بسم الله الرحمن الرحيم
تختلف أحوال الدعاة إلى الله في أداء مهمتهم، فبينما يكون بعضهم: خبيراً بجوهر الموضوع، ملماً بأطرافه، محسناً للأداء والتعبير عما أراد، منسقاً لنقاط الموضوع، مقدماً منها ما يجب أن يقدم، مراعياً لظروف السامعين وأحوالهم، يكون البعض الآخر محسناً في بعض النواحي دون بعض. وقد خلق الله الإنسان مختاراً، وأودع فيه غريزة حب الاستطلاع، وطبعه على النفرة من النقص، والفرار منه، والرغبة في الدرجات العليا، وطلب المزيد مما ينهض به في حياته، ويرفع مستواه، وجعل فيه استعداداً للتأثر بما يرى ويسمع ومحاكاة ما يجده في بيئته من الخير، اللهم إلا من مُسخت فطرته، وانسلخ مما هو الأصل في إنسانيته. وخير طريق يحتذيه الدعاة في القيام بمهمتهم، وأمثل منهاج يسلكونه في استمالة قلوب الناس إلى الخير، والأعذار إلى من لم يستجب للحق بعد بيان الحجة، وإقامة البرهان هو طريق الرسل، عليهم الصلاة والسلام، ومنهاجهم في دعوتهم إلى الله بقولهم المفصل وسيرتهم الحميدة. وفيما يلي، إلمامة من سيرة رسول الله وخليله إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. كان إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مثلاً أعلى في صدق اللهجة، والإيمان بما يدعو إليه من التوحيد، وشرائع الإسلام، والتصديق به على وجه اطمأنت به نفسه، ورسخ في سويداء قلبه، وقد أثنى الله عليه بذلك في محكم كتابه في مطلع الحديث عنه حينما قام يدعو أباه إلى التوحيد، فقال: \"واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبيا\" (سورة مريم، الآية: 41 ) - فعلى الداعي إلى الحق أن يكون مؤمناً به، مخلصاً لما يدعو إليه، صادق اللهجة فيه، و إلا انكشف سره، وافتضح أمره، فإن ثياب الزور تشف عما وراءها، وعند ذلك يكون وبالاً على الدعوة. - بدأ إبراهيم الخليل بأبيه في الدعوة إلى التوحيد، فإنه أقرب الناس إليه، وألصقهم به، فكان أولى بمعروفه، وبره، وإحسانه، وإلى جانب ذلك يكون ردءاً له إذا استجاب لدعوته، وظهراً له يحميه بدافع أخوة الإيمان، وعصبية النسب. قال (تعالى) في وصفه لإبراهيم في دعوته: \"يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً\" (سورة مريم، الآية: 42) وقد تلطف معه في الدعوة، فذكره بما بينهما من الرحم، ووشائج النسب، استمالة لقلبه، وتنبيهاً له إلى أنه لو كذب الناس جميعاً ما طابت نفسه بالكذب عليه، وأنه لو غشهم جميعاً لم يكن منه إلا النصح له لما بينهما من أواصر القربى والنسب. - وبدأ دعوته لأبيه بالتوحيد الذي هو أصل الدين، وجوهر الشرائع السماوية، وعليه تقوم فروع الإسلام، وبه صلاح القلب، وبصلاحه تصلح سائر الجوارح، وتستقيم أحوالها. \" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب \". وسلك في دعوته إلى التوحيد طريق الاستدلال عليه بأن ما يعبده أبوه وقومه لا يسمعهم إذا دعوه لكشف غمة أو تفريج كربة، ولا يراهم إذ عبدوه، وتضرعوا إليه، ولا يجلب لهم نفعاً، ولا يدفع عنهم ضراً، وإذا كان لا يرجى نفعه، ولا يُخشى بأسه، فكيف يستحق أن يعبد أو يتقرب إليه؟!! وبذلك أقام عليهم الحجة، وقطع عذرهم. - فيجب على من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر أن يقتفي أثر إبراهيم الخليل في دعوته، فيتلطف مع من يدعوهم، ويسوسهم حسب ما تقتضيه أحوالهم، ويبدأ بأقرب الناس إليه، وأولاهم بإرشاده، ويقدم الإرشاد إلى عقيدة التوحيد، ويركز الحديث فيها، ويقيم على ذلك الدليل ليقنعهم بالحجة، ويسقط أعذارهم. - ادعى إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، أن الله آتاه من العلم ما لم يؤت الناس من حوله، ويمقتونه من أجله، بل ادعى ذلك ليلفت النظر إلى وجوب الإصغاء إليه، واتباعه فيما جاء به من الحق المبين، ليهديهم به إلى الصراط المستقيم. قال – تعالى – في وصفه لإبراهيم في دعوته: \"يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً\" (سورة مريم، الآية 43) - نهى إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أباه عن طاعة الشيطان في وسوسته واتباعه فيما يسوله، ويزينه له من الشرك بالله، وسائر المنكرات، فإن طاعته له، وإسلام قياده إليه عبادة له من دون الله، ونبه أباه إلى عصيان الشيطان لربه، وتمرده عليه، وإذن فليس على هدى في وسوسته، ولا يزين للناس إلا ما هو شر وضلال. قال (تعالى) في وصف دعوة خليله: \"يا أبت لا تعبد الشيطان\" (سورة مريم، الآية: 44) فعلى الداعية إلى الحق أن يكشف الغطاء عن معنى العبادة، ويزيدها إيضاحاً حماية لعقيدة التوحيد، وبياناً لأصولها، ويستعمل أسلوب التنفير من عبادة غير الله اقتداء بخليل الرحمن، عليه الصلاة والسلام. - أنذر إبراهيم أباه إنذار المتلطف معه، المشفق عليه، بأنه يخشى عليه مغبة شركه، وعاقبة عبادته للشيطان وطاعته له، فيعذبه الله على ذلك، ولا يجد ممن تولاهم بالعبادة من يدفع عنه بأس الله وعذابه. قال (تعالى) في وصف إبراهيم دعوته: \"يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً\" (سورة مريم، الآية: 45) - فعلى الداعية أن يستعمل أسلوب الإنذار، والتخويف من سوء العواقب، والتذكير بعذاب الله، وأليم عقابه يوم يتبرأ دعاة السوء ممن غرروا بهم، ويتمنى المخدعون بزخرف القول أن لو عادوا إلى الدنيا، فيتبرأوا من دعاة السوء كما تبرأوا منهم يوم القيامة، وأنى لهم ذلك؟ لا تأثير للدعوة إلى الحق وإن كانت صادقة إلا إذا وجدت آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، وفطرة سليمة لم تفسدها الأهواء، ولذا لم يستجب لإبراهيم أبوه، بل أنذره لئن لم ينته ليرجمنه، وأمره بهجره ملياً، فصبر إبراهيم على أذاه، وقابل سيئته بالحسنة ن وقال له: \"سلام عليك سأستغفر لك ربي\" (سورة مريم، الآية: 47) واعتزلهم وما يدعون من دون الله، بعداً عن الفتنة، إذ لم يستطع القضاء عليها، وأملاً في أن يجد لدعوته أرضاً خصبة، فوهب الله له: إسحاق ويعقوب، وجعل كلاً منهما نبياً، جزاء وفاقاً بصدقه في الدعوة، وإخلاصه فيها، وصبره على الأذى في سبيل نشرها، وهجره للشرك وأهله، اتقاء للشر، وبعداً عن مواطنه ومظاهره. قال الله (تعالى): \"قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم\" (سورة مريم، الآية: 46) فعلى الدعاة أن يتذرعوا بالصبر، وسعة الصدر، وأن يقابلوا السيئة بالحسنة، وأن لا ينتقموا لأنفسهم ما استطاعوا إلى العفو سبيلاً، لكن إذا انتهكت حرمات الشريعة انتصفوا لها، وأخذوا على أيدي العابثين، وعليهم أن يهجروا الشر وأهله، إذا لم يمكنهم إزالته أو تخفيفه، خشية أن تصيبهم الفتنة، أو يعمهم البلاء، أو تكون مخالطتهم حجة عليهم، أو معرة لهم، وذريعة للنيل منهم، وعدم الاستماع لنصائحهم، وعليهم أن يتحروا المجالس التي يرجى فيها قول الحق، والله الموفق. نقلا من كتاب مذكرة التوحيد للشيخ عبد الرزاق عفيفي طبعة دار الوطن للنشر
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد