بسم الله الرحمن الرحيم
شاع على ألسنة كثير من إخواننا المتدينين القول بأن الحقائق العلمية (ويعنون بذلك حقائق العلوم الطبيعية) حقائق متغيرة، فما يـثـبـتـه الـعلم اليوم ينفيه غداً، وما ينفيه اليوم يثبته غداً. لذلك يجب أن لا يكون لها اعتبار في فهم الحـقـائـق الـديـنــيـة الـــواردة في الكتاب والسنة، وأن لا تستخدم دليلاً على الإعجاز العلمي.
لكن إطلاق القول بتغير الحقائق العلمية إطلاق غير صحيح، بل هو خطأ محضº وذلك لأن الـعـلـــوم الطبيعية ـ كما هو معروف ـ منها ما هو حقائق جزئية تقوم عليها أدلة حسية أو عقلية قـاطـعــــة، ومنها ما هو حقائق جزئية، أو قوانين عامة عليها أدلة راجحة لا قاطعة، ومنها مـا هو نظريات هي المعرَّضة للتغير، ولا سيما ما كان ذا دليل غير قوي.
فحقائق العلوم التجريبية كلها ـ الطبيعية أو الاجتماعية أو النفسية ـ التي شهد لها الحس أو العقل شهادة قـاطـعــة هي حقائق شرعية. بل إن ما قام عليه منها دليل راجح وإن كان غير قاطع، هي مما يعد ـ بميزان شرعنا ـ علماً يعمل به. فما دليلنا على ذلك؟
دليلنا أولاً أن الشرع قضى بأن كـل الحقـائـق ـ ديـنـيـة كـانــت أم دنيوية ـ إنما يكتسبها الإنـســان بحسه وعقله. قال - تعالى -: ((واللَّهُ أَخرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لا تَعلَمُونَ شَيئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ والأَبصَارَ والأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ)) [النحل: 78].
فإذا كانـت الحقـائـق إنما تكتسب بالحس والعقل، فمن البديهي أن يقال: إن كل ما شهد له الحس والعقل فـهــو حقيقة، وما لم يشهد له فليس بحقيقة. ولذلك فإن ربنا - سبحانه وتعالى - ذم الكفار المنـكـرين للحقائق المحسوسة ووبخهم، قال - تعالى -: ((ولَو نَزَّلنَا عَلَيكَ كِتَاباً فِي قِرطَاسٍ, فَلَمَسُوهُ بِأَيدِيهِم لَقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا إن هَذَا إلاَّ سِحرٌ مٌّبِينٌ) [الأنعام: 7].
ونحن نعلم أن أحاديث الآحاد تعتبر علماً مع أن ثبوتها ليس قطعياً كـثـبـوت الأحــاديث المتواترة. ومـما استُدِلَّ به على أن الظن الراجح يعد علماً قوله - تعالى -: ((يَا أَيٌّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ, فَامتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعلَمُ بِإيمَانِهِنَّ فَإن عَلِمتُمُوهُنّ مُؤمِنَاتٍ, فَلا تَرجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ)) [الممتحنة: 10]
وذلك لأن علم البشر علماً مباشراً بإيمان شخص لا يكــون إلا ظنياً. لكـن الامتحـان يرجـح هـذا الظن نفياً أو إثباتاً، ولذلك يبنى عليه هذا الحكم المهم المذكور في الآية الكريمة.
ومعنى ذلك أننا نأخـذ كمـا يأخـذ غيرنا حتى بالنظريات العلمية إذا كان ثبـوتهـا راجحـاً ولـم يكن قطعياً ما دامت لا تتعارض مع نصوص شرعية قطعية.
قد يسـتـغـرب بـعـض القراء قولي بأن ما لم يشهد له الحس والعقل، أو قل: ما لم يأت عن طريق الحس والـعـقــــل فــلا يعد علماً، ويقولون: أين الوحي إذن؟ وأقول: إن سبب هذا الاعتراض هو خلط يقع فـيـه كـثـيـر مــن الـنـاس، وقـــد نبَّهت عليه في كثير من كتاباتي وأحاديثي. الخلط هو عدم التفرقة بين وسائل اكتساب الـعـلـم، وهي الـحـس والـعـقــــل، ومـصــــادر العلم، وهي الوحي والخلقº فالوحي مصدر للعلمº لكننا إنما نعرف أنه وحي بالحس والـعـقل، وإلا لم يكن لنا معيار نميز به بين النبي الصادق ومدعي النبوة، ولا بين ما هو كلام الله حقاً، وما هو من القول على الله - تعالى - بغير علم.
أعود إذن إلى قولي بأن حقائق العلوم التجريبية التي تقوم عليها أدلة قطعية ـ حسية كانت أم عقلية ـ هي حـقـائـق ثـابتة لا تتغير. تُرى: هل سيأتي يوم يقول فيه العلماء إنهم كانوا مخطئين في زعمهم بأن الأرض كروية، بعدما استطاعوا أن يروها كرة، وأن يصوروها لمن لم يرها؟ هل سيأتي عليهم زمان يكتشفون فيه أن الماء لا يتكون من الهايدروجين والأوكسجين كما يزعـمـــون الآن؟ وهــــل يجوز لإنسان عاقل أن يكابر في وجود شيء بعدما رأى دليله الحسي؟ إن مثل هذه المكابـرة أمـــر مـذمـــوم شرعاً كما أنه مذموم عقلاً، بل إن كل ما هو مذموم عقلاً فهو مذموم شرعاً.
إن إنـكــار الـحـقــائـق الحـسـيــة سواء منها ما يشاهده الشخص العادي، أو تثبته العلوم التجريبية ـ طبيعية كانت أم اجتـمـاعية أم نفسية أم غير ذلك ـ هو هدم للشرعº لأنه هدم للبراهين الدالة على صحته، واللازمة للعمل به، والفارقة بينه وبين الدعاوى الباطلة.
إن كتاب الله - تعالى - مليء بتوجـيـه الناس إلى التفكر في خلقه، والاستدلال به على كثير من أصول الدين، كوجود الخالق - سبحانه -، ومـعـرفـة صفاته، وبعثه لعباده، ومصير المكذبين لرسله.
(إنَّ فِي خَلقِ الـسَّـمَــــوَاتِ والأَرضِ واختِلافِ اللَّيلِ والنَّهَارِ لآيَاتٍ, لأُولِي الأَلبَابِ، الَذِينَ يَذكُرُونَ اللَّهَ قِيَامــاً وقُعُوداً وعَلَى جُنُوبِهِم ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَوَاتِ والأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190، 191]
ففي هاتين الآيتين الكريمتين ربط بين مظاهر طبيعية وبين الإيمان، وهو ربط لا يتسنى إلا لمن يشاهد هذه الظواهر ويوقن بوجودها، ثم يكون إنساناً ذا عقل، وتفكٌّرº فأولو الألباب هم الذين ينتـقـلون من المشاهدة إلى التفكر إلى الإيمان. وانظر إلى قوله - تعالى -: ((إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ومُخرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ (95) فَالِقُ الإصبَاحِ وجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً والشَّمسَ والقَمَرَ حُسبَاناً ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ (96) وهُوَ الَــذِي جَعَلَ لَكُمُ النٌّجُومَ لِتَهتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ والبَحرِ قَد فَصَّلنَا الآيَاتِ لِقَومٍ, يَعلَمُونَ (97) وَهـُــــوَ الَذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفسٍ, واحِدَةٍ, فَمُستَقَرُّ ومُستَودَعٌ قَد فَصَّلنَا الآيَاتِ لِقَومٍ, يَفقَهُونَ (98) وهُوَ الَـذِي أَنــزَلَ مِـــــنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيءٍ, فَأَخرَجنَا مِنهُ خَضِراً نٌّخرِجُ مِنهُ حَبّاً مٌّتَرَاكِباً ومِنَ الـنَّـخـــلِ مِن طَلعِهَا قِنوَانٌ دَانِيَةٌ وجَنَّاتٍ, مِّن أَعنَابٍ, والزَّيتُونَ والرٌّمَّانَ مُشتَبِهاً وغَيرَ مُتَشَابِهٍ, انظُرُوا إلَى ثَـمَـــرِهِ إذَا أَثـمَـــرَ ويَنعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُم لآيَاتٍ, لِّقَومٍ, يُؤمِنُونَ)) [الأنعام]
فـي الآيــة الأولى من هذه الآيات الكريمة ربط بين حقائق طبيعية وبين الإيمان لا ينكره إلا المأفوكون. وفـي الآية الثانية ربط بين حقائق طبيعية وبين صفتين من صفات الله - تعالى -. وفي الآيات الثالثة والرابعة والخامسة ربط بين حقائــق طبيعية وبين العلم والفقه والإيمانº فلا يكــون عالماً ولا فقيهاً ولا مؤمناً من ينكر هذه الحقائق بعد رؤيتها.
لا يقولن لي معترض بأننا إنما آمنا بهذه الحقائق الطـبـيعيةº لأن الله - تعالى - قررها، كلاَّ! فإن العلم بها سابق للإيمان بالقرآن الكريم ومستقل عـنــــهº فهو أمر مشترك بين المسلمين وغير المسلمين. والقرآن الكريم جعل علمنا هذا بها دليلاً عـلـى قـدرتـه وحسن صفاته. فلو كان علمنا بها مبنياً على تصديقنا بالقرآن لما صلحت دليلاً، ولكان في الكلام دور.
وأنت تجد في الآيات التالية مثل هذا الربط الذي ذكرناه بين الحقائق الـمـشاهدة والبعث، وبينها وبين تصديق الـرســــول - صلى الله عليه وسلم -: ((وهُوَ الَذِي يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشراً بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّت سَـحَـابـاً ثِقَالاً سُقنَاهُ لِبَلَدٍ, مَّيِّتٍ, فَأَنزَلنَا بِهِ المَاءَ فَأَخرَجنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخرِجُ المَوتَى لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ)) [الأعراف: 57]
والحقائق الحسـية لها تعلق آخر مهم بأصول الدينº وذلك من حيث كونها معيار للتفريق بين الصـدق والكذبº لأن القول الصادق إنما هو الذي يوافق الواقع ولا يخالفه، فإذا كان الـواقــــع المتحدَّث عنه واقعاً محسوساً، وكان القول مخالفاً له علمنا أن القول كذب. هذه قاعدة بدهية يعرفـهـا كل عاقل. ولذلك فعندما ألَّف الطبيب الفرنسي موريس بوكاي كتابه المشهور عن العلوم الطبيعية والتوراة والإنجيل والقرآن ذكر في مقدمته كلاماً فحواه أنه قال لنفسه: ما دام الله - تعالى - هـــو خـالــق الكون فلا يمكن أن يوحي إلى بشر بكلام يخالف الواقع الذي خلقه ويعلمه، ولذلك فإنني سـأحـاكـم هــذه الـكــتب الثلاثة بمعيار الحقائق القطعية التي أثبتتها العلوم الطبيعية، فما وجدته منها مخالفاً لشيء منها علمت أنه ليس من عند الله - تعالى -. وكانت النتيجة أنه وجد في كتابَي الـيـهــــــود والنصارى مثل هذه المخالفات، ولم يجد منها شيئاً في القرآن الكريم، بل وجد أن القرآن الـكـريـــم سبق العلوم المعاصرة بتقرير بعض الحقائق، ثم جاءت هي مؤيدة لها. فهل نقول لمثل هذا الـعــالم: إن منهجك غير صحيحº لأن حقائق العلوم الطبيعية حقائق متغيرة؟
وبمثل هذا المنهج انتقد النصارى الليبراليون إخوانهـم الأصوليين. فالليبراليون يقولون: إن كتابهم المقــدس لا يمكن أن يكون كله كلام الله كما يزعم الأصوليون، ويستدلون على ذلك بمواضع فيه جاءت مخالفة لحقائق محسوسة أثبتتها العلوم التجريبية.
ومــن غريب ما سمعت في عدم اعتبار الحقائق المحسوسةº استدلال بعضهم على هذا الزعم بحديـث: \"وكذب بطن أخيك\". والحديث كما رواه البخاري في كتاب الطب من صحيحه عن قـتـــادة عن أبي سعيد: \"أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَخِي يَشتَكِي بَطنَهُ. فَـقــــَالَ: اسقِهِ عَسَلاً، ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ اسقِهِ عَسَلاً، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: اسقِهِ عَسَلاً، ثُمَّ أَتـَـاهُ فَقَالَ: قَد فَعَلتُ. فقال: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطنُ أَخِيكَ اسقِهِ عَسَلاً، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ\"(1)
اسـتــدل الزاعم بأن الحقائق المحسوسة لا اعتبار لها في النصوص الإلهية، بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل: (صدق الله وكذب بطن أخيك) فكأنه يريد أن يقول: إنه مهما كانت الوقائع مخالفة للوحي فلا اعتبار لها، بل يجب علــى المؤمــن الصادق أن يؤمن بكلام الله - تعالى - مهمـا رآه مخـالفاً للواقــع المحسوسº لأن كلام الله - تعالى - هو الـصــــدق، والواقع ـ كـبـطـن أخ الـســائل ـ هو الكذب. فكأن هذا القائل يفترض إمكانية مخالفة الوحي للحس أو العقل، وهو افـتـــراض باطل، بل هو طعن في الشرعº لأن صدق الكلام إنما يعرف ـ كما ذكرنا ـ بموافقته للواقع. فالمخالف للواقع كذب لا محالة. والرجل إنما جاء للرسول - صلى الله عليه وسلم - طالباً شـــفـاء أخـــيـه مـــــن الإسهال، والشفاء أمر محسوس. فلما رأى أن أخاه لم يُشفَ عاد فسأل. لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كـــــان موقناً بأن كلام الله حق ـ أي إن العسل لا بد أن يشفيه، وإن بدا الأمر أولاً على غير ذلك. وصدَّق الله كتابَه ورسولَه فشُفي الرجل، أي إن الحقيقة الحسية جاءت في النهاية موافقة للآية القرآنية. لكن مقتضى كلام أخينا المشكك في الحقائق المحسوسة، أن الرجل لو سقي عسلاً مائة مرة فلم يزده شربه إلا إسهالاً، ولو أن كل مريض شرب عسلاً لم يزده شربه إلا مرضاً فلا بد أن يؤمن الناس بأن في العسل شفاءاًº بل الحقيقة أنه لو حدث هذا لكان فيه أكبر دليل على أن القول بأن في العسل شفاءاً لا يمكن أن يكون قولاً للخالق - سبحانه -. فانظر كيف تؤدي الحجج الباطلة بصاحبها إلى الطعن في الدين من حيث يريد هو الانتصار له.
هنـالـك حـديـث طـــريف يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يستدل بالحقائق الواقعية في تقرير الـمـسـائل الشرعية. روى الإمام مسلم في صحيحه عَن جُدَامَةَ بِنتِ وَهبٍ, الأسَدِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعَت رَسُـــــــولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"لَقَد هَمَمتُ أَن أَنهَى عَن الغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرتُ أَنَّ الرٌّومَ وَفَارِسَ يَصنَعُونَ ذَلِكَ فَلا يَضُرٌّ أَولادَهُم\"(2).
قال الإمام النووي في شرحه لهـــذا الحديث: \"وَاختَلَفَ العُلَمَاء فِي المُرَاد بِالغِيلَةِ فِي هَذَا الحَدِيث وَهِيَ الغَيل، فَقَالَ مَالِك فِي الـمُـوَطَّـــأ وَالأَصمَعِيّ وَغَيره مِن أَهل اللٌّغَة: أَن يُجَامِع اِمرَأَته وَهِيَ مُرضِع. يُقَال مِنهُ: أَغَالَ الرَّجُل وَأَغـيَلَ، إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ اِبن السِّكِّيت: هُوَ أَن تُرضِع المَرأَة وَهِيَ حَامِل يُقَال مِنهُ: غَالَت وَأَغـيَـلَـت. قَالَ العُلَمَاء: سَبَب هَمّه - صلى الله عليه وسلم - بِالنَّهيِ عَنهَا أَنَّهُ يَخَاف مِنهُ ضَرَر الوَلَد الرَّضِـيـــع. قَالُوا: وَالأَطِبَّاء يَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ اللَّبَن دَاء وَالعَرَب تَكرَههُ وَتَتَّقِيه. وَفِي الحَدِيث جَوَاز الغِيلَة فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَم يَنهَ عَنهَا، وَبَيَّنَ سَبَب تَرك النَّهي وَفِيهِ جَوَاز الاجتِهَاد لِـرَسُــــــولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وبه قَالَ جُمهُور أَهل الأُصُول. وَقِيلَ: لا يَجُوز لِتَمَكٌّنِهِ مِن الوَحي وَالصَّوَاب الأَوَّل\".
فالحديث يدل على أن سبب ترك النهــي هــو التجربة، تجربة أمم غير العرب، كانــوا يفعلون شيئاً لا تفعله العرب، ولم يضرهم فعلهº فتجربتهم هذه دليل على أن هذا الفعل لا ضرر فيه، فلا ينهى عنه.
بقي أن نقــول: إن الحقائق التجريبية التي يقرها الشرع نوعان: نوع يقره إقراراً عاماً ولا يبني عليه أمــــراً من أمور العبادات، ونوع يقره ويبني عليه بعض العبادات، فهو شرعي بمعنى خاص. مثال ذلك: أننا نعلم الآن أن ضوء الشمس لا يصلنا إلا بعد ثماني دقائق من مشاهدتنا لها، ونـعـلـم أنــنــا لا نرى الشيء إلا وصلنا ضوؤه. ومعنى ذلك أننا عندما نرى الشمس تشرق أو تغرب تكون قــد فـعـلــت ذلــك قبل ثماني دقائق. هذه حقيقة لا يكذبها الشرع. لكن الشرع بنى مواقيت الصلاة على الشـروق والغروب كما يظهران للناس، لا على حقيقتهما الفلكية المستقلة عن الرؤية البشرية. لـكـن مـــا بُني الشرع عليه هو أيضاً حقيقة علمية، بل هي حقيقة يحسها كل إنسان مبصر.
ومـثـال آخــــر: هو ميلاد الهلال ورؤيته. فالميلاد حقيقة علمية تجريبية قطعية كما عرف الناس منذ مئات الـسـنـيـن، وكــمــا أقر بذلك كثير من علمائنا السابقين. لكن الشرع رتب الصيام على الرؤية لا على ميلاد الهلال، ولا على إمكان الرؤية، مع أنها حقائق علمية.
________________
الهوامش:
(1) رواه البخاري، ح/2525.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد