بسم الله الرحمن الرحيم
تعاني الدعوة الإسلامية أزمة حقيقية في قلة الدعاة المؤهلين المؤثِّرين، وعلى الرغم من محاولات بعض البلاد العربية حشو جميع المساجد بالأئمة، فإننا نلاحظ أن أغلبيتهم غير مجدين، فالمحصول العلمي قليل، والأسلوب ركيك، والقدرة على استجاشة مشاعر الجماهير ضعيفة، والنتيجة هي أن الشارع المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع كله لم يحدث فيه ترشيد، والجماهير لم تتعلق قلوبها بأحد من الأئمة مثلما كانت تتعلق بالكثيرين من قبل، وقد لاحظنا أن أغلب هؤلاء الأبناء كاره للعمل الذي أُدخله كرهاً ليجد عملاً يعيش منه وكان لبعضهم محاولات هزلية، حتى يترك الإمامة إلى وظيفة كتابية·
وهذا يدفعنا إلى البحث عن علاج لظاهرة ندرة الدعاة الأكفاء، وهي تتجسد فيما يلي:
أولاً: يجب الإيقان بأن الدعوة ليست حرفة:
وإنما هي رسالة لمن أراد الله به الخير فسخره لدعوة غيره إليه، ولا يزال صاحب الرسالة هاوياً، يبحث لرسالته عمن يعتنقها ويتمسك بها، فلا يهنأ له بال، ولا يقر له قرار إلا إذا وجد الناس منضوين تحت لوائها، ولا ينبغي أن يكون العمل الدعوي لكل من هبَّ ودبَّ، إنما يختار الدعاة اختياراً قائماً على الكفاءة والرغبة الجادة، فكما تكون رسالة الرسل اصطفاء يتحتم أن تكون الإمامة قريباً من ذلك، حتى لا يدلف إلى دربها من ضرره أكبر من نفعه، فتكون الفتنة التي حذَّر منها رسولنا الكريم صلوات ربي وتسليماته عليه، والدعوة جهاد، وكما أنه لا ينفع في الجهاد الخوارون من الجبناء فكذلك لا ينفع لها إلا من نذر نفسه للخدمة الربانية·
وحتى ينجح الداعية هناك أمور ينبغي أن نضعها أمامنا ونحن نجهز الدعاة، وينبغي أن يضعوها هم وأهلوهم أمامهم في أثناء التربية·
ثانياً: الاستعداد الشخصي:
ويتمثل في أمور لا بد منها للنجاح ومنها:
1 ـ الذكاء المتوسط أو المتوقد إن وجد، فالغبي وإن حسنت نيته إلا أنه على المدى الطويل غير مجدٍّ,، وكما يكون الرسل أذكى أقوامهم ينبغي أن يكون الدعاة قريبين من ذلك، والقريحة القوية تساعد صاحبها على الفهم والاستظهار، وليس كذلك القريحة الضعيفة·
2 ـ العمر الطويل، وهو هبة من الله، تساعد من وهبها على إتمام الكثير مما يريد أن يدعو الناس إليه، وتتيح له من التجارب والعلوم ما لا يتاح لقصير العمر·
3 ـ المثابرة والنظام، فحياة الداعية يجب أن تكون حسب خطة مرسومة اختطها لنفسه، فوقت للقراءة، ووقت للتأمل والتدبر، ووقت للعمل، ووقت للأهل، ووقت للنوم ووقت لمقابلة الأصدقاء، ووقت للتريض، ولا ينبغي أن يشغل أبداً عن القراءة، لأنها عماد نجاحه، وقد كان بعض شيوخنا إذا جاءه زائر في وقت القراءة أمر أهله أن يصرفوه ويعرفوه موعد الزيارة، بل إن أحدهم كتب على بيته متى يُزار، والمرحوم العقاد كان يقول: كل صعب سهل مع النظام·
4 ـ عشق الدعوة: فهي محور حياته، وعماد تفكيره، وبها يرجو خير الدنيا، وخير الآخرة، إن بداخله صارخاً يدعوه إلى العمل الدعوي على الدوام، وقد كان يوسف، ويحيى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام كذلك، نحن لسنا تجار دنيا نبحث عن صفقة· إنما نحن مريدو آخرة صفقتنا مع الله، إليه ربحها إن ربحنا ونرجو من الله ذلك·
5 ـ البسط في غير ابتذال: ويُراد به أن تكون شخصيته الداعية إماماً كان أو واعظاً أو مدرساً شخصية منفتحة على الناس، فهو مبتسم دائماً إلا في حالات الحزن على حال الفرد أو الجماعة، وقد كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم منبسطاً للناس مختلطاً بهم لا يمنعه من الناس حارس ولا بواب، الكل يعرفه إذا حضر، ويعرف جَدَّه، ويعرف سماحته، يرتفع به للحق منار وينكسف به للباطل راية، حنون على الفقراء، متماسك أمام الأغنياء، ثابت الجأش أمام أصحاب السلطان·
6 ـ سعة الحيلة، حتى يستطيع التغلب على المصاعب في مجال الدعوة، وطبعاً ليس المقصود أن يكون ماكراً، إنما المقصود أن يقدر على مواجهة الأمور التي إذا تعقدت أساءت إليه أو إلى دينه أو إلى جمهوره، وهي الحيلة المشروعة، كما في حديث أصحاب الأخدود·
7 ـ أن يتعلم آداب البحث والمناظرة، ويعرف الأجوبة المسكتة، وبغض الطرف المستملحة المضحكة في غير إسفاف، وأذكر أن مجلس الداعية الكبير المرحوم الشيخ محمد الغزالي لم يكن يخلو من ذلك مع أدب وتصون وعفة لسان·
ثالثاً: احفظ القرآن حفظاً جيداً:
حتى يسيل على لسانه في سهولة، كما تسيل قطرات الماء من الكوب إلى جوفه، يعرف فضل ذلك من عمل في الدعوة، وكيف يكون القرآن خير عون للداعية على إبلاغ دعوته، ومعرفة تفسيره بإجمال عامة، وبتفصيل تارة أخرى·
2 ـ حفظ قدر كبير من السنَّة يجعله ورداً يومياً، يساوق ورده اليومي من القرآن الكريم، وليكن كتاباً ككتاب رياض الصالحين·
3 ـ الاطلاع الدءوب على كتب الفقه والعقيدة والسيرة والأخلاق والأمهات، إضافة إلى بعض الكتب الحديثة التي تتكلم في القضايا الإسلامية والفقهية والاجتماعية وغيرها، كما لا يفوتني أن أنبه إلى بعض الكتب التي تتكلم عن أهمية الإيمان والإعجاز العلمي للقرآن والسنة ككتاب: >العلم يدعو للإيمان لـ<كريس موريسون>والإسلام في عصر العلم للمرحوم الغمراوي··· إلخ·
ويُضاف إلى ذلك أن تكون هناك صلة لا تنقطع بعلوم اللغة: النحو والصرف والأدب والبلاغة والكتب التي تساعد على تنمية الأسلوب وترقيته كأدب الدنيا والدين، وكتب الشعر والأدب··· إلخ، حتى يستطيع أن يجد للمعاني الموجودة في فؤاده أثواباً من الألفاظ، فالألفاظ قوالب المعاني، وقد قيل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنماجعل اللسان عن الفؤاد دليلاً
رابعاً: القدرة على التقلل من المتاع:
وليس يعني هذا عدم التملك، لأنه صمام أمان للداعية من عوادي الزمن، ولكنه يعني ألا يشغله جمع المال، والحرص عليه عن هدفه الأسمى وهو الدعوة وقد كان الأئمة قديماً لا يتاجرون بأنفسهم، وإنما يشرفون على تجارتهم، ويوجد من يتاجر لهم، كما ينبغي أن يكون هناك حد لطلب المال هو حد
لكفاية الذي يعتبر من وصل إليه غنياً عن الناس، وقد روى أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: <لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب> متفق عليه·
ومن قدر على التقلل من المتاع هانت عليه الدنيا وصغرت في عينيه، وكبرت فيهما الآخرة فشمر لها، وجد في تحصيلها، وزهد في الجاه والسلطان، وازداد اقتراباً من ربه فزاده قبولاً لدى عباده، وملأ قلبه بالشعور بالرضى، فأقبل على تحمل أثقال الدعوة ومغارمها، وقد سئل رجل معمر: أخبرني عن ما رأيت في سالف دهرك قال:رأيت الدنيا ليلة في إثر ليلة، ويوماً في إثر يوم، ورأيت الناس بين جامع مال مفرق، ومفرق مال مجموع، وبين قوي يظلم، وضعيف يُظلم، وصغير يكبر، وكبير يهرم، وحي يموت، وجنين يولد، وكلهم بين مسرور بموجود، ومحزون بمفقود·
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره·
وليحذر الداعية التلون فهو جالب للعن العباد في الدنيا، وبعث الفتن المحيرة، ثم هو جالب لحبوط العمل في الآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: <يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله عز وجل: أَبِيَ يغترون أم عليَّ يجترئون، فَبِيَّ حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم حيران>(1)
خامساً: موافقة فعله لقوله:
لأن الناس يأسرهم الفعل، ومن كان كثير القول قليل العمل فقد قلبه القدرة على النفاذ إلى قلوب الناس، ومن خالف فعله قوله سقط من أعين الناس فلم يعد لوعظه أثر ولا لعمله قيمة، وقد قيل:
من وعظ بقوله ضاع كلامه، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه·
وقيل: عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل(2)وقد أبدع أبوالأسود الدؤلي في ميمته العصماء في قوله:
يأيها الرجل المعلِّم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضـــــنى كيما يصح به وأنت سقيم
وأراك تصلح بالرشاد عقولنا أبداً وأنت من الرشاد عديم
لاتنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
أبدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُقبَل ماوعظت ويقتدي بالعلم منك وينفع التعليم
وفي القرآن والسنة الكثير مما ينهى عن مخالفة القول للعمل تركناه لتداوله عن الألسن·
سادساً: إتقان التحرك بالدعوة في المجتمعات:
لا شيء أصعب من التعامل مع البشر، وقد يكون التعامل مع الوحش الكاسر، والمادة الصلبة أيسر من التعامل مع البشر، لأن كل الموجودات لها ظاهر معلوم، أما البشر فهم أهل الظاهر والباطن وقديماً قيل:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
والداعية في حركته يشبه كما يقول الغربيون: السابح بين التماسيح، فهو في ويلات من أهله ومطالبهم، والمدعوين وكيفية هدايتهم، وسلطان الوقت الذي قد لا يرضيه كلامه لذا يجب عليه:
1 ـ التنقل وراء تجمعات الناس، وهي سنَّة نبوية مباركة، فقد ذهب الرسول الكريم إلى الطائف، ولقي الأنصار وغيرهم في مواسم الحج، وهاجر المسلمون هرجتي الحبشة الأولى، والثانية، ثم هاجروا الهجرة الأخيرة إلى المدينة المنورة·
2 ـ أن يكون هناك نوع من التشاور والتنسيق بينه وبين إخوانه حتى تكون لهم أستاذية يرجعون إليها تفيدهم بعلمها وتجاربها، وتجنبهم النزق والطيش والعمل الفردي·
3 ـ التآخي في الله، وهو سنَّة من السنن التي تقوم عليها المجتمعات، وهو الدعامة الثالثة من دعامات قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، فقد تآخى الصحابة في الله أخوين أخوين، ومدح رب العزة والجلال صنيع الأنصار في القرآن فقال تعالى: (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون) الحشر:9·
4 ـ الصبر وهو المقدرة على تحمل الصدمات، وتجاوز العقبات وتجنب الخصومات، وبناء جسور قوية بينه وبين من يحبونه، والتغاضي عن إساءات من يسيئون إليه، ودعائه لهم دائماً بالهداية·
5 ـ ارتفاع الفرج من الله، فهو مقلب القلوب والأبصار القادر على تبديل الناس من حال إلى غيرها، ويجب ألا يتسرب اليأس إلى قلب الداعية مادام يشعر بحرارة الإيمان في قلبه وصدق التوجه في قوله وفعله، والله سبحانه يربط على القلوب المؤمنة بقوله سبحانه: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون الصف:8
كما يجب عليه التذرع بأقصى درجات اللين، والدعوة إلى إشاعة الرحمة، ونبذ السب واللعن، والتفسيق والتفجير والتكفير من قاموس دعوته، فقد جاء الدين رحمة جمع الله بها العباد، وأنار الأفئدة، وأشاع التراحم والتعارف، ولو أراده أحد غير ذلك يكون قد نكص على عقبيه بتغييره مراد الله من دينه، وقد قال الله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107·
وقال تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) آل عمران:159·
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد