بسم الله الرحمن الرحيم
قد تمرض البصائر كما تمرض الأبدان، وتعتل العقول كما تعتل الأعضاء والأجساد، ورغم مرض البصائر واعتلال العقول فإنها تظل حية ترجو الشفاء، وتأمل البرء فتدركه، وتطلب السلامة والعافية فتنالهما في أغلب أحوالها، ولكن إذا ماتت تلك البصائر وفسدت تلك العقول واندثرت، كان من المستحيل إعادتها إلى الحياة، وبعثها مرة أخرى، إلا بمعجزة ربانية، أو كرامة إلهية، وهذا ما فعله الإسلام تماماً في الأمة العربية قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، حيث بعثها إلى الحياة بعدما رمت، وانتهت وماتت واندثرت في كل شيء، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بأبلغ بيان وأوضح لسان، فقال: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون (24) (الأنفال) أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون 122 (الأنعام)، فكان الإسلام هو الإحياءة، وكانت رسالته هي النور والبعث، لأنه معجزة ربانية وآية إلهية، ولا يستطيع إحياء الموات، طبيب أو دواء بشري، لأن هذا شأن رباني..هذه واحدة.
والثانية: أن هذا المبعوث، بعد موات، انطلق كالعملاق ينفخ في الأجساد الهامدة، والعظام النخرة الخامدة، فيبعثها بروحه الربانية، ورسالته الإلهية.
يقول السير توماس آرنولد من خيرة كتاب الغرب ومفكريها المنصفين: \"إن انتشار الإسلام في العالمين، يرجع إلى طبيعة الإسلام نفسه ونسيجه الفطري الساحر، وقدرته على الإقناع والأخذ بالألباب، ولكنه يحتاج إلى دعاة، ويوم يجد هؤلاء الدعاة سيتمكن الإسلام من غزو الشعوب مرة أخرى، فالإسلام بواسطة التجار والرحالة وأسرى الحرب وقت أن خضع المسلمون في فترات معينة لقوى أجنبية استطاع أن ُيدخل الكثير في الإسلام بقوة عقيدته ومخالطته للقلوب. ومما كان يثير اهتمامي أن نشر الإسلام لم يكن من عمل الرجال وحدهم، بل كان من عمل النساء أيضاً، حيث يرجع الفضل في إسلام كثير من أمراء المغول إلى تأثير زوجة مسلمة.
بل إن المسلم الأسير كان يغتنم الفرص في المناسبات وهو في سجنه ليدعو إلى دينه، فقد تسرب الإسلام إلى أوروبا الشرقية أول الأمر بفضل ما قام به فقيه مسلم سيق أسيراً وجيء به إلى بلاد \"البيتشنج\" بين الدانوب الأعلى ونهر الدون، وقد بسط بين يدي كثير من أهل البلاد تعاليم الإسلام، فاعتنقوه في اقتناع وإخلاص، ولم يمض وقت طويل حتى دخل شعب \"البيتشنج\" دين التوحيد.
وفي عهد الإمبراطور \"جهانجيز\" 1628م أُدخل عالم سني، السجن بتهمة ملفقة، فتمكن وهو في سجنه الذي استمر سنتين من إدخال آلاف عدة من عبدة الأوثان في الإسلام، وحكم الإنجليز على أحد علماء الهند بالسجن ونفوه إلى جزر \"أندمان\"، فأدخل كثيراً من أهل تلك الجزر في الإسلام، وكان السبب في ذلك قوة الإسلام وسحر عقيدته الفطرية، ومخالطتها لشغاف القلوب، ووجود من يدعو إليها، لأن هذه العقيدة لا تتطلب تجربة كبيرة، ولا تثير متاعب عقلية خاصة، كما أنها تدعو إلى التفتح العقلي والسمو الروحي، فكانت بطبيعتها أقرب طريق إلى التقدم والتحضر والإيمان بالله.
والأمة الإسلامية اليوم لا تحتاج في تحضرها إلى فرض إصلاحات على الإسلام، ولا إلى تغيير في معالم التعاليم، كما يظن بعض المسلمين، لأن الإسلام كامل بنفسه تام بذاته، ولكن الذي نحتاجه اليوم هو إصلاح موقفنا من الإسلام، بمعالجة كسلنا وقصر نظرنا، وبكلمة واحدة \"معالجة مساوئنا نحن\".
إننا للأسف نتخلى عن الإسلام ونقبل ببواعث جديدة من ثقافات أجنبية مهترئة وفاسدة، والإسلام كمؤسسة روحية واجتماعية وعقلية وحضارية غني عن أي تحسين.
فالإسلام بناء متين مترابط ومتراص، وقدرته على التغيير مازالت جذعة ومتقدة وفاعلة.
يقول الكاتب الإنجليزي \"هيلر بلوك\": \"لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين، وتتماسك أطرافها تماسكاً قوياً، وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام، لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب، بل ستكون خطراً على أعدائها، ومن الممكن أن يعارض البعض هذا الرأي، بأن الإسلام فقد سيطرته على تلك الأشياء المادية خصوصاً فيما يتصل بالحرب، فهو لم يلحق بالتقدم التقني الحديث، ولا أستطيع أن أدرك: لماذا لم يعوض الشرق الإسلامي ما فاته في هذا الميدان؟ إذ لا تحتاج علوم الهندسة الحديثة إلى طبيعة خاصة، بل يتطلب الإلمام بها والتفوق فيها، الخبرة وتوجيه الخبراء. لماذا لا يتعلم العالم الإسلامي ما تعلمناه في مجال التكنولوجيا، وهذا أمر ميسور؟ وفي مقابل ذلك سوف يكون من الصعب علينا استعادة التعاليم الروحية، وهي من العوامل الأساسية للحضارة، وقد فقدتها المسيحية، بينما لم يزل الإسلام يحافظ عليها\".
إن الإسلام الذي أنقذ العالم في القرنين السادس والسابع الميلاديين من الانحطاط قادر اليوم على إنقاذه من وهداته الأخلاقية والنفسية والاجتماعية التي ارتكس فيها. إن الأديان التي على الساحة اليوم لا تستطيع أن تنقذ هياج الإنسانية الحالي وهيامها بالحيوانية والرذيلة، وعشقها للمظالم، وإدمانها \"الصعلكة\"، حتى أصبحت البشرية في العصر الحاضر فريسة العابثين والمتلاعبين، والمنحرفين والمنافقين، والمغامرين بمصائر الشعوب.
الإسلام اليوم قادر على الغزو الروحي والفكري والاجتماعي للأمم الحائرة والمرتكسة في حمأة المادية، ولكنه يحتاج إلى كتيبة قادرة ومستعدة ومدربة على المهام الكبيرة، وعلى مصارعة أمواج الإلحاد والإباحية والتدني، وإلى فرقة متفتحة الذهن، ناضجة العقل، قوية النفس، متقدة العزم، تبتغي وجه الله، وتنفر خفافاً وثقالاً، مضحية بالنفس والنفيس في سبيل عقيدتها ورسالتها ومبدئها، وقد يسأل سائل: وأين هؤلاء؟ وهل يمكن في هذا الخضم المائج بالتسفل والتدني أن يوجد أمثال أولئك؟ أقول: لابد أن يوجدوا، إن لم يكن اليوم فغداً إن شاء اللّه، وصدق اللّه وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم 38 (محمد).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد