بسم الله الرحمن الرحيم
رغم أن العصور الإسلامية الوسيطة أنتجت لنا عباقرة في التربية والتعليم أمثال الغزالي وابن سحنون والقابسي وغيرهم إلا أنها أفرزت لنا في نظمنا التعليمية والتربوية آفة خطيرة وجرحاً عميقاً ألا وهو تمجيد أسلوب الحفظ واعتباره جوهر العلم والتعلم وتقديمه على أسلوب الفهم والاستنباط إلى أن أدى ذلك الأسلوب إلى إقفال باب الاجتهاد والجري الأعمى وراء التقليد، وظهرت ألقاب توحي بأن كل حافظ عالم فيقال «الحافظ العلامة فلان» وبشكل مباشر أو غير مباشر أدى اعتمادنا على الأسلوب التقليدي للحفظ إلى تكاثر همومنا وجروحناº فمن هم التغريب والتبعية الفكرية والعلمية والاجتماعية إلى هم البعد عن الإبداع والاختراع والجنوح إلى التخلف العلمي والتقني إلى هم الجمود والغلو في الدين وإلى هم الانصراف عن الاجتهاد رغم منافعه الجمة وحث الدين الإسلامي إليه والجنوح إلى التقليد رغم جموده وعدم مواكبته للتطور والتجديد، واعتمادنا على مقولة «من قلد عالماً سلم» إلى هم التفتت والتمزق الذي فرق الوطن العربي الإسلامي إلى أوطان مختلفة سياسياً وفكرياً واجتماعياً. حقاً إن الهموم كثيرة والجروح عديدة وقد صدق الشاعر حين قال: ولو كان هماً واحداً لاحتملته ولكنه هم وثان وثالث ولا شك أن أسلوب الحفظ الأعمى كان له دور كبير في ضياع معطيات الأمة الإسلامية التي تُعد الأولى في إنشاء المنهج العلمي التجريبي، ويُعد علماؤنا الأوائل المبدعون السبب الرئيس في التطور الذي وصلت إليه أوروبا في عصرنا الحالي، ولكن عندما اعتبرنا الحافظ علامة وابتعدنا عن أسلوب الفهم والاجتهاد والبحث والتجريب أصبحنا أمة تابعة علمياً وتقنياً بعد أن كنا أمة متبوعة! ولقد أساء أسلوب الحفظ أيما إساءة إلى مناهجنا الدراسية، فمعظمها- حتى بعض العلوم التجريبية- اعتمد اعتماداً رئيساً على الحفظ، مما كان له الأثر السلبي على قدرات الطلاب الإبداعية، فمعظم تلك المناهج تجبر الطلاب أثناء الاختبارات على حفظ كل ما تحتويه، وبالتالي أصبح الطالب يقاس ذكاؤه وعمله بقدر ما يحفظه من معلومات ومعارف. لذا فكل عام يتخرج من مدارسنا طلابٌ حفظة ينسون ما حفظوه بمجرد انتهاء العام الدراسي، ولا يتذكرون- بعد فترة وجيزة- من مناهجهم المكثفة إلا بعض الشذرات التي فهموها أثناء دراستهم. وكثيرون الذين يحفظون القرآن الكريم ويقضون الأوقات الطويلة في ذلكº ولكن كثيرين من هؤلاء الحفظة لا يربطون حفظهم بالفهم الصحيح أو بالتدبر والاستنباط، وأرى لو أن حفظ القرآن يغني عن الفهم والاستنباط لسبقنا إليه الصحابة الكرام، ولكن كانوا - رضي ا لله عنهم- يركزون على الفهم والتدبر ثم العمل أكثر من تركيزهم على الحفظ والحفظ فقط. ولا شك أن تعويد طلابنا على الحفظ قبل الفهم نهجٌ سقيمٌ له تأثيره السلبي على الأجيال التي سوف تتقلد الأمور غداً، فمن العبث أن نأمر الطالب بحفظ قاعدة نحوية مثل تعريف الفاعل والمفعول به وهو لا يستطيع أن يطبق ذلك عملياً فنسمعه يقرأ ينصب الفاعل ويرفع المفعول وغير ذلك من الأمثلة. وفي الحقيقة أرى أن الدعوى القائلة بأن أسلوب الحفظ أمثل طريقة للعلم والتفوق دعوى جانبها الصواب، ولا سيما في هذا العصر عصر الحاسوب والإنترنت. وقبل هذا القرن كان علماؤنا الأوائل يشيدون بالفهم والإدراك ويذمون الحفظ غير المرتكز على قاعدة الفهم فالإمام مالك - رضي الله عنه - يقول: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور ودراية)، وهذا ابن خلدون يؤكد في مقدمته أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب، ويشير إلى أن «ملكة العلم» إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم، ويعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسؤولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئاً ذا بال في العلم. وقد انتقد أسلوب التعليم في المغرب العربي بعد انقراض تعليم قرطبة والقيروان لأن التعليم في المغرب يرتكز على ملكة التحصيل فقط. ومن المربين المسلمين من يرى أن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار. ورغم ما قاله الأوائل حول التحذير من الحفظ الأعمى إلا أننا ننظر إلى ذلك المحاضر المتشدق الذي أبان عن كثرة محفوظاته مشدوهين فاغرين الأفواه نردد عبارات جوفاء تقول: (الله.. ما أعلم ذلك المحاضر). وربما نُسبغ عليه صفات لا يستحقها فنجعل من طويلب علم عالماً لأنه -فقط- نثر بعض محفوظاته بالرغم أن ذلك «الحافظ» قد يصعب عليه الفهم والإدراك في كثير من الموضوعات التي يحفظها وربما قد يكون حاله يشبه حال كاتب الحجاج بن يوسفº فالشاعرة ليلى الأخيلية مدحت الحجاج بقولها: إذا هبط الحجاج أرضاً سقيمة تتبع أقصى دائها فشفاها فلما أتمت القصيدةº قال الحجاج لكاتبه: اقطع لسانها!! فجاء ذلك الكاتب المغفل بالموسى! فقالت له ليلى: ويلك إنما قال: أجزل لها العطاء!! ثم ذهبت إلى الحجاج وقالت كاد والله يقطع مقولي. وأخيراً لا شك أن أسلوب الحفظ له مجاله في بعض العلوم، ولكن يجدر بنا ألا نعتمد عليه اعتماداً كلياً في كل العلوم و إلا سوف يضمر الإبداع ونفقد العقلية المخترعة والمبدعة في شتى العلوم والقوانين، وما تخلفنا في علوم التقنية والحاسوب إلا نتيجة لأسباب كثيرة ومنها نظام التعليم الذي يركز على الكم لا على الكيف يُخرج طلاباً حفظة ويدفن طلاباً مبدعين، لذا لابد من التغيير والتجديد والتطوير لأساليب التعليم ومناهجه لكي نلحق بالركب.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد