العقل ذاتي الدفع!


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد فيا أيها الأحبة الكرام..

إن الله عز وجل خلق الخلائق ورفع بعضهم فوق بعض درجات:

فمنهم الشقي و السعيدُ              

و ذا مقرب و ذا طريدُ

 

فمن يشأ و فّقه بفضله                  

و من يشأ أضله بعدله

 

لحكمة بالغة قضاها                      

يستوجب الحمد على اقتضاها

 

(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك)، وكما أن الله فاوت بين الخلق فمنهم شقي وسعيد، كذلك فاوت بينهم في الأرزاق والأخلاق وفاوت بينهم في الحجا و العقول، وهكذا في سائر ما آتاهم.

ونعم الله التي آتاها عباده كثيرة جداً (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) والواجب شكر هذه النعم جميعاً، قال الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم).

وكثير منّا قد يتفطن لبعض تلك النعم فيؤدي حق الله فيها، قد ينعم الله على البعض بالمال فلا يبخل ولا يتردد في إخراج زكاته، والتصدق منه، وقد ينعم الله على آخر بالسلامة والصحة –وهو يرى الناس من حوله يتخطفون- فيؤدي حق الله بتسخير جوارحه وأركان في طاعة ربه، ومثل ذلك قل في كثير من النعم.

ولكن هناك نعمة من أعظم النعم التي حباها الله عز وجل للإنسان، ثم إن كثيراً من الناس بل كثير من الطيبين غافل عن شكرها.

هذه النعمة هي نعمة العقل، التي ميز الله بها الإنسان عن كثير من المخلوقات.

كثير من الناس بل من أهل الخير والفضل، إذا وجّهته أو دللته على خير بادر إليه وفعل، وإذا نبهته على خطأ كف عنه وقصر، وهذا جيد.

ولكن إذا نظرت لأحواله في دنياه وجدته صاحب حيلة واقتدار على أسباب الرزق، ينشئ المشاريع ويخترعها، ويحكم ما قام منها ويتقنها، دائب الفكر في ما يصلح دنياه، يأتي في ذلك بالعجائب، يُسأل ويُستشار، ويُورَدُ عن رأيه ويُصدَر، ولكنه فيما يتعلق بآخرته آلة صماء، جامد الفكر، متحجر العقل، ينتظر من يحركه أويفكر عنه ثم يقول له: هذا مشروع فبادر، وذاك خير فسابق! وليس هذا من شكر نعمة العقل التي حباه الله إياها، وأمره أن يعملها ويوجهها فيما يصلح دنياه وآخرته، ولهذا كثيراً ما نقرأ في ذم أقوام:

(أفلا يعقلون) (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون) ( صم بكم عمي فهم لايعقلون) مع أن لهم عقولاً أشادوا بها الأرض وعمروها، ولكنهم لم يعملوها فيما يصلح آخرتهم ... أقول هذا الكلام ولاسيما أن المسلمين يعيشون أحولاً على مستوى الأسرة أو البلدة أو الدولة، تقتضي عمل أمة، لا يكتفى فيه بعقل واحد أو إثنين، ولا ألف ولا ألفين، بل الأمة بحاجة للعقول في كافة مناحي الحياة، شريطة أن يكون هم تلك العقول ما خلقت له، فتكون دائبة الفكر في السبل التي تمكنها من رفعة دينها، وما ينفعها في الآخرة والأولى.

والمتأمل لحال سلفنا الكرام يجد إعمالهم لعقولهم وما قادهم إليه ذلك من خير، واضحاً جلياً وأذكر صورة واحدة تبين ذلك:

كان عمرو بن الجموح سيداً من سادة بني سلمة وشريفاً من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له \"مناة\" يعظمه ويطهره، فلما أسلم فِتيان بني سلمة: أبَّنَه معاذ بن عمرو، ومعاذ بن جبل في فتيان منهم كانوا ممن شهد العقبة، فكانوا يدخلون الليل على صنم عمرو فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة -وفيها عذر الناس- منكساً على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ ثم يغدو فيلتمسه فإذا وجده غسله وطيبه ثم يقول: والله لو أعلم من يصنع لك هذا لأخزينه. فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه، ففعلوا به ذلك، فيغدو فيجده فيغسله ويطيبه. فلما ألحوا عليه استخرجه فغسله وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال: إني والله لا أعلم من يصنع بك ذلك فإن كان فيك خير فامتنع هذا السيف معك! فلما أمسى عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر الناس. وغدا عمرو فلم يجده فخرج يبتغيه حتى وجده مقروناً بكلب فلما رآه أبصر رشده وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه.

وقال عمرو حين اسلم وعرف من الله ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصره من أمره ويشكر الله الذي أنقذه من العمى والضلال:

تالله لو كنت إلهاً لم تكن                

أنت وكلب وسط بئر في قرن

 

أف لمصرعك إلهاً مستدن              

الآن فتشناك عن سوء الغبن

 

فالحمد لله العلي ذي المنن                       

الواهب الرزاق وديان الدين

 

فانظر كيف دل هذا إعمال عقله وتفكره في حال الصنم إلى الإيمان بالله وتوحيده، على النقيض من أولئك الذين نكسوا على رؤسهم فقالوا مجادلين لنبيهم إبراهيم عليه السلام حين كسر الأصنام وقال منبهاً لهم: (بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَاسأَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) فقالوا: (لقد علمت ماهؤلاء ينطقون) فقال لهم الخليل عليه السلام ناعتاً إياهم بعدم استخدام العقول: ( قَالَ أَفَتَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُم شَيئًا وَلَا يَضُرٌّكُم ~ أُفٍّ, لَّكُم وَلِمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعقِلُونَ).

أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى من النيات والأقوال والأفعال، وأن يجعلنا من أهل النظر والتفكر والاعتبار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply