حديث في الممارسة النقديّة ( 2 – 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

النقد... ضرورة الحركة:

هذا الميل إلى النقد والممارسة ما هي دوافعه؟ من أين تنشأ الرغبة في النقد؟ ومتى تكثر هذه العملية في الواقع؟

إن هذه الأسئلة الثلاثة يمكن الإجابة عنها من خلال فهم كُنه عملية النقد، والتي كما أسلفنا أنها موازنة تهدف إلى المراجعة والتصحيح، والتواصل مع الكسب، والقطيعة مع الاكتساب بالمفهوم الذي ذكرته الآية السابقة الذكر (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).

ولعل المراجعة تكون لما سبق، أي أن هناك انتقالاً من حال إلى حال، دفع هذا الانتقال صاحبه إلى التطلع والموازنة بين ما كان عليه وما هو عليه في حينه، بين ما قد فعل وبين ما هو فاعل، حيث إن هذه الحالة قد تكون انتقالاً في الفكر أو الممارسة، ومن موقف إلى آخر. والتصحيح تدفع إليه عملية الانتقال، لرصد مسيرة الفعل واتساقه مع ما يجب أن ينجزه ومقارنته بما أنجز.

فالحركية المستمرة للفعل الإنساني تدفع به إلى المراجعة المستمرة والتصحيح الدائم عن طريق الموازنة ليضمن الوصول إلى أهدافه.

غير أن منحنى النقد تظهر نهاياته العظمى، ويكثر أثناء النقلات النوعية، والتحوّلات المفصليّة، والهِزات الكبرى، والأحداث التي تشكل تحولاً في المسار، كما حدث بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وبعد الحرب والاحتلال الأمريكي للعراق وغيرها من الأحداث.

فالإنسان فرداً كان أو جماعة عند شعوره بالإخفاق، أو اجتياز نقلة مرحلية، وفقدانه لبعض ما كان ينبغي أن يوجد يلجأ إلى التساؤل، والبحث عن الأسباب، وموازنة فعله واتساقه مع ما رسمه من أهداف نهائية أو آنية. فالميل إلى النقد ينشأ من عدم القابلية للإخفاق، والرغبة في التخلص من الفعل السلبي وآثاره، والنزوع نحو الكمال والرشد الإنساني المركوز في طبيعة البشر.

ويضرب لنا القرآن الكريم المثال في البحث عن تصحيح الوضع، والبحث أيضاً عن اكتشاف مكمن الزلل والخطأ أو الانحراف، وذلك في حديث القرآن الكريم عن غزوة أحد، حينما تساءل الصحابة -رضوان الله عليهم- عن سبب الإخفاق في هذه الغزوة بعدما انتصروا في بدر الكبرى، فيوجههم القرآن الكريم إلى البحث عن السبب في أنفسهم، وأن الزلل كان من اكتسابهم، كما قال الله - تعالى -: (أو لمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) (آل عمران: 165).

 

النقد... منهج ومعايير:

في الوقت الذي نؤكد فيه على مفهوم النقد باعتباره موازنة وتصحيحاً بعد المراجعة، وعلى ضرورة هذه العملية الحيوية باعتبارها قانوناً يصاحب الفعل الإنساني، يُنفى به الخبث ويستصحب به الأصيل من الفكر والممارسة، فإنه ينبغي التأكيد على أن العملية النقدية ليست عملية عفويّة اعتباطيّة فوضويّة هلاميّة لا فاصل بينها وبين غيرها من العمليات الأخرى إيجابية كانت أم سلبية.

فلكي تؤدي العملية النقدية أُكُلها، لا بد من وجود منهج صحيح، كما أنه ينبغي توفر معايير تضع الإطار الذي يوضح عملية النقد من التشهير، وعن النميمة، والغيبة، وعن الانتقاص، والتشويه.

ذلك أن سبّ الناس عامة والمؤمنين خاصة باسم النقد، والطعن في كرامة الناس وأعراضهم باسم النقد، ناتج عن غياب المعايير التي تشكل حواجز وضوابط تضمن عدم التجني على الآخرين بغير وجه حق.

فمنهج النقد يجب أن يفرق بين نقد الفكرة وبين نقد الممارسة، ونقد الفكر بمنهج نقد الممارسة أو العكس يُعدّ مغالطة كبرى. فعند نقد الفكرة من المنطقي والعلمي أن تنقد الفكرة في إطار تناسقها مع مقولاتها، ومع المقولات العقلية والعلمية الثابتة الصحة، وإثبات فساد فكرة يتجه أولاً إلى اكتشاف تناقض بنائها الداخلي، وغموض مضمونها، وعدم قدرة الفكرة على إعطاء الإجابات المقنعة على أسئلة الفكر والعقل، وفساد إحالاتها ومدلولاتها الفلسفية والعقائدية.

أما إثبات فساد فكرة بفشلها في الواقع فقد لا يصدق دائماً، إذ يدخل في إفشال الفكرة في الممارسة عدة عوامل، وليس عدم صلاح الفكرة في ذاتها فقط.

وهذا ما أشار إليه الأستاذ مالك بن نبي عليه رحمة الله- في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) حيث أشار إلى أن فعالية الفكرة ليس دليلاً على صلاحها، كما أن عدم فعاليتها في الواقع ليس دليلاً على عدم صلاحها، والخلط بينهما من قبيل الخلط المنهجي.

كما أن نقد الممارسة ينبغي أن يرتكز على ضوابط الممارسة الواقعيّة السليمة أكثر من أي مرتكز آخر.

ففي نقد التجربة الماركسية والفكرة الماركسية مثلاً خلط، حيث استدل على فساد الفكرة من خلال فشل التجربة، كما استدلّ المؤيّدون لها بنجاح الفكرة على نجاح التجربة قبل سقوط المعسكر الشيوعي.

وكان من المفترض أن تفنّد الفكرة الماركسية بنقد الفكرة ذاتها، واكتشاف تناقضها وفساد إحالاتها الفلسفية والعقدية، وغموض وقصور مقولاتها، من خلال نقد فكري مجرّد، كما كان من المفترض نقد التجربة الماركسية وفشلها من خلال رصد واستقراء تاريخ ممارسة التجربة لاستخراج أسباب الإخفاق التي قد يكون فساد الفكرة أحد أسباب إخفاق الممارسة، وربما لا يكون أدنى دور سلبي للفكرة في إخفاق التجربة والممارسة.

ويمكن تطبيق ذلك على دعوات الإصلاح في العالم الإسلامي منذ محمد بن عبد الوهاب، والأفغاني، ومحمد عبده، وابن باديس، وغيرهم، وصولاً إلى الصحوة الإسلامية المعاصرة على مستوى الفكرة والممارسة. كما يمكن تطبيق هذا النقد على القومية العربية وما دعت إليه من أفكار وما أنجزته منذ قيام الثورة العربية في بداية القرن الماضي، وكذا أي فكرة أخرى.

فالفصل بين مناهج نقد الأفكار، ومناهج نقد التجارب والممارسات، مقدمة صحيحة للحصول على الإجابات الصادقة والموضوعية عن الأسباب الكامنة وراء الإخفاق، والأسباب الكامنة وراء النجاح، هذا عن منهج النقد وطريقته.

وهناك الأمر المهم الآخر أيضاً والذي تبدو الحاجة ملحة إليه هو المعايير التي ترسم الإطار الضابط لهذه العملية الحيوية، لتحدّد مجال النقد عن غيره من أوجه الانتقاص والتشويه، وتفرق بين النقد وبين الغيبة والنميمة والتشهير.

فمثلاً في حياتنا اليومية، وفي سياق الحديث عن شخص أو مؤسسة أو فكرة أو تجربة أو هيئة ما هو المعيار أو المعايير التي من خلالها نعرف أننا نمارس الدور الحيوي في المراجعة والتصحيح، بدل أن نكون في عداد الخائضين بدون محدّدات ضابطة، ولا هدف مقصود، ضمن أهداف النقد بمفهومه المتفق عليه كما سبق الذكر، فنقع عند غياب هذه المعايير فيمن ذمّهم الله - تعالى -في قوله - عز وجل -: (وكنا نخوض مع الخائضين)، أو فيمن يأكل لحم أخيه ميتاً (... ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه... ) (الحجرات: 12).

فما هي المعايير المحددة للعملية النقدية التي تضعها في إطار العمل الحيوي البنائي؟

لا شك أن المعيار الأول هو أن هذه العملية تتمّ وتنصبّ حول الفعل الذي هو كسب أو اكتساب، ولا تصل حدّ الطعن في الكرامة، ولا تنزل إلى الهجاء والذم للأشخاص لمجرد عدم انتمائهم لنفس الخيمة الأيديولوجية والفكرية، ولا مدحهم لمجرد أننا نحبهم، أو لأنهم من أنصار فكرتنا أو مذهبنا أو مدرستنا أو خيمتنا الفكرية والأيديولوجية.

أما المعيار الثاني فهو الهدفية، بحيث يكون النقد لا عن رغبة جامحة متأصلة دون سبب، بل تكون العملية النقدية عملية هادفة مقصدية ووظيفية، بحيث تؤدي وظيفتها في الموازنة ونفي الخبث والمراجعة والتصحيح، ولا تكون نابعة من شعاراتيّة مزيفة كأحد الطقوس يجب تأديتها هكذا جزافاً، دون إطارها الحيوي، ودون استحضار كُنهها.

أما المعيار الآخر فهو معيار يفك الارتباط بين النميمة والغيبة من جهة وبين النقد من جهة أخرى، حتى لا يقع أحدنا في الطعن، ولا يحبسه الخوف من النميمة ليعطل ممارسة عمله الحيوي، هذا المعيار يجعل موضوع النقد الإطار العام وليس خصوصيات الناس وقضاياهم الشخصية. وبعبارة أخرى، يكون موضوع النقد القضايا العامة لا الشخصية المستترة، وفي الشؤون العامة للأمة، وفي الفعل الذي يتعلق بالعموم، وليس ذلك الفعل الشخصي الخاص الذي يحتاج إلى آلية المناصحة والنصيحة بما يجب فيها من إسرار وكتمان، وذلك خلاف النقد الذي يُمارس سراً وعلانية، وليس فقط ضمن علاقات حميمية.

هذه العملية النقدية التي يجب أن تحلّ محل الترداد الأجوف للكلام حول العملية النقديّة، وما يتخلل الممارسات النقديّة من تمييع لمحتواها ومنهجها، وخلط بينها وبين غيرها من المفاهيم.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply