بسم الله الرحمن الرحيم
الفتن آثارها والوقاية منها:
شراك الفتنة في مخالفة السنة:
سمي الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ردّ الشيء الواحد من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيغاً، فقال: «نظرت في المصحف، فوجدت طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث وثلاثين موضعاً»، ثم جعل يتلو: {فَليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ}، وجعل يكررها ويقول: «وما الفتنة؟: الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم}»(1).
معنى الفتنة:
قال ابن بطة - رحمه الله -: «فإذا سمع أحدكم حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه العلماء واحتج به الأئمة العقلاء، فلا يعارضه برأيه وهوى نفسه فيصيبه ما توعده الله - عز وجل - به، فإنه قال – تعالى -: {فَليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وهل تدري ما الفتنة هاهنا؟ هي والله الشرك بالله العظيم، الكفر بعد الإيمان، فإن الله - عز وجل - قال: {وَقَاتِلُوهُم حَتَّى لا تَكُونَ فِتنَةٌ} (البقرة: الآية 193). يقول: «حتى لا يكون شرك، فإنه قال – تعالى -: {وَاقتُلُوهُم حَيثُ ثَقِفتُمُوهُم وَأَخرِجُوهُم مِن حَيثُ أَخرَجُوكُم وَالفِتنَةُ أَشَدٌّ مِنَ القَتلِ} (البقرة: الآية 190).
يقول: «الشرك بالله أشد من قتلكم لهم، ثم قال: قال - عز وجل -:{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِع غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصلِهِ جَهَّنَمَ وَسَاءَت مَصِيراً} (النساء: الآية 151)(2).
الحذر من التعرض للنسافات:
قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: «إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته، كما ينسف السيل الدمن».
كم من موقد للفتنة وهو لا يشعر:
قيل للحسن البصري: «يا أبا سعيد: أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب، إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه؟ قال: يا ابن أخي: كم يداً عقرت الناقة؟ قلت: يد واحدة، قال: أليس قد هلك القوم جميعاً برضاهم وتماليهم»(3).
ما أحسن الحلم والأناة وترك العجلة:
قال قتادة بن دعامة السدوسي: «قد رأينا والله أقواماً يسرعون إلى الفتن وينـزعون فيها، وأمسك أقوام عن ذلك هيبة لله ومخافة منه، فلما انكشفت، إذا الذين أمسكوا أطيب نفساً، وأثلج صدوراً، وأخف ظهوراً من الذين أسرعوا إليها وينزعون فيها، وصارت أعمال أولئك حزازات على قلوبهم كلما ذكروها، وأيم الله! لو أن الناس كانوا يعرفون منها إذ أقبلت ما عرفوا منها إذ أدبرت لعقل فيها جيل من الناس كثير».
الفتن إذا أقبلت لا يعرفها إلا الخبراء، فكن حذراً من الوقوع في الفخ:
قال الحسن البصري: «الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل»(4).
صاحب القلب المريض ينكشف عند الغبرة:
في وقت الرخاء والأمن تختلط الصفوف، ويصعب التمييز، فإذا وقعت الشدائد ونزلت الفتن اتضح الناس على حقيقتهم، كمثل المصدور عند صفاء الجو يختلط مع الأصحاء ولا ينكشف أمره إلا عند الغبرة، قال تعالى: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطلِعَكُم عَلَى الغَيبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجتَبِي مِن رُسُلِهِ مَا يَشَاءُ}.
وفي الحديث الصحيح «تعرض الفتن على القلوب كالحصير، عوداً عوداً، فأي قلبٍ, أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً، كالكوز مُجَخِّياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه»(5).
الفتن جرافة ينجو منها السيد:
قال حذيفة - رضي الله عنه -: «إن الفتنة وكلت بثلاثة: بإلحاد النحرير الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيد، فأما هذان فتبطحهما وجوههما، وأما السيد فتبحثه، حتى تبلو ما عنده».
من أساليب الوقاية من الفتن الحجر على السفيه:
عن النٌّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ, - رَضِي اللَّهُ عَنهُمَا - يَقُولُ: قَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ المُدهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَومٍ, استَهَمُوا سَفِينَةً فَصَارَ بَعضُهُم فِي أَسفَلِهَا وَصَارَ بَعضُهُم فِي أَعلاهَا، فَكَانَ الَّذِين فِي أَسفَلِهَا يَمُرٌّونَ بِالمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعلاهَا فَتَأَذَّوا بِهِ، فَأَخَذَ فَأسًا فَجَعَلَ يَنقُرُ أَسفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيتُم بِي وَلا بُدَّ لِي مِنَ المَاءِ، فَإِن أَخَذُوا عَلَى يَدَيهِ أَنجَوهُ وَنَجَّوا أَنفُسَهُم، وَإِن تَرَكُوهُ أَهلَكُوهُ وَأَهلَكُوا أَنفُسَهُم»(6).
وكان النعمان بن بشير يقول: «خذوا على أيدي سفهائكم قبل أن تهلكوا»(7).
-------------------------------------------------------------
(1) الصارم المسلول على شاتم الرسول /56.
(2) الإبانة 1 / 268 - 269.
(3) الزهد للإمام أحمد 289.
(4) تاريخ البخاري الكبير ج 2 / ق 2 / 322.
(5) صحيح مسلم 1 / 89، وقوله: أسود مراداً، أي شدة البياض في سواد. وقوله: مجخياً، أي منكوساً. وفي زهد ابن المبارك 504 قول لعلي رضي الله عنه يقرب من هذا الحديث.
(6) صحيح البخاري / كتاب الشهادات.
(7) الزهد لابن المبارك 475.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد