بسم الله الرحمن الرحيم
الدورات العلمية
الحمدُ لله الذي علَّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، و الصلاة و السلام على النبي الأكرم، و على آله و صحبه و من تبعهم على الصراط المعظَّم. أما بعدُ:
فإن طلب العلم من أشرف ما اشتغل به المسلم، و من أنبل ما قصده صفيٌ أفخم، فمناقبه كثيرة، و فوائدة غزيرة.
و لا يخوض غمار الطلب إلا رجل آتاه الله الحكمة، و اختصه بالفطنة، و لا يكاد يُحجِمُ عنه إلا من بوأه الله مقام الخذلان، و أصابه بقارعة من الهوان.
وإن من عظيمِ نعمة الله على أهل العلم، و طلاّب المعرفة أن يسَّرَ لهم محالاَّ يُنشرُ فيها العلم، و تُنثرُ فيها أحكام الشريعة. و كان من جملةِ ذلك ما سُمِّيَ بـ (الدورات العلمية) و هي: مجموعة من اللقاءات العلمية المتخصصة في شيءٍ, واحدº كشرح كتاب، أو تأصيلٍ, لموضوعٍ, مُتشَعِّبٍ,.
و لقد حَظِيَ الناسُ بها كثيراً، و انتفعوا منفعةً جُلَّى، فقُضِيَت فيها أوقات، و صُوِّبَت نظرات، و لله الحمد و المنةُ على أفضاله.
إلا أنها لم تَكُن تَخلو من عِللٍ, انتابتها، و لم تبرأ ساحتها من نَقَدَاتٍ, داهمتها، و لا غَروَ في ذلك فكلٌّ جُهدٍ, بشري ينتابه نقصٌ و خلل _ إلا ما شاء ربك _.
و ليست تلك العلل بشيءٍ, في جانبِ إيجابياتها و منافعها، و لكنَّ دعوة الإصلاح و التوجيه تقتضي طرحَ ما يُنتقد ليُجتنب.
و مجموع النَقَدَات ثلاث هُنَّ:
الأولى: عَدمُ رِعايَةِ التدرٌّج
فإنَّ الناظرَ في واقع (الدورات العلمية) يجدُ هذا الخللَ فيها، فإن العلم _ كما هو مقرَّر لدى كثير من العلماء التربويين _ له أصوله و قواعده فلا يقوم أساسه إلا بتلك القواعد، و لا يعتبر تفريعه إلا عن تلك الأصول، قال الماوَردِي - رحمه الله -: (اعلم أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها، و مداخل تُفضي إلى حقائقها، فليبدأ طالب بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، و بمداخلها ليُفضي إلى حقائقها، و لا يطلب الأخر قبل الأول، و لا الحقيقة قبل المقصد، فلا يدرك الآخر و لا يعرف الحقيقة، لأن البناء على غير أُسٍ, لا يُبنى، و الثمر من غير غرس لا يُجبنى) [أدب الدنيا و الدين] (55).
و التدرج على أنواعٍ, ثلاثة:
أولها: تدرجٌ في الفنون: فيبدأ الطالب بالفنون الواجبة _ عيناً _ عليه، ثم الكفائي،...، فكثيراً من السالكينَ طريقَ التعليم يغلطون (في ترتيبِ الفنون، و القدر اللائق من السعي لكل فنٍّ,، فيشرعُ في بعض الفنون قبلَ تحصيل ما يتوقف فهمه عليه)(1).
يقول الإمام الغزَّالي - يرحمه الله -:\"و يجبُ على المتعلِّم أن يُقدم في التعلٌّم الأهم من العلوم\". ا،هـ (2).
ثانيها: تدرجٌ في المتون: و يكون بدءً بالمتن الصغير، ثم المتوسط ثم الكبير، فقد (كان المشايخُ يختارون للمبتدئ صغارات المبسوطة لأنه أقربُ إلى الفهم و الضبط، و أبعد من الملالة، و أكثرُ وقوعاً بين الناس)(3).
و يُلحظُ في المتن أموراً تأتي في النقدَةِ الثانية _ إن شاء الله _.
ثالثها: تدرجٌ في الشرح: فيكون على مراحل ثلاثية على شاكلة التدرج في المتون.
قال ابن خلدون - رحمه الله -: [اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج، شيئاً فشيئاً و قليلاً قليلاً، يُلقي عليه أولاً مسائل من كل باب في الفن هي أصول ذلك الباب، و يقرِّبُ له في شرحها على سبيل الإجمال و يُراعي في ذلك قوة عقله و استعداده لقبول ما يُورَدُ عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، و عند ذلك يحصل له ملَكَةٌ في ذلك العلم إلا أنها جزيئة و ضعيفة. وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه] أهـ (المقدمة: ص 531-532)
ــــــــــــــــــــــ
(1) ترتيب العلوم، المرعشي، 82.
(2) منهاجُ المتعلم، للغزَّالي ص 76. [انظر: التراث التربوي الإسلامي، د. هشام نشَّابة]
(3) تعليم المتعلم، الزَرنُوجي، 101.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد