يا طالب العلم ابدأ بهذا أولا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

فإن من أول ما يجب على طالب العلم معرفته وإدراكه قبل طلب العلم وتحصيلهº أن يعلم أن هناك صفات يجب أن تلزم طالب العلم، وأن تصاحبه في عمره وسيره إلى الله - عز وجل -، فإن أخل بهذه الصفات أخل بمكانته في العلم وتعثر في طريقه إلى الآخرة...

فمن هذه الصفات أنه ينبغي له أن يتصف بأنواع الجود والكرم كلها، فيجود بنفسه في طاعة اللّه وفي سبيل نشر العلم، ويجود بوقته في تحصيل العلم وبلوغ الغاية منه، ويجود براحته تعبًا في التعلم وتعليم غيره، ويجود بعلمه فينشره بين الناس، ويجود بجاهه فيشفع لأصحاب الحاجات، ويجود ببدنه في خدمة الناس والإِصلاح بينهم وإعانتهم، ويجود بعرضه فيعفو عمَّن اغتابه أو سبَّه، ويجود بصبره فيصبر على أذى الناس، ويجود بالخلق الحسن وبشاشة الوجه والبسطة، ويجود بما في أيدي الناس فيزهد فيه ولا يلتفت إليه، وكل أنواع الجود والكرم ينبغي أن يأخذ منها طالب العلم أكبر الحظ والنصيب، إقتداء بنبيه - صلى الله عليه وسلم -

ومن أهم هذه الخصال وأرفعها \"زهده فيما في أيدي الناس\"، وعدم التطلع له، وهذا ما أوقع الكثير من طلبة العلم في النكبات، والارتكاس والتدني بعد العلو والرفعة.

عَن أَبي العَبَّاس سَهلِ بنِ سَعدٍ, السّاعِدِيّ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ,، إِذَا أَنَا عَمِلتُهُ، أَحَبّنِيَ اللّهُ، وَأَحَبّنِي النّاسُ، فَقَالَ: (ازهَد فِي الدّنيَا، يُحِبَّكَ اللّهُ. وَازهَد فِيمَا عِند النّاسِ، يُحِبّكَ النّاسُ) [حديث حسن، رواه ابن ماجه، وغيره بأسانيد حسنة]

فقوله - صلى الله عليه وسلم - : (وَازهَد فِيمَا عِند النّاسِ، يُحِبّكَ النّاسُ)، يعني لا يكن قلبك متعلقا بما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك، فأخرجت نفسك مما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام، وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له، سواءً عظم أم قل، فإنّه بذلك يحبك الناسº لأنّ الناس يرون فيك أنك غير متعلق بما في أيديهم، لا تنظر إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة، ولا نظر طلب، وإنما تسأل الله - جل وعلا - لهم التخفيف من الحساب، وتحمد الله - جل وعلا - على ما أعطاك، وما أنت فيه، فهذا إخراج ما في أيدي الناس من القلب، فهذه حقيقة الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرء أحبه الناسº لأن الناس جُبِلوا على أنهم لا يحبون من نازعهم ما يختصون به، مما يملكون.

وهذا يعكر صفو المحبة، فوطن نفسك أن ما عند الناس شيء قليل لا قيمة له، حقير لا وزن له مهما بلغ، وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلب زاهد متعلق بالآخرة، لا ينظر إلى الدنيا أما من ينظر إلى الدنيا، فإنه يكون متعلقا بما في أيدي الناس، فإذا نظر إلى مُلك هذا تعلق به، وإذا نظر إلى مُلك هذا تعلق به، ولا يزال يسأل، أو ينظر إليه، أو يتمتَّع به حتى لا يكون محبوبا عند الناس.

وَعَن أَبِي سَعِيدٍ, الخُدرِيِّ: أَنَّ نَاسًا مِن الأَنصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعطَاهُم ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعطَاهُم حَتَّى نَفِدَ مَا عِندَهُ ثُمَّ قَالَ: (مَا يَكُونُ عِندِي مِن خَيرٍ, فَلَن أَدَّخِرَهُ عَنكُم وَمَن يَستَعفِف يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَن يَستَغنِ يُغنِهِ اللَّهُ وَمَن يَتَصَبَّر يُصَبِّرهُ اللَّهُ وَمَا أُعطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيرٌ وَأَوسَعُ مِن الصَّبرِ). [متفق عليه].

فهذا الحديث اشتمل على أربع جمل جامعة نافعة.

إحداها: قوله: « وَمَن يَستَعفِف يُعِفَّهُ اللَّهُ ».

والثانية: قوله: « وَمَن يَستَغنِ يُغنِهِ اللَّهُ ».

وهاتان الجملتان متلازمتان، فإن كمال العبد في إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقا به دون المخلوقين. فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال، ويعمل كل سبب يوصله إلى ذلك، حتى يكون عبدا لله حقا، حرا من رق المخلوقين، وذلك بأن يجاهد نفسه على أمرين: انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله، عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ سَمِعتُ عُمَرَ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعطِينِي العَطَاءَ فَأَقُولُ أَعطِهِ مَن هُوَ أَفقَرُ إِلَيهِ مِنِّي فَقَالَ: (خُذهُ إِذَا جَاءَكَ مِن هَذَا المَالِ شَيءٌ وَأَنتَ غَيرُ مُشرِفٍ, وَلَا سَائِلٍ, فَخُذهُ وَمَا لَا فَلَا تُتبِعهُ نَفسَكَ). [رواه البخاري ومسلم]

فقطع الإشراف في القلب والسؤال باللسان، تعففا وترفعا عن منن الخلق، وعن تعلق القلب بهم، سبب قوي لحصول العفة.

وتمام ذلك: أن يجاهد نفسه على الأمر الثاني: وهو الاستغناء بالله والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، وهذا هو المقصود، والأول وسيلة إلى هذا، فإن من استعف عما في أيدي الناس وعما يناله منهم، أوجب له ذلك أن يقوى تعلقه بالله، ورجاؤه وطمعه في فضل الله وإحسانه، ويحسن ظنه وثقته بربه، والله - تعالى -عند حسن ظن عبده به، إن ظن خيرا فله، وإن ظن غيره فله، وكل واحد من الأمرين يمد الآخر فيقويه، فكلما قوي تعلقه بالله ضعف تعلقه بالمخلوقين وبالعكس.

ومما صح من الدعاء عَن عَبدِ اللَّهِ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ الهُدَى وَالتٌّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى). [رواه مسلم]

فجمع الخير كله في هذا الدعاء، فالهدى: هو العلم النافع، والتقى: هو العمل الصالح، وترك المحرمات كلها، هذا صلاح الدين.

وتمام ذلك بصلاح القلب، وطمأنينته بالعفاف عن الخلق، والغنى بالله، ومن كان غنيا بالله فهو الغني حقا، وإن قلت حواصله، فليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى القلب، وبالعفاف والغنى يتم للعبد الحياة الطيبة، والنعيم الدنيوي، والقناعة بما آتاه الله.

والثالثة قوله: « وَمَن يَتَصَبَّر يُصَبِّرهُ اللَّهُ ».

ثم ذكر في الجملة الرابعة: أن الصبر إذا أعطاه الله العبد فهو أفضل العطاء وأوسعه وأعظمه إعانة على الأمور، قال - تعالى -: {وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]. أي: على أموركم كلها.

والصبر كسائر الأخلاق يحتاج إلى مجاهدة للنفس وتمرينها، فلهذا قال: « وَمَن يَتَصَبَّر » أي: يجاهد نفسه على الصبر « يُصَبِّرهُ اللَّهُ » ويعينه، وإنما كان الصبر أعظم العطايا، لأنه يتعلق بجميع أمور العبد وكمالاته، وكل حالة من أحواله تحتاج إلى صبر.

وقد وعد الله الصابرين في كتابه وعلى لسان رسوله أمورا عالية جليلة، وعدهم بالإعانة في كل أمورهم. وأنه معهم بالعناية والتوفيق والتسديد، وأنه يحبهم ويثبت قلوبهم وأقدامهم، ويلقي عليهم السكينة والطمأنينة، ويسهل لهم الطاعات، ويحفظهم من المخالفات، ويتفضل عليهم بالصلوات والرحمة والهداية عند المصيبات، والله يرفعهم إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة، وعدهم النصر، وأن ييسرهم لليسرى ويجنبهم العسرى، ووعدهم بالسعادة والفلاح والنجاح، وأن يوفيهم أجرهم بغير حساب، وأن يخلف عليهم في الدنيا أكثر مما أخذ منهم من محبوباتهم وأحسن، يعوضهم عن وقوع المكروهات عوضا عاجلا يقابل أضعاف أضعاف ما وقع عليهم من كريهة ومصيبة وهو في ابتدائه صعب شديد وفي انتهائه سهل حميد العواقب، كما قيل:

 

والصبر مثل اسمه مر مذاقته * * * لكن عواقبه أحلى من العسل

فلذلك يجب على طالب العلم أن يتصبر ويلعق العلقم حتى ينال المراد.

قال الشوكاني - رحمه الله تعالى -: ولا يحول بينك وبين هذا المطلب الشريف ما تنازعك نفسك إليه من مطالب الدنيا التي تروقها وتود الظفر بها، فإنها حاصلة لك على الوجه الذي تحب، والسبيل الذي تريد، بعد تحصيلك لما أرشدتك إليه من الرتبة العلمية، وتكون إذ ذاك مخطوباً لا خاطباً، ومطلوباً لا طالباً.

وعلى فرض أنها تكدي عليك المطالب، وتعاند الأسباب، فلست تعدم الكفاف الذي لا بد لك منه. فما رأينا عالماً ولا متعلماً مات جوعاً، ولا أعوزه الحال حتى انكشفت عورته عرياً، أو لم يجد مكاناً يكنه، ومنزلاً يسكنه، وليس الدنيا إلا هذه الأمور، وما عداها فضلات مشغلة للأحياء مهلكة للأموات.

أنا إن عشت لست أعدم قوتا * * * وإذا مت لست أعدم قبراً

وعلى العاقل أن يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، ولا يعدوه ما قدره له، وأنه قد فرغ من أمر رزقه الذي فرضه الله له. فلا القعود يصده، ولا السعي وأتعاب النفس يوجب الوصول إلى ما لم يأذن به الله - تعالى -.

وهذا معلوم من الشرع، قد توافق عليه صريح الكتاب والسنة، وتطابقت عليه الشرائع.

وإن أعظم ما يريده الله منه، ويقربه إليه، ويفوز به عنده، أن يشغل نفسه ويستغرق أوقاته في طلب معرفة هذه الشريعة التي شرعها الله لعباده، وينفق ساعاته في تحصيل هذا الأمر الذي جاءت به رسل الله إلى عباده، ونزلت به ملائكته. فإن جميع ما يريده الله من عباده عاجلاً وآجلاً، وما وعدهم به من خير وشر، قد صار في هذه الشريعة.

فأكرم برجل تاقت نفسه عن أن يكون عبد بطنه إلى أن يكون مهتما بأمر دينه، حتى يناله على الوجه الأكمل، ويعرفه على الوجه الذي أراده الله منه، ويرشد إليه من عباده من أراد له الرشاد، ويهدي به من استحق الهداية. فانظر أعزك الله كم الفرق بين الرجلين، وتأمل قدر مسافة التفاوت بين الأمرين؟!.

هذا يستغرق جميع أوقاته وينفق كل ساعاته في تحصيل طعامه وشرابه وملبسه وما لا بد منه قام أو قعد سعى أو وقف، وهذا يقابله بسعي غير هذا السعي وعمل غير ذلك العمل، فينفق ساعاته ويستغرق أوقاته في طلب ما جاء عن الله وعن رسوله، من التكاليف التي كلف بها عباده، وما أذن به من إبلاغه إليهم من أمور دنياهم وأخراهم لينتفع بذلك، ثم ينفع به من يشاء الله من عباده، ويبلغ إليهم حجة الله، ويعرفهم شرائعه.

فلقد تعاظم الفرق بين النوعين، وتفاوت تفاوتاً يقصر التعبير عنه، ويعجز البيان له، إلا على وجه الإجمال بأن يقال إن أحد النوعين قد التحق بالدواب، والآخر بالملائكةº لأن كل واحد منهما قد سعى سعياً شابه من التحق به، فإن الدابة يستعملها مالكها في مصالحه، ويقوم بطعامها وشرابها وما يحتاج إليه.

ومع هذا فمن نظر في الأمر بعين البصيرة، وتأمله حق التأمل، وجد عيش من شغل نفسه بالطاعة، وفرغها للعلم، ولم يلتفت إلى ما تدعو إليه الحاجة من أمر دنياه، تجده أرفه، وحاله أقوم، وسروره أتم، وتلك حكمة الله البالغة التي يتبين عندها أنه لن يعدو المرء ما قدر له، ولن يفوته ما كان يدركه.

وكما أن هذا المعنى الذي ذكرناه، ثابت في الشريعة، مصرح به في غير موطن منها، قد أجراه الله على لسان الجبابرة من عباده وعتاة أمته، حتى قال الحجاج بن يوسف الثقفي في بعض خطبه ما معناه: أيها الناس، إن الله كفانا أمر الرزق، وأمرنا بالعبادة، فسعينا لما كفيناه، وتركنا السعي للذي أمرنا به، فليتنا أمرنا بطلب الرزق، وكفينا العبادة، حتى نكون كما أراده الله منا. هذا معنى كلامه لا لفظه. فلما بلغ كلامه هذا بعض السلف المعاصرين له قال: إن الله لا يخرج الفاجر من هذه الدار وفي قلبه حكمة ينتفع بها العباد إلا أخرجها منه، وإن هذا مما أخرجه من الحجاج.

فانظر هذا الجبار كيف لم يخف عليه هذا الأمر، مع ما هو فيه من التجبر، وسفك الدماء، وهتك الحرم، والتجرؤ على الله، وعلى عباده، وتعدي حدوده. فما أحقه بأن لا يخفى على من هو ألين منه قلباً وأقل منه ظلماً، وأخف منه تجبراً، وأقرب منه خيرا، وأبعد منه من شرا.

وإن من تصور هذا الأمر حق التصور وتعقله كما ينبغي انتفع به انتفاعاً عظيماً ونال به من الفوائد جسيما، والهداية بيد الهادي جل جلاله وتقدست أسماؤه. <ينظر كتابي\"ترجمة الشوكاني - رحمه الله -\" (64)>

فيجب على طالب العلم توطين النفس على التعلق بالله وحده، في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله، ولا يطمع إلا في فضله، ويوطن نفسه على اليأس مما في أيدي الناس; فإن اليأس عصمة، ومن آيس من شيء استغنى عنه. فكما أنه لا يسأل بلسانه إلا الله، فلا يعلق قلبه إلا بالله. فيبقى عبدا لله حقيقة، سالما من عبودية الخلق. قد تحرر من رقهم، واكتسب بذلك العز والشرفº فإن المتعلق بالخلق يكتسب الذل والسقوط بحسب تعلقه بهم.

فيكون الباعث له في جميع الأعمال: امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، والعلم بأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، يقود صاحبه إلى الرضا بالقليل، والعفاف عما في أيدي الناس، ويبعده عن التملق لغير الله، أو الانشغال بغير عبادة الله ورضاه، أو إرضاء الناس بسخط الله، ويورث العزم في متانة، ويربط القلب، فيمضي صاحبه حتى يبلغ الغاية.

ومن جميل السخاءِ سخاءُ المرء عما في أيدي الناس، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرَّض له بحاله ولسانه.

قال - تعالى -: (وَمَا مِن دَابَّةٍ, فِي الأَرضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزقُهَا) [سورة هود، الآية: 6].

فهذا هو طريق الاستعلاء أن تنظرَ إلى السماء، وأن نلح بالدعاء، لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوةِ والسعادة، وأنك تأوي إلى ركنٍ, شديد.

أما الشكوى إلى الناس، والنظرِ إلى ما في أيدي الناس فيشعرك بالضعف والذل والإهانةِ والتبعية.

ولكن إذا غلبت النفس وتدنت وتطلعت إلى ما في أيدي الناس، وأوجبت على العبد تعريضها للحاجة والسؤال إذا مسته الحاجة إلى المال. فطلب الرزق الحلال والعمل لمن هذه حاله في أي حرفة أو طلب معاش أنفع له وأجدر حتى ولو فاته من العلم، لأن العلم وسيلة وليس بغاية، فإن لم يصلح العبد قلبه بالعلم ويصون به عرضه فلا خير في هذا العلم.

ولقد كان شأن العلماء هو الترفع عما في أيدي الناس مهما بلغ بهم العوز والحاجة ولا يلجئون إلا إلى خالقهم ورازقهم رب السموات والأرض.

فهذا:

سفيان الثوري

من تأمل سيرته وجده من أفضل أهل زمانهº رغم ما مر به من محن ونكبات وعوز وضيق.

عن يوسف بن أسباط قال: خلف سفيان مائتي دينار، كانت مع رجل يتبضع بها <الذهبي \"تاريخ الإسلام\" (4/557)>

وقال أبو نعيم: قال الثوري: لولا بضيعتنا تلا عب بنا هؤلاء -يعني الملوك.

وعنه قال: أُحب أن يكون صاحب العلم في كفاية، فإن الآفات إليه أسرع، والألسنة إليه أسرع. <الذهبي\"سير أعلام النبلاء\"(7/254)>

ولذلك ربما نقض سقف بيته، أو أساسه إذا اضطر إليه، فباعه دون أن يسأل أحدا.

فعن محمد بن عبيد قال: كان سفيان الثوري إذا أبطأت عليه بضاعتهº نقض جذوع بيته، فباعها، فإذا رجعت بضاعتهº أعادها. <ابن أبي حاتم \" مقدمة الجرح والتعديل\" (99)>

وعن زيد بن الحباب قال: نفدت نفقة سفيان الثوري بمكة فقدم عليه رجل من قومه، فقال لسفيان: لك معي عشرة دراهم، قال: مِن أين؟ قال من غزل فلانة، قال: ائتني بهم فإني منذ ثلاث أستف الرمل. <أبو نعيم \"الحلية\" (7/63)>

وعن حسين بن روح قال: أتى سفيان الثوري رجلٌ، فقال: إني مررت بفلان، فأعطاني صُرَّة فيها ألف دينار أعطيك إياها، فقال له سفيان فمررت بأختي فأعطتك شيئا من دقيق؟ قال: نعم. قال: فأتني بصرة الدقيق، ورُدَّ صُرَّة الدنانير، قال: فكان يختبز منها أقراصا ويأكل. <ابن أبي حاتم \" مقدمة الجرح والتعديل\" (101)>

وعن عبد العزيز بن أبى عثمان قال: خرجت إلى مكة فبعث معي المبارك بن سعيد إلى سفيان الثوري بجراب من دقيق، وهو مختف بمكة. قال: فلما قدمت مكة، جعلت أسأل عنه فلم يَدُلٌّونيº حتى قلت لبعض أصحابه: إنه ليسرٌّه لو قد رآني، قال: فدَلٌّوني عليه، فدخلت عليه، فقلت له: إن المبارك بعث إليك بجرابٍ, من دقيق، فقال: عجل به عليّ، فإن بنا إليه حاجة شديدة. <ابن أبي حاتم \" مقدمة الجرح والتعديل\" (91)>

وعن أبى شهاب الحناط قال: أرسل معي المبارك بن سعيد إلى سفيان وهو بمكة، بجراب من خبز مدقوق، فلقيته في المسجد وهو متكئ، فسلم وهو متكئ كأنه ضعيف، فقلت: إن معي جرابا أرسل به مبارك، فقعد! فقلت: سلمتُ عليك وأنت مضطجع، ثم لما قلتُ معي شيء فقعدت! قال: فكأنه استحيا، وقال: ويحك إنه أتاني على حاجةº أي شيء هو؟ قلت: جراب خبز. ثم قال: ما نلت شيئا منذ يومين. <ابن أبي حاتم \" مقدمة الجرح والتعديل\" (93)>

عن سفيان بن عيينة قال: جاع سفيان الثوري جوعا شديدا، مكث ثلاثة أيام لا يأكل شيئا، فمر بدار فيها عُرس فدعته نفسه إلى أن يدخل فعصمه الله، ومضى إلى منزل ابنته فأتته بقرص، فأكله وشرب ماء ثم تجشى، وجعل يتمثل بهذه الأبيات <ابن أبي حاتم \" مقدمة الجرح والتعديل\" (98)>:

 

سَيَكفِيكَ عَمَّا أُغلِقَ البَابُ دُونَهُ * * *وَضَنَّ بِهِ الأَقوَامُ مِلحٌ iiوَجَردَقُ

وَتَشرَبُ مِن مَاءٍ, فُرَاتٍ, وَتَغتَدِي * * * تُعَارِضُ أَصحَابَ الثَّريدِ iiالملبن

تَجَشَّى إِذَا مَا هُم تَجَشَّوا َأَنَّمَا * * * ظَلَلتَ بِأَنوَاعِ الخَبِيصِ تفتَّقُ

 

وكان لا يذل نفسه لأحد قط.

عن النضر بن أبى زرعة قال: قال لي المبارك بن سعيد -أخو سفيان الثوري- بالموصل: ائت سفيان فأخبره أن نفقتي قد نفدت، وثيابي قد تخرقت، فقل له: يكتب إلى والي الموصل لعله يصلني بمال أكتسي، قال: فقدمت الكوفة فأتيت سفيان فأخبرته بما قال مبارك. فدخل الدار فأخرج دورقا فيه كسر يابسة، فنثرها على الأرض، ثم قال: لو رضي مبارك بمثل هذا! لم يكن له بالموصل عمل، ما له عندنا كتاب. <ابن أبي حاتم \" مقدمة الجرح والتعديل\" (1/92)>

 

الفضيل بن عياض

فقد نال القدح المعلى في الزهد والصبر وعفة النفس، فقد أرسل بعض الخلفاء إلى الفقهاء بجوائز فقبلوهاº وردها الفضيل، فقالت له امرأته: ترد عشرة آلاف، وما عندنا قوت يومنا؟! فقال: مثلي ومثلكم كقوم لهم بقرة يحرثون عليها، فلما هرمت ذبحوها، وكذا أنتم أردتم ذبحي على كبر سني، موتوا جوعا قبل أن تذبحوا فضيلا. <المناوي \"فيض القدير\"(5/436)>

 

الأعمش

وهذا الأعمش رغم ما كان فيه من شدة، ولو مال إلى حكام زمانه لبسطت له الدنيا بأسرها.

قال عبد الله بن داود الخريبي: مر أبو جعفر فبعث إلى الأعمش فخرج إليه فقال: يا أبا محمد لك حاجة؟ فقال: أما أنا فليس لي إليك حاجة وقد ترى ما الناس فيه من هذه الحال فاتق الله فيهم.

قال أبو حرب: وكان الناس في ذلك الزمان يموتون جوعا، وكان يباع قفيز دقيق<القَفِيزُ من المكاييل معروف وهو مكيال تتواضَعُ الناسُ عليه> بدانق<الدانق وهو سدس الدرهم> ولم تكن دراهم. <«أمالي اليزيدي»(1/21). >

 

 

ابن جرير وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي والروياني

وهؤلاء الأئمة الأربعة كادوا في أول الطلب أن يهلكوا لولا عناية الله ورعايته لهم.

قال أبو العباس البكري: جمعت الرحلة بين ابن جرير وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني بمصر، فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على ابن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أصلي صلاة الخيرة، قال: فاندفع في الصلاة، فإذا هم بالشموع وخصي من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه. ثم قال: و أيكم محمد ابن جرير؟ فأعطاه خمسين دينارا، وكذلك للروياني وابن خزيمة. ثم قال: إن الأمير كان قائلا بالأمس، فرأى في المنام أن المحامد جياع، قد طووا كشحهم، فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم إذا نفذت فابعثوا إليّ أحدكم. <سير أعلام النبلاء (14/270)>

 

الخطيب البغدادي

وهذا الخطيب كان على نفس الطريقة والهدي.

قال الفضل ابن عمر النسوي: كنت بجامع صور عند أبي بكر الخطيب، فدخل علوي وفي كمه دنانير، فقال: هذا الذهب تصرفه في مهماتك.

فقطب في وجهه، وقال: لا حاجة لي فيه، فقال: كأنك تستقله، وأرسله من كمه على سجادة الخطيب.

وقال: هذه ثلاث مئة دينار.

فقام الخطيب خجلا محمرا وجهه، وأخذ سجادته، ورمى الدنانير، وراح.

فما أنسى عز الخطيب وذل العلوي وهو يلتقط الدنانير من شقوق الحصير. <«سير أعلام النبلاء»(18/277)>

أخي الحبيب طالب العلم:هناك باب يجب أن تدخل منه في أول الطلبº قد غاب عن الكثير، وهو باب عفة النفس والفضيلة، فقف عليه واصبر وسيفتح لك إن شاء الله.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply