الاعتدال والتوسط في التوسط والاعتدال


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

  التوسط والاعتدال مطلب ( سهل ممتنع ) حسن المظهر, صعب المعشر, ومسافة شاسعة تنقطع لها أعناق  المطي تفصل بين رفعه كشعار وممارسته كخيار عند كثير من الناس, ومع بعض التأمل نجد:

 

أولا: أن جاذبية المصطلح تستر ضبابية المعنى, والحد, والماهية في كثير من الاستعمالات... بمعنى أن تحديد الوسط – أحيانا كثيرة – هو فرع عن تحديد طرفي الشدة والتساهل والحكم عليهما والتي هي ساحة الإشكال ومربط الاختلاف والرَّاغبُ الأصفهانيٌّ يقول: « والوسط تارة يقال فيما له طرفان مذمومان كالجود الذي هو بين البخل والسَّرَف، فيستعمل استعمالَ القصد المصون عن الإفراط والتفريط، فيمدح به نحو السواء والعدل والنَّصَف، نحو قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً)  ( البقرة: 143 ). وعلى ذلك قوله - تعالى -:  (قَالَ أَوسَطُهُم ) ( القلم: 28 ). وتارة يقال فيما له طرف محمود, وطرف مذموم كالخير والشر، ويكنى به عن الرَّذِل، نحو قولهم: فلان وسط من الرجال، تنبيهاً أنه قد خرج من حدّ الخير » .

وبمعنى أن كل قضية في نفسها - كيفما كانت -  تحمل الأوجه الثلاثة ( الإفراط  التفريط والاقتصاد ) في تسلسل يطول حتى إنك ربما تسمع من يقول - مثلا – \" أن فلان متساهل بين المتشددين في المجموعة المعتدلة التي تتبنى الرأي المتشدد في القضية \".... وبمعنى أن ما يصدق وصفه  على قضية ربما يصدق عكسه على أخرى ونحن متى تحاكمنا إلى منطق (متشدد) في الموضوعية فان  الوصف المطلق المذكور لمثل هذه المعاني النسبية هو إجراء غير دقيق  في تقييم مجمل المواقف والآراء.

 

ثانيا: أن التوسط ليس دائماً هو  الخير المحض إذ أن لكل مقام مقال وسياسة الشرع في أمر العامة تجعل خير الأمة ومصلحتها في التشدد تارة, وفي التساهل تارة, وفي التوسط تارة أخرى, كما في مداراة النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض المنافقين حتى قالوا \" هو أذن \" وفي هجره للثلاثة الذين خلفوا و في شدة أبي بكر - مع أنه أرحم الأمة - على المرتدين وفي غالب سيرة الفاروق مثل إمضاءه لطلاق الثلاث حين شاع تساهل الناس فيه. ومواطن الموازنة و التغليب بين المتقابلات في الشرع شأن شائع مثل الخوف والرجاء و الموالاة والمعاداة. و قد جعل الله الاقتصاد في مرتبة دون الكمال الممدوح فقال: ( ثُمَّ أَورَثنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصطَفَينَا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُم ظَالِمٌ لِّنَفسِهِ وَمِنهُم مٌّقتَصِدٌ وَمِنهُم سَابِقٌ بِالخَيرَاتِ بِإِذنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضلُ الكَبِيرُ ) ( فاطر: 32 ) بل قد ذم الله المنافقين مع دعواهم بالسعي للتوفيق والإحسان (التوسط والاعتدال) فقال: ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله ان أردنا إلا   إحسانا وتوفيقاً أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا). النساء

 

ثالثا: أن التوسط مرجعه الشرع لا أهواء الناس وتقديراتهم والحد الذي قررته الشريعة هو الاعتدال يقول ابن القيم في( المدارج):  ( ودين الله وسط  بين الجافي عنه والغالي فيه كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد).

 

رابعا: التوسط والاعتدال قد يصبح ( قيدا )  يكبل المرء عن ( العزيمة ) حيث يجب أن تكون.. وعن ( الشدة ) في مظانها وعن النطق ( بالحقيقة ) حين تكون الحقيقة مرة, أو مؤلمة... وقد يتحول إلى (عقدة) أو (ورع بارد) تجر صاحبها إلى المداهنة, و المجاملة الضارة, ورد الحق, ورفع الوضيع, ووضع الرفيع, وربما يصل الأمر إلى (وسوسة) يرى صاحبها ( التشدد ) في كل وضوح قاطع, وفي كل حق ناصع.. يعيش في مناطق رمادية.. يلهث وراء أنصاف الحقائق وأنصاف الحلول و أنصاف المواقف.. وسوسة تجعله يتكلف البحث عن حسنات الشيطان, وسقطات الملائكة حتى يكون منصفاً معتدلاً,

يقول المازري: راداً على بعض ما اعتذر به عن الغزالي: \" ...ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف على اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله, وكذبه إلى طلب التأويل..\"

 

أخيراً: ينبغي أن لا يفهم أن هذا دعوة للتخلي عن التوسط والاعتدال بل هو دعوة للتوسط والاعتدال في التعامل مع هذه القضية نفسها.. توسط لا يجعل ما قيل عنه أن ( فيه خلاف ) من الحلال البلال و الكلأ المباح.. توسط لم ينشأ جراء هزيمة نفسية, أو رهبة اجتماعية يستطيع أن يقول صاحبه \" كفري \" ما يقول عنه آخرون \" غير إسلامي\".. توسط لا يحجر اللين, ولا يميع الصلد.. لا يضيق الواسع, ولا يوسع الضيق, يقول شيخ الإسلام: (ومن سلك طريق الاعتدال، عظم من يستحق التعظيم ، وأحبه وولاه ،   وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات ، فيحمد ويذم ، ويثاب ويعاقب ، ويحب من وجه ويبغض من وجه ،  هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ، خلافاً للخوارج، والمعتزلة، ومن  وافقهم).

والله ولي التوفيق

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply