المحنة ( 1 )

( العلاقة بين الدولة والعلماء ):

إذا ذكرت (المحنة) في التاريخ الإسلامي فإن أول ما ينصرف وهل المسلم إلى المحنة التي تعرض لها علماء أهل السنة في بداية القرن الثالث الهجري، وفي عهد الخليفة العباسي المأمون، كما ينصرف الذهن أيضاً إلى الإمام أحمد ابن حنبل كعلم بارز من أعلام أهل السنة، الذين ثبتوا في المحنة عندما أرادت الدولة فرض رأيها بالقوة.

إن المحن الداخلية أقسى وأخطر من المحن الخارجية، ففي الحالة الثانية تتكاتف الجهود، وتتحد الأمة في وجه عدوها، بل إن بعض الأعداء في الخارج استوعبتهم الحضارة الإسلامية وتحولوا إلى الإسلام، والمحن الداخلية تنبىء عن خلل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الدولة والأمة، جاء في لسان العرب: \"امتحنته: خبرته وابتليته، وفي حديث الشعبي: المحنة بدعة وهي أن يأخذ السلطان الرجل فيمتحنه ويقول: فعلت كذا وكذا، فلا يزال به حتى يقول ما لم يفعله\"(1).

وهذا الخلل قد يكون في إقامة الدين، أو سياسة الأمة والخوف من الرأي المخالف، وهو إنذار خطر يشتت القوى، ويُذهب بالآمال.

إن الحديث عن المحنة سنة (218 هـ) هو حديث عن الحاضر أيضاً، فإن ما جرى من وقائع يعين على فهم ما يجري اليوم من العلاقة بين (الدولة) و(العلماء) الذين يمثلون تيار أهل السنة، والذين يُتهمون في الدوائر العالمية بـ(الأصولية). كانت المحنة تدور حول قضية مركزية (وإن كان هناك أسباب أخرى سنشرحها بإذن الله) قضية تتعلق بالعقيدة التي تبناها الخليفة المأمون وأخذها عن المعتزلة الذين أخذوها عن الجهميةº وهي قولهم أن القرآن مخلوق، ذلك لأن الجهمية يعطلون صفات الله وينفونها، وهذا يعني نفي صفة الكلام ونفي أنه - سبحانه - ما زال متكلماً حين يشاء، وجاء المعتزلة متأثرين أو مرتكسين تجاه المناقشات مع النصارى والملل الأخرى فقالوا: إن إثبات صفات لله يعني تعدد الآلهة وإذا قلنا إن الكلام قديم، فهذا مثل ما يقول النصارى إن كلمة الله غير مخلوقة وهي قديمة، وبما أن عيسى - عليه السلام - كلمة الله فهو قديم، إذن هو إله، - تعالى - الله عما يقولون علواً كبيراً، فالنصارى وقعوا في الغلو والشرك والمتشابهات، وجاءت المعتزلة ووقعوا في الطامات عندما ظنوا أنهم يدافعون عن عقيدة (التوحيد) أمام النصارى والملل الأخرى، وكان الإمام أحمد - رحمه الله - يقول لهم إنما كان عيسى - عليه السلام - بكلمة (كن) ليس هو الكلمة.

كيف تتبنى دولة جزءاً من عقيدة مبتدعة، ثم تحاول فرضها على الناس، أم أن في الأمر شيئاً آخر اختلطت فيه البدعة بحاجات في نفس (المأمون) ولأمر تريد الدولة تحقيقه؟ ثم لابد لها من سند ديني واستظهار بفريق من أهل البدع لمواجهة أهل السنة، فإن المحنة طال أمدها زمن المأمون والمعتصم والواثق، لتشمل أكثر علماء أهل السنة، بل كل عامل في الدولة، ووصلت إلى أسرى المسلمين، فكان الأسير يسأل عن خلق القرآن فإن أجاب افتُدي وإلا فلا.

لنعد إذن لوقائع المحنة ولنتكلم عن عناصرها الرئيسية: العلماء الذين امتحنوا، الدولة ممثلة بالمأمون، المحرضون عليها من الجهمية والمعتزلة.

جاء في أحداث 212 هـ: \"وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن، وتفضيل علي بن أبي طالب، وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2) وكان المأمون يتخوف من إظهار هذه البدعة، قال ابن الجوزي: \"وكان يتردد ويراقب بقايا الشيوخ، ثم قوي عزمه وامتحن الناس\"(3) وروى قاضي المأمون يحيى بن أكثم أن المأمون قال له: لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق\"(4).

ويزيد بن هارون من كبار علماء الحديث، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكأن المأمون خشي من يزيد أن ينكر عليه ويسفه رأيه، ولا يكتفي بعدم الإجابة إلى البدعة، وقد همَّ المأمون أيضاً \"بأن ينادي في الناس ببراءة الذمة ممن ترحم على معاوية، أو ذكره بخير\"(5).

وكان الذي ثناه عن هذا العمل القاضي يحيى بن أكثم وقال له بأن العامة لا تحتمل هذا، وهو أيضاً الذي ثناه عن إباحة متعة النساء، وذكر له حديث علي رضي الله عنه في تحريمها، فتراجع المأمون وأمر بتحريمها ولهذا قال أبو إسحاق الأزدي القاضي وقد ذكر يحيى بن أكثم: \"كان له يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله\"(6).

هذه هي البدايات ونضوج الفكرة عند المأمون، أما بداية المحنة ففي سنة 218 حين كتب وهو في الرقة من بلاد الشام إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي: \"... وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية، وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية، أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك و- تعالى - وبين ما أنزل من القرآن وأطبقوا على أنه قديم أول، لم يخلقه ويحدثه ويخترعه وقد قال - تعالى -: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} فكل ما جعله فقد خلقه، ثم هم الذين جادلوا بالباطل، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، ثم أظهروا أنهم أهل الحق والدين والجماعة فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله إلى موافقتهم عليه، فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة، وأحق من يتهم في صدقه ولا يوثق بعمله، فاجمع من بحضرتك من القضاة واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، وابدأ بامتحانهم عما يعتقدون في خلق القرآن، وأعلمهم أني غير مستعين في عملي بمن لا يوثق بدينه... \"(7) ولم يكتف المأمون برسالته الأولى بل شفعها برسالة ثانية وفيها يطلب من إسحاق بن إبراهيم أن يشخص إليه علماء سماهم: محمد ابن سعد (صاحب الطبقات) وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين وزهير بن حرب، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود وأحمد بن الدورقي. فأُشخصوا إليه، وامتحنهم وسألهم عن خلق القرآن فكلهم أجاب أن القرآن مخلوق، وأعيدوا إلى بغداد، وأحضروا مرة ثانية ليشهر أمرهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، ثم خلي سبيلهم(8). وينقل الذهبي عن ابن معين معتذراً: \"جَبنا خوفاً من السيف\"(9)، ثم يرسل المأمون رسالة ثالثة، وكأنه في عجلة من أمره يريد أن يفضي بكل ما في جعبته، ويحمل الناس على عقيدة مبتدعة، فيقول: \"أما بعد: فإن من حق الله على خلفائه في أرضه، وأمنائه على عباده، أن يجهدوا لله أنفسهم وينصحوا له فيما استحفظهم وقلدهم\" ثم يهاجم علماء أهل السنة ويتهمهم باتهامات شتى، ينضح منها أثر الاعتزال، ويؤكد على شيء لم يذكره في رسائله السابقة فيقول عن مخالفيه: \"وضاهوا به قول النصارى في ادعائهم في عيسى بن مريم أنه ليس بمخلوق، إذ كان كلمة الله، وقد عظم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثّلم في دينهم، وسهّلوا السبيل لعدو الإسلام... \"(10).

بعد هذا الكتاب أحضر إسحاق بن إبراهيم جماعة الفقهاء والقضاة والمحدثين منهم: أبو حسان الزيادي، وبشر بن الوليد القاضي وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غانم، والذيَّال بن الهيثم، وسجادة والقواريري وأحمد بن حنبل ومحمد بن نوح... وغيرهم، فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين، فتلكأ بعضهم، وأجاب بعضهم صراحة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ثم أعاد عليهم الامتحان مرة ثانية فأجاب القوم إلا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فشدا في القيود، وأرسلا إلى طرسوس، فلما بلغا الرقة تلقاهم خبر وفاة المأمون، حيث توفي في قرية من قرى الثغور مع الروم، ودفن في طرسوس(11)، فردّا إلى بغداد وتوفي محمد بن نوح في الطريق، وأدخل الإمام أحمد في حبس العامة.

استمرت المحنة زمن المعتصم محمد بن هارون الرشيد، بل زادت وتأججت، وحمل أحمد بن حنبل إلى دار المعتصم، فناظروه وكلموه وهو يرد عليهم، وكأن المعتصم يريد أيَّ إقرار منه ليطلقه، ولكن أحمد بن أبي دؤاد القاضي والشخصية الأولى عند المعتصم، كان يؤزه على متابعة المحنة، وحتى لا يقال أن عالماً غلب الدولة، ويقول للمعتصم عن أحمد: هو والله ضال مبتدع، فضرب الإمام ضرباً شديداً حتى أغمي عليه مرات، وأحد المنافقين من حاشية المعتصم (ابن سماعة) يقول: \"يا أمير المؤمنين اضرب عنقه ودمه في رقبتي، فقال ابن أبي دؤاد: لا تفعل، فإن قتل في دارك. قال الناس: صبر حتى قتل فاتخذوه إماماً\"(12).

ومكث الإمام أحمد في السجن ثمانية وعشرين شهراً، ثم خلي عنه ورجع إلى الحديث والإفتاء، وحضور الجمعة والجماعة، حتى مات المعتصم وتولى الواثق، فأمر بأن لا يجتمع عند أحمد أحد، ولا يساكنه في بلده، فاختفى الإمام حتى هلك الواثق وانتهت المحنة بمجيء المتوكل الذي أعاد لأهل السنة اعتبارهم.

امتدت المحنة لتشمل كبار علماء الحديث، والفقهاء والقضاة، وكان أول الممتحنين عفان بن مسلم المحدث، سأله إسحاق بن إبراهيم عن خلق القرآن فقرأ عليه {قل هو الله أحد...} وكان المأمون ينفق عليه خمسمائة درهم فقطعها، وأبو نعيم الفضل بن دكين من كبار المحدثين وثقاتهم، وفي الشام أبو مسهر بن عبد الأعلى الغساني الفقيه المحدث، قال عنه الذهبي (شيخ الشام)(13) امتحنه المأمون بنفسه، وحمله معه إلى الرقة، ثم وجهه إلى العراق حيث توفي في بغداد بعد أشهر قليلة، ويظهر أن المأمون حانق عليه لأمر آخر أيضاً، فقد قامت ثورة في دمشق، قبل تولي المأمون، يقودها السفياني (من ذرية يزيد بن معاوية) وكاد أن يتم له أمر الشام لولا النزاع بين اليمنيين والمضريين، وقد ولى السفياني هذا أبا مسهر قضاء دمشق كرهاً(14)، قال الذهبي بعد ترجمة أبي مسهر: \"قد كان المأمون بأساً وبلاء على الإسلام\"(15) ومن مصر نعيم بن حماد، امتحن زمن المعتصم، وحبس في سامرا، ولم يزل محبوساً حتى مات سنة 228 هـ، ومن علماء مصر يوسف بن يحيى البويطي الفقيه، صاحب الشافعي، توفي في بغداد في السجن، وكان عابداً مجتهداً، قيل: كان ابن أبي الليث الحنفي يحسده، فسعى به إلى الواثق، فأمر بحمله إلى بغداد(16) وفي آخر عهد الواثق أمر بامتحان الأئمة والمؤذنين وقتل أحمد بن نصر الخزاعي بيده، وانتهت المحنة بوفاته سنة 232 هـ.

 دولة المأمون:

كان عمل المعتصم والواثق استمراراً لما بدأه المأمون، والسؤال هنا: ما هي الدوافع التي جعلت المأمون يقوم بكبر هذه المحنة؟ وهو من الذكاء ما يجعله يعلم أنه ليس من السهل فرض قضية مثل (خلق القرآن)، والمصادر التي بين أيدينا تصفه بأنه \"من رجال بني العباس حزماً وعزماً ورأياً وعقلاً\" وتصفه بأنه \"قرأ العلم والأدب والأخبار وعلوم الأوائل (الفلسفة) وأمر بتعريب كتبهم\"(17)، وهذا الوصف ليس فيه مبالغة، ففيه شبه بحزم المنصور، ونسك المهدي ولكن فيه شبه بوالده الرشيد أيضاً، في حدة العاطفة وتقلبها أحياناً، فالرشيد الذي ترك الأمور للبرامكة انقلب عليهم وبطش بهم، والمأمون يقتنع بفكرة فيريد أن يبطش بأهل السنة.

ابتلي المأمون ببدعتين لم يبتلَ أحد من أجداده بهما وهما: التشيع والاعتزال، فقد هم بسب معاوية على المنابر فمنعه القاضي يحيى بن أكثم، وبايع لعلي الرضا وحضر البيعة بعض رؤساء المعتزلة، وهو معجب بشخصيات المعتزلة وكان من ندمائه ثمامة بن أشرس، قال له مرة: \"يا ثمامة قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضنا رأي أصلح في تدبير المملكة\"(18) وكان معجباً بالعلاف وأحمد بن أبي دؤاد، وبشر المريسي الذي أكثر القول في مسألة (خلق القرآن) وكان المأمون محباً للعلم والمناقشات، ومعروف عن المعتزلة حبهم للجدل والمخاصمات الفكرية، ويبدو لي أنه أصيب بعقدة المثقف \"المتنور\" كما هي عقدة المعتزلة، وكما هي عقدة أمثالهم في عصرنا، فهو ينظر إلى أهل السنة نظرة دونية ويحقد عليهم من هذا الجانب، وإذا كان المأمون لا يتبنى كل آراء المعتزلة لكنه متأثر بهم، ومقتنع ببعض آرائهم. فلم يكن امتحانه لأهل السنة لغرض سياسي تحت ستار عقيدي (خلق القرآن) بل جمع بين الغرضين، ففي رسائله إلى إسحاق بن إبراهيم نلاحظ تخوفه من تعاظم دور أهل السنة، الذين تطيعهم العامة وتلتف حولهم الجماهير، ويحضر مجالسهم عشرات الآلاف ويصف جماهير المسلمين في رسالته الأولى \"السواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة\" ويقول عن العلماء: \"ثم أظهروا أنهم أهل الحق والدين والجماعة، فاستطالوا بذلك على الناس\" فمن الواضح أنه محنق على هؤلاء العلماء الذي هم (أهل الدين والجماعة) وتبعهم الناس، ويحاول أن يقلل من مكانتهم \"أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله\" فكيف عرف أنه تخشع لغير الله؟ ولكنها آراء المعتزلة الذين يصفون أهل الحديث بـ (الحشوية). وفي رسالته الثانية يوجه اتهاماته للعلماء: \"فأما ما قال المغرور بشر بن الوليد، فقد كذب وكفر... \" وأما الذيَّال بن الهيثم فاتهمه بسرقة أموال الأنبار \"وأما المعروف بأبي نصر التمار، فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخسارة متجره\" \"وأما محمد بن حاتم وابن نوح فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا... \" وهكذا يمضي المأمون في اتهامهم فرداً فرداً، إنه يفكر بهؤلاء الذين اكتسحوا الساحة من أمثال يزيد بن هارون وعفان بن مسلم ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل... وغيرهم كثير من مئات العلماء، وهم تيار سني مخالف للتشيع والاعتزال، يتكلمون الحق في بني أمية وبني العباس، ويذكرون ما صح عنهم من فضائل الصحابة، وهذا مما يغيظ المأمون المتأثر بالتشيع والاعتزال، ولذلك كان يعمد إلى التشهير بالعالم بين الناس ولا يكتفي بأنه يوافقه على رأيه في خلق القرآن، حتى يفقد هذا العالم التأييد الشعبي، ويظن الناس أنه (لم يثبت على الحق) وبلغتنا المعاصرة يريد المأمون أن (يحرقهم) أمام العامة. إنه يعلم قوة هذا التيار عندما كان في خراسان، وقتل أخوه الأمين في بغداد، وسادت الفوضى وانتشر أهل الفساد من الشطّار والزعار، فقام أهل العلم وضبطوا الأمور، والتف الناس حولهم، فأنى للمأمون جمع الناس حوله بعقيدة مبتدعة كما يجتمعون على علماء الفقه والحديث، لقد سلك طريقاً وعراً، ما سلكه أحد إلا قُصم، وكان الأجدر الابتعاد عن هذه المزالق، ولكن البدعة تجر صاحبها إلى مالا تحمد عقباه، وهو الذي يقول: (لو عرف الناس حبي للعفو) فلم إذن هذه الشدة على أهل السنة؟ أم أن جريمتهم سياسية، فلا يعفى عنها؟!.

المحرضون:

لابد في هذه المحنة من طرف ثالث، هو المحرض والمؤيد والمشاغب، وبعض رؤوس الجهمية والمعتزلة كانوا بانتظار هذه الفرصة للحد من نفوذ أهل السنة. والمعتزلة لم يكونوا كتلة واحدة، بل تيار فكري وقد دخل عليهم التشيع، فوافقوا المأمون في هواه وبعضهم (وهم قليل) مثل بشر بن المعتمر كان لا يدخل على المأمون لأنه فاسق بنظره، ولكن أكثر المعتزلة كانوا من المؤيدين وتسلط أحمد بن أبي دؤاد على المعتصم والواثق وامتلك أمرهم في قضية المحنة، وكان إدارياً ذكياً، كان هؤلاء في حنق من نفوذ علماء الحديث والفقه، وفي غيظ من عدم التفات الناس إلى علماء الكلام والفلسفة، وقد حاول من قبلهم فئة الكتاب من الأعاجم ترجمة كتب الفرس ليشيعوا الطريقة الساسانية في الملك، مثلما فعل ابن المقفَّع، وليكون لهم موقف مزاحم لموقع الفقهاء.

ولابد للدولة في مثل هذا الأمر من سند من فرقة من فرق الإسلام في مواجهة علماء أهل السنة، لابد لها من أدوات فكرية يتولون الإشراف على هذه المعركة، فالمصلحة مشتركة بين المأمون والمعتزلة، وهو وإن كان يعتقد بمسألة (خلق القرآن) ويريد فرضها على الناس ولكنه في الوقت نفسه يريد تحجيم دور العلماء للاطمئنان على أن الدولة تمسك بكل الخيوط. ماذا تقول كتب التراجم عن محرضي الفتنة من المعتزلة والجهمية: \"وأما بشر المريسي فهو الذي جردَّ القول بخلق القرآن وكان مرجئاً، أبوه يهودي يعمل صباغاً في الكوفة وكان يقول: السجود للشمس والقمر ليس بكفر، ولكنه علامة الكفر(19). قال المروذي: سمعت أبا عبد الله (الإمام أحمد) وذكر المريسي فقال: كان أبوه يهودياً، أي شيء تراه يكون؟ (20) وكان ثمامة بن أشرس النميري البصري خصيصاً بالمأمون، يستشيره في المسائل السياسية، وكان ظريفاً نديماً صاحب مُلَحَ، فهو يستخدم الهزل للوصول إلى قلب المأمون، وأما أحمد بن أبي دؤاد فهو الذي أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على الامتحان بخلق القرآن، وهو الذي كان يقول للمعتصم بشأن الإمام أحمد: \"ليس من التدبير تخليته هكذا يا أمير المؤمنين، هذا يناوىء خليفتين، هذا هلاك العامة\" وكان (برغوث) من الجهمية يقول للمعتصم: يا أمير المؤمنين كافر حلال الدم، اضرب عنقه، يعني الإمام أحمد ويظهر أن دعايات المعتزلة كان تشوه الصورة عن العلماء فكان الإمام أحمد متهماً عند المأمون والمعتصم بأنه يحب الرئاسة وهو أبعد الناس عن ذلك.

ومن المداهنين للدولة، المحرضين على أهل السنة، الكاتب المشهور الجاحظ، الذي استخدم الأدب للترويج لعقائد المعتزلة وكان يتوسل لإرضاء العباسيين بالسباب الدائم للعامة ومعاوية وبني أمية. يقول عن عام الجماعة (40 هـ): \"بل كان عام فرقة وقهر وجبرية\" ويقول عن معاوية رضي الله عنه: \"وقد أربت عليهم (معاصري معاوية) نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا، فقالت: لا تسبوه فإن له صحبة... \"(21).

يقول العلامة المرتضى اليماني عن هذه الفئة التي تزين الباطل: \"وزاد الحق غموضاً وخفاء أمران: أحدهما خوف العارفين - مع قلتهم - من علماء السوء وسلاطين الجور، وشياطين الخلق، وما برح المحق عدواً لأكثر الخلق\"(22).

هكذا فعل العلماء المعادون لابن تيمية، حين كانوا يخوفون الدولة منه، وحتى الدولة العلمانية تستظهر ببعض المشايخ حين تريد ضرب العمل الإسلامي، وهكذا فعل جمال عبد الناصر حين استعان ببعض المشايخ ليقولوا عن الحركة الإسلامية (إنهم خوارج) وهكذا تفعل الدول الآن، تتقوى بفرقة من الفرق أو شيخ مداهن، لإصدار الفتاوى، وتبرير تصرفات الحاكم، ويؤلفون الكتب، ويتهمون التيارات الإسلامية بـ (الفتنة) و (الخوارج) وأما المعتزلة الجدد (كسابقيهم) فيتهمون أهل السنة بالجمود على النصوص، وعدم فهم الإسلام المتطور.

إنه لأمر محزن حقاً، أن يبتلى المسلمون بأمثال هؤلاء، وأن يطعن الصف الإسلامي ممن يدعي أنه حريص على الإسلام، وهذا ما حدا بمفكر مثل مالك ابن نبي أن يقول في نبرة أسى: \"إنه ما أصابني الاستعمار بأذى يعطل نشاطي إلا عن طريق هيئة دينية، أو سلطة في بلاد عربية\".

----------------------------------------

(1) - لسان العرب: 6/215.

(2) - تاريخ الطبري 8/619، سير أعلام النبلاء 10/286.

(3) - سير 11/237.

(4) - المصدر السابق 11/237.

(5) - المصدر السابق 10/281.

(6) - وفيات الأعيان 6/151.

(7) - الطبري 8/631.

(8) - الطبري 8/634.

(9) - سير 10/288.

(10) - الطبري 8/635.

(11) - سير 11/259.

(12) - المصدر السابق.

(13) - سير 10/244.

(14) - سير 10/232.

(15) - المصدر السابق 10/234.

(16) - ابن العماد: شذرات الذهب 3/143 وأعاذنا الله من حسد العلماء.

(17) - سير 10/273.

(18) - الزبير بن بكار: الأخبار الموفقيات/41.

(19) - وفيات الأعيان 1/277.

(20) - سير 10/199.

(21) - رسالة في النابتة 2/10.

(22) - القاسمي: محاسن التأويل 4/82 نقلاً عن: إيثار الحق على الخلق.