بسم الله الرحمن الرحيم
عاشوراء ـ هذا الضيف الكريم ـ لا يزورنا في السنة كلها إلا مرة واحدة، في شهرٍ, من الأشهر الحُرُم، هو شهر محرَّمº فهو يوم مبارك من شهر مبارك.
ونحن إذ نستقبل في هذه الأيام شهر الله المحرَّم، ونستشرف عاماً هجرياً جديداًº ينبغي علينا أن نستلهم فيه المعاني القرآنية والنبويةº حتى يكون عملنا فيه سديداً.
(1) فقد أخبرنا الله - عز وجل - بعظمة الأشهر الحُرُم، فقال جل جلاله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حُرُم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) [التوبة: 36].
(2) وبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأشهر الحرم، فقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي بكرة نُفَيع بن الحراث الثقفي رضي الله عنه: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعةٌ حُرُم: ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجبُ مُضر الذي بين جمادى وشعبان)) [رواه البخاري في بدء الخلق وفي التفسير].
(3) ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض)): أن أهل الجاهلية\"كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم، والتقديم والتأخيرº لأسباب تعرض لهم. منها: استعجال الحربº فسيتحلّون الشهر الحرام، ثم يحرّمون بدله شهراً غيرهº فتتحوّل في ذلك شهور السنة وتتبدّلº فإذا أتى على ذلك عدد من السنين استدار الزمان وعاد الأمر إلى أصلهº فاتفق وقوع حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك\"،\"وكانوا يجعلون المحرم صفراً، ويجعلون صفراً المحرمº لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يتعاطون فيها القتالº فلذلك قال: ((متواليات))\"[فتح الباري: 9/221].
(4) استنبط بعض العلماء فائدة لطيفة في ترتيب الأشهر الحرم: أنه لما كان للأشهر الحرم مزيةٌ على ما سواها من الشهور\"ناسب أن يبدأ بها العام، وأن تتوسطه، وأن تختم به\"[فتح الباري: 9/222]. والمسلم يعي هذه الحكمة كما يُدرك حكمة توزيع الصلوات في اليوم على الأوقات، وفرض الزكاة والصوم والحج وكثير من العبادات والطاعات على مواسم موقوتةº حتى تكون حياة المسلمين كلها حافلة بالقربات (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك).
(5) وقد كان صوم عاشوراء واجباً في أول الأمرº حتى فرض الله صوم شهر رمضانº فنُسِخ فرض صيام عاشوراء، وخيّر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين في صيامه. كما روى البخاري في (كتاب الصوم، باب صوم يوم عاشوراء) عن عائشة - رضي الله عنها -قالت:\"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فُرض رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر\".
(6) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب الصيام في المحرم، كما ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)) [رواه مسلم]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرص على صيام يوم عاشوراء، كما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -قال:\"ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صيام يوم فضّله على غيره إلاّ هذا اليوم: يوم عاشوراء\"[رواه البخاري]. قال البدر العيني:\"معنى (يتحرى): أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه\"[عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني: 11/124]
(7) وقد كان صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - يحثون الناس على صيام عاشوراءº لعلمهم بأنه يُكفِّر ذنوب سنة كاملة. كما روى أبو قتادة الأنصاري - رضي الله عنه -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: ((يكفِّر السنة الماضية)) [رواه مسلم]، وروى حميد بن عبد الرحمن أن سمع معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -يوم عاشوراء عام حجَّ على المنبر يقول:\"يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصُم، ومن شاء فليُفطِر))\"[رواه البخاري]. قال العيني:\"قوله: ((وأنا صائم)) فيه دليل على فضل صوم يوم عاشوراءº لأنه لم يخصه بقوله ((وأنا صائمٌ)) إلاّ لفضل فيه، وفي رسول الله أسوة حسنة\"[عمدة القاري: 11/121].
(8) وقد استنبط بعض العلماء من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم: ((لئن بقيت إلى قابلٍ, لأصومنّ التاسع)) فمات قبل ذلكº أن هذا يحتمل أمرين: أحدهما: أنه أراد نقل العاشر إلى التاسعº والثاني: أراد أن يضيفه إليه في الصومº فلمّا تُوُفّي قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومينº فعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب:
أدناها أن يصومه وحده.
وفوقه: أن يُصام التاسع معه.
وفوقه: أن يُصام التاسع والحادي عشر\"[فتح الباري: 4/772].
(9) وإن يوم عاشوراء يوم شكر لله - تعالى -، كما روى البخاري (في كتاب الصوم) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -قال:\"قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء. فقال: ((ما هذا؟)) فقالوا: هذا يوم صالح\"، وفي رواية ابن عساكر\"هذا يوم صالح، هذا يوم صالح\"[إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني: 3/423]،\"هذا يوم نجّى الله فيه بني إسرائيل من عدوهمº فصامه موسى\"، وفي مسلم\"فصامه موسى شكراً لله - تعالى -\"، وللبخاري في الهجرة\"فنحن نصومهº تعظيماً له\". قال ابن حجر:\"حديث ابن عباس يدلّ على أنّ الباعث على صيامهº موافقتهم على السبب، وهو الشكر لله - تعالى - على نجاة موسى\"[فتح الباري: 4/775].
(10) إن يوم عاشوراء يمثل عبرة للدعاة المؤمنين: فهو آية على نصر المجاهدين على قوى الكفر، وبُشرى على عاقبة الثبات على الأمر، وبيان لثمرة التوكل على من بيده الأمر - سبحانه و تعالى -، كما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -:\"هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه\"[رواه مسلم]. وكيف لا يستحضر المسلم هذه المعاني وهو يقرأ قول الله - تعالى -: (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون. قال كلاّ إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم. وأزلفنا ثَمّ الآخرين. وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثمّ أغرقنا الآخرين. إن في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [الشعراء: 61-68].
(11) ولا يخفى ما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فنحن أحقّ بموسى منكم)) من درسٍ, للمسلمين في علو الهمّة، والحرص على تبليغ الدعوة، واستحضار الولاء والبراء، والتمسك بميراث الأنبياء، كما قال القسطلاني في شرح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نحن أحق بموسى منكم)):\"الأحقية باعتبار الاشتراك في الرسالة، والأخوة في الدين، والقرابة الظاهرة دونهمº ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أطوعُ للحق منهم\"[إرشاد الساري: 3/422-423]. فلم تكن كلمته هذه - صلى الله عليه وسلم - إلاّ مقدمة لتلك الدعوة الحادبة للعالمين، ومسيرة الجهاد الحافلة لليهود والمشركين.
(12) فلزامٌ على المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم على ضياع أمجادهم، وأن يتوبوا إلى الله - تعالى - في هذه المناسبة الطيبة، فقد عمّ الخطب، وضاق الأمر، وصارت ديار المسلمين نهباً للصليبيين، بعد أن بقيت فلسطين في قبضة اليهود خمسين عاماً، والمسلمون عاجزون عن الإعداد، غافلون عن تاريخ المغازي والجهادº حتى سلّط الله عليهم الأعداءº فعسى ذكرى عاشوراء توقظ المسلمين، وتُعيد الوعي إلى الغافلينº إن لم توقظهم طبول الصليبيين، الذين يريدون استعمار ما تبقّى من ديار المسلمينº (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد