أزمة القراء


بسم الله الرحمن الرحيم

 

يبدو أن القراءة من حيث إنها عمل العقل - تخضع لجملة مؤثرات، وهي في النهاية حصيلة رؤية ومشاعر طباع ذهنية وتراكم معرفي ونظر وتأمل. وقراءتنا للأوضاع والأحداث، للماضي والحاضر والمستقبل، للزعماء والحركات والأمة نؤسس بها مواقف ونصنع بها رأيا وحركة وتوجها وسيرا، لذا تشكل القراءة في الغالب الحجر الأساس في أي عملية تغييرية أو بالأحرى في أي مشروع إصلاحي.

ومن هنا، فإنه يمكن القول إن مستقبل الحركات الإصلاحية والمحاولات التجديدية مرهون بضبط عملية القراءة. إن تعثرنا مرده في الغالب إلى نقص أو خلل أو قصور في عملية القراءة، القراءة المستوعبة.

لماذا نجحت بعض الثورات وأخفقت أخرى؟ لماذا تحقق لهذه الفكرة القبول والرواج واندثرت أخرى؟ لماذا أخفقنا في معرفة ما نريد وتففننا في معرفة ما لا نريد؟ لماذا أقصينا أطرافا، ونتعامل معها اليوم رغم أنها حافظت على خصائصها وطباعها الذهنية؟ قد تكون هناك عوامل مؤثرة في مثل هذه التحولات أو الحقائق أو الوقائع، لكنها القراءة هي المحرك الحيوي والمركزي تقريبا في إحداث مثل هذا التفاعلات المرئية والخفية.

مشكلتنا أننا قد نقرأ ما نريد سماعه وأحيانا ما نريد قوله، وقد نقرأ تحت ضغط الأوضاع، أو استجابة لحالة نفسية، وقد نقرأ استجابة لشهوة النقد، وقد نقرأ للتراكم المعرفي المجرد الأعزل، وقد نقرأ لنؤسس الرؤية ونعزز المسار المؤطر، لكن ما العيب في هذه القراءات؟ إنها قراءات من جانب واحد، يمارسها القارئ حركة كان أم زعيما أم مهتما أ مصلحا أم مفكرا- بعيدا عن حالة التفاعل وبحدة، فيما تحتاج عملية القراءة إلى نوع من الهدوء والتأني والتفاعل والاشتغال، بمعنى الانخراط في اللحظة التاريخية.

والقراءة المستوعبة لأبعاد الزمان والمكان وغير المتشنجة والمحققة لشروط التجديد والنظر تحيي في الأمة والثقافة والفكر جانبا من جوانب المعرفة والنهوض، في حين أن القراءة المبتسرة أو الغافلة أو الأحادية أو الموهمة أو المستعلية تعمل على إعادة إنتاج الجدل وواقع الأزمة ومنطق التكديس.

عندما قرأ المفكر الراحل إدوارد سعيد الرواية الغربية الروايات الغربية والثقافة الغربية عموما لاحظ أن الوقائع الاستعمارية والإمبريالية تغفل عمدا في النقد الأدبي الغربي وتحديدا البريطاني والفرنسي ثم لاحقا الأمريكي- رغم أن \"الإمبريالية\" لم تكن أمرا ثانويا ودخيلا، بل كانت مكونا مشكلا لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي لهذه الدول، والأعمال الثقافية والأدبية هي التي أعطت للامبريالية والاستعمار هوية ملموسة، كما كشف أنه لا يمكن الفصل بين الرواية والإمبريالية في عصر الاستعمار. وكم كانت مثمرة ومنتجة وإيجابية قراءة إدوارد لروايات وثقافات الإمبراطوريات الغربية، وكشفت زيف المثقف صاحب الخلفية الاستعمارية - وعنصريته وميولاته \"الإمبريالية\".

وانظر مثلا إلى قراءة مالك بن نبي للحركة الوهابية وقراءة محمد عمارة لها، قراءة الأول مستوعبة لظروف الزمان والمكان وبنائية وقراءة الثاني متشنجة استعلائية مختزلة.

وانظر إلى قراءة علماء ودعاة وشيوخ الجزيرة العربية إلى تراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحملة علمه ودعوته، كيف أنها في مجملها- استهوتها عبارات التمجيد والهالة القدسية، وغفلت عن تعميمات وقطعيات وتأكيدات) تلقفها بعض الشباب وصنعوا منها متفجرات وخاضوا بها حربا خاطئة في المكان الغلط(، أقل ما يقال عنها أنها تحتاج إلى إعادة نظر وتأمل.

ولهذا نجد من القراءات ما هو ناسف وقاصم ونجد منها ما هو عاصم وبناء. وطبيعة القراءة هي المشكلة للرؤية والحركة. وعليها يتأسس مدار الفكر والمعرفة وسؤال النهضة.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply