أزمة ومواقف


بسم الله الرحمن الرحيم

 

وتجيء الأزمة كالكير الذي يُذهِب خَبَثَ الحديد، كالنار التي تحرق الأرض فتعود أخصب من أخصب منها، كالحُمَّى تأخذ الجسد وتطرحه وتمتصه لتطهره من الذنوب.. وتجيء الأزمة وفي طيها خير للأمة:

لعل عتبك محمــود عــواقبـه *** وربما صحت الأجسام بالعللِ

وهكذا لا تنفك الأمة في كل زمن عن أزمة تكون لها كالصدمة الكهربائية التي تنفضها وتحرك دماءها الساكنة.

.. إنها دروس في استثمار الأزمات:

فيا ابن الإسلام! قد أقبلت عليك أزمة.. ولا بد لك من موقف، فهاك هذه المواقف:

1 - تثبيت الناس:

الأزمات عواصف تهز الأمةº ولا بد للأمة من تثبيت..

الهلع الذي يغمر القلوب الضعيفة يجعلها كالخشبة على ظهر الموجة، كورقة في ممر الريح.

القلوب الضعيفة عرضة للمد والجزر، ولجذب الشياطين.. واليقين هو حظ المؤمنين.

فيا أيهذا الداعية! إذا جاءت الأزمة فصِح بأعلى صوتك: «يا عباد الله! فاثبتوا»(1)، «بشِّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل عملَ الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب»(2).

 يا أخا الدرب! هوِّن عليك الأمر **** لا بد مـن زوال المصـابِ

سوف يصفو لك الزمان، وتأتيك *** ظعون الأحبة الغـيابِ

وليالي الأحزان ترحل، فـ **** الأحزان مثل المسافر الجـــوابِ

في الغار.. في أزمة الهجرة.. تجمَّع شرذمة من دولة قريش يطاردون رأس الأمة - صلى الله عليه وسلم -º يلاحقونه في الجبال.. في الكهوف.. في كل الدروبº يرسلون العيون، يتتبعون الآثار، حتى وقفوا على رأسه، وهنا يلتفت أبو بكر ـ - رضي الله تعالى عنه - ـ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خائفاً عليه.. ولم يعلم أن في جوف الجبل مَن هو أشد ثباتاً من الجبل!

قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار فرأيت آثار المشركينº قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا! قال: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما! »(3).

ويستمر الثبات والتثبيتº قال أبو بكر: واتبَعَنَا سراقة بن مالك ونحن في جَلَدٍ, من الأرضº فقلت: يا رسول الله، أُتينا! فقال: «لا تحزنº إن الله معنا»، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سراقة فارتطمت فرسه إلى بطنها(4)..

{إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ إذ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثنَينِ إذ هُمَا فِي الغَارِ إذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحزَن إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ, لَّم تَرَوهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السٌّفلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُليَا} [التوبة: 40].

2 - وتثبيت العلماء:

والعلماء بشرº تعصف بهم الفتن كما تعصف بالناس، ويرتفع الإيمان وينخفض، وتشتد العزيمة وترتخي، ويميل ويثبت، وما زال السلف يوصي بعضهم بعضاً أن اصبروا:

في موقف ينسى الحليم سداده

ويطيش فيه النابه البيطارُ

 

قال الذهبي في ترجمته لإمام السنة والثابت يوم المحنة أحمد بن حنبل: «قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: صرنا إلى الرحبة، ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا. فقال للجمّال: على رِسلك. ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تُقتل ها هنا وتدخل الجنة؟ ثم قال: أستودعك الله. ومضى فسألت عنه فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الشعر في البادية، يقال له: جابر بن عامر، يُذكر بخير...!

قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوقº قال: يا أحمد، إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً. فقوَّى قلبي»(1).

ضع في يديَّ القيدَ، ألهب أضلعي

بالسوطِ، ضع عنقي على السِّكينِ

لن تستطيع حصار فكري ساعة

أو ردَّ إيماني ونور يقيني

فالنورُ في قلبي، وقلبي في يدَي

ربي، وربي حَافظي ومُعيني

فهذه أزمة (فتوى).. أزمة (كلمة الحق).. جاء فيها الأعرابي الضعيف ـ لم يحقر نفسه ـ يُثَبِّت فيها عَلَمَ الأمة..º فلم تكن هناك كلمة أقوى منها في قلب أحمد، {وَالعَصرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسرٍ, (2) إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالـحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ} [العصر: 1 - 3].

3 - ترسيخ الإيمان:

في الأزمة تُقبل القلوب على خالقها.. تلتفت إلى أعلى، {وَظَنٌّوا أَن لاَّ مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيهِ} [التوبة: 118]، وكلما رأت القلوب أن الدنيا أدبرت عنها أقبلت هي على الآخرة! فيا أيهذا الداعية!.. خذ بزمام القلوب وقدها إلى الله.

على الدعاة أن يستثمروا الأزمة.. أن يجعلوها موسماً إضافياً من مواسم الدعوة.. فهو موسم حافل، عليهم أن يضيفوا إلى نشاطاتهم برنامجاً اسمه: برنامج الأزمة، ولجنة اسمها: لجنة الأزمة، عليهم أن يضخوا القلوب بمعاني الإيمان والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة، أن يصيحوا بهم، أن يلقوا لهم بحبل التوبة في لُجَّة الأزمة..

الأزمة لا تخلو من فتنة وظلمة وجفاف وتيهº وفي الإيمان نور وغيث وهداية..

الأزمة تصيب القلوب.. تغمرها بالخوف والفوضى وتزاحم الإيمان.. فلا بد أن تملأ قلبك، أن تتصل بالله، أن تضخ القلوب بمغذيات الإيمانº {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُم فِئَةً فَاثبُتُوا وَاذكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُم تُفلِحُونَ} [الأنفال: 45].

عن هند الفراسية أن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فزعاً يقول: «سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن! مَن يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ لكي يصلين؟ رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة»(2)، قال ابن حجر ـ - رحمه الله - ـ: «وفي الحديث استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشرº كما قال ـ - تعالى - ـ: {استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وأمر مَن رأى في منامه ما يكره أن يصلي..، وفيه التسبيح عند رؤية الأشياء المهولة، وفيه تحذير العالم مَن يأخذ عنه من كل شيء يتوقع حصوله، والإرشاد إلى ما يدفع ذلك المحذور»(3).

وقال في موضع آخر: «في الحديث الندب إلى الدعاء، والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابةº لتُكشف أو يَسلم الداعي ومَن دعا له»(4).

وأزيد: ولتكون الصلاة زاداً في طريق الأزمة المظلمة: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلمº يصبح الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراًº يبيع دينه بعرض من الدنيا»(5)، {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى} [البقرة: 197].

 

عن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «العبادة في الهَرج كهجرة إليّ»(6).

4 - توضيح الدين:

في الأزمات يكثر السؤال، والقيل والقال، تتفرع الأسئلة.. تتزايد، ويفجر الموقف الواحد ألف سؤال وسؤال..

وتتلفت الأمة إلى قامات العلماء ليسمعوا الكلمة.. والكلمة هنا غالية، غالية لأنها قد تكلف الإنسان رأسه.. أو ظهره.. أو وظيفته، أو على الأقل ذماً ونفوراً..! وغالية لأنها قد تخالف هوى مَن فوقه أو مَن تحته أو مَن معه، أو حتى هوى نفسه!

وحينئذ فلا بد من قيام لله بتوضيح الدينº خاصة إذا مُسَّت الأمة في عقيدتها، وشُوِّش التوحيد، وهُشِّمت الثوابت، ونطق الرويبضة، فهنا: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إن يَكُن غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللَّهُ أَولَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا وَإن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، و «اللَّي»: هو الكذب أو التحريف، و «الإعراض»: كتمان الحقº وآفة الشهادة من أحد هذين.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو معمر القطيعي قال: لما أُحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة، وكان أحمد بن حنبل قد أُحضِرº فلما رأى الناس يُجيبون ـ وكان رجلاً ليناً ـ فانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين، فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت: أبشرº عن أبي سلمة، قال: كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إذا أريد على شيء من أمر دينه، رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون(1).

ثمن المجد دمٌ جُدنا به

فاسألوا كيف دفعنا الثمنا!

وافتح كتب التاريخº لتجد صفحات أول أزمة بعد حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -º أزمة تشتبك فيها السياسة الخارجية بالسياسة الداخلية بمسائل التوحيد والفقهº فيأتي عَلَمُ الأمة أبو بكر فيقول كلمة يوضح بها الدين.

في الصحيحين أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقــولوا لا إله إلا اللهº فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله»؟ فقال: والله! لأقاتلن مَن فرَّق بين الصلاة والزكاةº فإن الزكاة حق المال. والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رســـول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهــم على منعهــا. قال عمــر ـ رضي الله عنه ـ: فو الله! ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فعرفت أنه الحق»(2)!

ضجرَ الحديدُ من الحديد ولم يزل

في نصر «دين محمد» لم يضجرِ

حلف البليد ليظفرن بمثله

حنثت يمينك يا بليدُ فكفِّرِ

واعلـم أن المعانـي المجـردة مـن التطبيـق قـد يتمـدد العلمـاء ـ وأنصاف العلماء وأرباعهم ـ في تنظيرهاº يرفعون ويخفضون، ويحكمون ويوجبون ويحرمون، ويرسمون المواقف، فإذا وقعت الأزمة ووجب أن تُترجم تلك المعاني إلى مواقف، إلى حركة، إلى ثمن، إلى نعم أو لاº فهنا تكعٌّ النفوس، أو يتغير الموقف، خوفاً أو ضعفاً أو جهالةً إلا من شاء الله.

وقد تكون المسألة بغاية الوضوح وقت الرخاءº فإذا وقعت الواقعة فكأنما غشيتها غمامة!

ولقد تساءل أحدهم يوماً فقال: «هل غابت معاني القرآن في أحداث العراق؟.. فالناظر إلى حال أهل الإسلام تجاه نازلة العراق يرى انحساراً وذهولاً عن معاني القـرآن، ومـن ذلك قـوله ـ - تعالى - ـ: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُم فَإنَّهُ مِنهُم} [المائدة: 51]، فمظاهرة الكفار على أهل الإسلام ردة وخروج عن الملة... وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ مع سعة علمه ورحابة صدره ـ يقرر ذلك بكل صرامة قائلاً: «فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتارº فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي، من وجوه متعددة»º مع أن الحكم على التتار ـ في حد ذاته ـ مشكل على بعض أهل العلم، لكن الإمام ابن تيمية يقطع بكفرهم، وكفر من لحق بهم وظاهرهمº فما ظنك بالقتال مع الأمريكان الصليبيين المقطوع بكفرهم وظلمهم واستبدادهم؟!.. ولم يقتصر علماء الدعوة السلفية على مجرد تنظير هذه المسألةº بل نزّلوا هذا الحكم الشرعي على ما يلائم من الوقائع وبكل رسوخ وتحقيق، والناظر إلى رسالتيّ «الدلائل» للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، و (النجاة والفكاك من مولاة المرتدين وأهل الإشراك) للشيخ حمد بن عتيق، ومناسبة تأليفهما يدرك جلياً صرامة هؤلاء الأعلام تجاه هذه القضية»(3).

5 - استشعار الأزمة:

وقد تمر الأزمة بالأمة فلا يبالي الرجل بما كان وما يكون، العالم يضطرم وهو في ثلاجةº كأن الأزمة مجرد شهر جديد من شهور السنةº تسير حياته فيه كما سارت في الشهر الذي قبلهº لم يغير جدوله، ولم يُعِدّ نفسه، ولم ي

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply