منزل هجره أهله، وكفوا عن صيانته، وقل مثل هذا في حياتنا الاجتماعية.

- هيمنة الأعداء وطمع المنافسين، حيث يغري العجز والضعف الأعداء بالتسلط والعدوان، وهذا بدوره يجعل الناس يشعرون بأنهم مقهورون مغلوبون، وهذا ما تعاني منه أمة الإسلام منذ أمد ليس بالقصير!

- نحن في عصر التنافس الأممي، فلا يكفي أن تكون على الطريق الصحيح، بل لا بد من أن تسير فيه بجد وإلا داسك الآخرون، ونظراً لانتشار الظلم والفساد واستخدام القوة والنفوذ، بالإضافة إلى تدني مستوى الوازع الخلقي لدى كثير من الأشخاص وكثير من الأمم أيضاً، فإن السيطرة والقدرة على الاستمرار لم تعد ملكاً للأصلح، وإنما للأنجح والأقوى، والمطلوب من مسلم اليوم أن يكون بحق الأصلح والأنجح حتى يستطيع القيام بحمل رسالة الإسلام وعيش عصره بجدارة.

 

إن هناك ضرورة ملحة لأن ننشر ثقافة التخلص من الوهن والانحسار والقعود عن احتلال المواقع التي نستحقها، والتي تليق بنا، وأول ما علينا أن نقوم به في عملية نشر تلك الثقافة، هو: تنبيه الناس إلى مخاطر ضعف الإنتاجية، فنحن أمة تعاني من أشكال عديدة من التخلف ولا سيما في المجال التقني والصناعي، ولا خلاص لنا من هذا إلا بارتفاع كبير في نسبة الأفراد القادرين على مساعدة الضعفاء وسد الثغرات ورفع السوية العامة للأمة.

نحن نريد أن نتخلص من الحياة المحفوفة بالضرورات، وهذا لا يكون من غير أن نمتلك جرأة كجرأة البحّار، وأن نمتلك الإرادة الماضية التي لا ترى في الحصول على هدف سوى نقطة انطلاق صوب أهداف جديدة.

 

إنه مهما شعرنا بعدم تكافؤ الفرص، ومهما شعرنا بوجود ظلم اجتماعي فاقع، فإن علينا أن نحافظ على اعتقادنا بأنه ستظل هناك أبواب مفتوحة يلج منها ذوو الموهبة والجد والمثابرة، وإن الله - جل وعلا -  لا يحرم أي إنسان من ثمار عمله وكفاحه، ولو كان ذلك الإنسان غير مسلم.

 

إن الإنسان العاجز لا يبحث عن الفرصة التي يحقق من خلالها ذاته، وإذا جاءته الفرصة لم يستطع التعرف عليهاº لأن وضعيته العقلية والنفسية وخبراته الضحلة تلقي باستمرار بالأغشية على بصره وبصيرته، فلا يرى ما يراه غيره!

أما الأكفاء الجادون ذوو الهمم العالية، فإنهم لا يستفيدون من الفرص المتاحة فحسب، ولكنهم باجتهادهم يوجدون الفرص، ويشكِّلون الظروف التي تخدمهم وتساعدهم، وقد علَّمنا نبينا _ صلى الله عليه وسلم _ أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وأن اليد العليا خير من اليد السفلى، كما أنه كان يستعيذ من العجز والكسل والجبن والبخل وقهر الرجال، وهي أدواء تحل بالإنسان حيث تتقاصر مفاهيمه عن إدراك طبيعة التكليف الرباني وطبيعة متطلبات العيش في زمان مثل زماننا.

 

هذا ما أردت قوله في هذا الكتاب، وهو جهد المقلّ الكليل، لكن أسأل الله  - جل وعلا -  أن يبارك فيه، وأن ينفع به المسلمين إنه وليٌّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply