بسم الله الرحمن الرحيم
رغم أن هذا العصر يوصف بأنه عصر العلم فإنه عصر الجهل أيضًا، ورغم أن الإعلام بوسائله المختلفة ينقل الأخبار والحقائق، وينشر العلوم والمعارف المتنوعةº فإنه أيضًا ينشر الجهالات، ويؤصل للضلالات.
إن الإنسان المعاصر توصل إلى كثير من الحقائق الكونية، واكتشف كثيرًا من أسرار الأرض وعجائبها وكنوزها، وسخر ثرواتها في خدمته ورفاهيته، وطور الصناعات والتجارات والاتصالات، وكلَّ ما يحتاجه في حياته الدنياº لكن أكثر البشر جهلوا الحقائق الشرعية، وأضلوا الطريق إلى الله - تعالى -، ونسوا الدار الآخرة.
إن الإعلام بصحفه المقروءة، وشاشاته المعروضة، وإذاعاته المسموعة قد ضخ كثيرًا من العلوم والمعارف في مجالات مختلفة، وبين حقائق كثيرة كانت خافية على الناسº لكنه في نفس الوقت وفي كثير من مجالاته قد حجب الحق، وزين الباطل، وأضلّ الناس.
فهو إعلامٌ علّم الناس كثيرًا من أمور دنياهمº لكنه أنساهم أخراهم، فصدق في كثير من صنَّاع مادته، والقائمين عليه، والمتلقين عنه: قول الله - تعالى -: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (7) {الروم: 7}.
ومن اطلع على ما يعرض في كثير من الفضائيات من مناظرات سياسية، أو برامج حوارية، أو لقاءاتٍ, دورية يجد أنها لا تخرج عن كونها مجادلات ومهاترات، لا يقصد منها إحقاق حق، أو إبطال باطل، أو نفع المشاهدº بل المقصود منها إقناع المشاهد برأي أو فكرةٍ, ولو كانت خاطئة.
ولم تسلم كثير من البرامج الدينية من هذه الخطيئة المنهجية، فأكثرها برامجُ موجهة، لا تهدف إلى رفع مستوى التدين في الأمة، وغرس مبادئ الالتزام بتعاليم الإسلامº ولكنها تسعى إلى تمييع الإسلام، وتطويعه لضغط الواقع، وحاجات العصرº وذلك بإيجاد المخارج، وإحياء الأقوال المهجورة، والفتاوى الشاذة الضعيفة، بقصد تقريب الإسلام من المناهج المادية العلمانية.
ومن اعترض على هذا المنهج الخاطئ حُجب رأيه، وأخفي قولهº بل واتهم بالانغلاق والرجعية، وعدم فهم روح الشريعة.
وفي شهر ربيع من كل عام يحتفل كثير من المسلمين بالمولد النبوي وتعرض وسائل الإعلام المشاهد البدعية لهذه الاحتفالات من أماكن إقامتها في مختلف دول العالم. ومع خطورة ذلك وأثره على جهلة المسلمين المقلدين فإن كثيرًا من مشائخ الفضائيات لم يكتفوا بذلكº بل حاولوا الاستدلال لهذه البدعة النكراء، واخترعوا مسوغاتٍ, لفعلها، وأضفوا عليها شيئاً من الشرعية التي تخدع المتلقي الجاهل، وحجبوا الرأي الآخر في القضية، وهاجموا كل من ينكر هذه البدعة.
إنهم يخفون عن المشاهد أصل هذه البدعة، وتاريخها، وحقيقة من أحدثها في الإسلام، والظروف التاريخية التي أحدثت فيها، وما هو قصد من أحدثها من هذا الابتداع.
كل ذلك وغيره في حقيقة هذه البدعة قد أخفي عن المشاهد ولم يُعرض ولو من باب عرض الرأي الآخر كما يقولون!! وأعظمُ من ذلك أنهم أوهموا المتابعين لبرامجهم أن لهذه البدعة أصلاً في الشريعة، وإجماعًا من الأمة، وقبولاً من علماء المسلمين. وهذا أقبح ما يكون غشاً وخداعاً وتضليلاً، وعدم احترام لعقول أولئك المشاهدين، فأيٌّ مصداقية يزعمونها، وأي موضوعية يتشدقون بها؟!
نشأة الاحتفال بالمولد:
إن أمة الإسلام مضت قرونها الثلاثة الأولى لم تعرف هذه البدعة، ولا احتفل فيها بها، وهي القرون التي زكاها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر أن الخلاف والبدع تكون بعدها. وهذا من علاماتِ نبوتهº إذ وقع ذلك كما أخبر به - عليه الصلاة والسلام -. ففي القرن الرابع الهجري ظهر بنو عبيد، المتسمون زورًا بالفاطميينº انتسابًا إلى فاطمة بنت محمد - عليه الصلاة والسلام و رضي الله عنها وأرضاها -.
ومن ثم خرجوا على الخلافة العباسية، وأقاموا الدولة الفاطمية في مصر والشام. ولم يرتض المسلمون في مصر والشام سيرتهم في الحكم، وطريقتهم في إدارة شؤون الناسº فخاف بنو عبيد من ثورة الناس عليهم، فحاولوا استمالة قلوبهم، وكسب عواطفهم بإحداث الاحتفالات البدعية، فاخترع حاكمهم آنذاك المعز لدين الله العبيدي: مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -وموالد لفاطمة وعلي والحسن والحسين ولجماعة من سلالة آل البيت - رضي الله عنهم وأرضاهم -(1).
وتتابعت في دولتهم احتفالات أخرى اخترعوها لم تكن من قبل في الإسلام كالاحتفال بالهجرة، ورأس السنة الهجرية، وليلة الإسراء والمعراج، وغيرها كثير.
وظلت هذه الموالد عند بني عبيد في مصر وبعض الشام، إلى أن انتهت دولتهم، وورثها من كانوا بعدهم، ولا يعرفها بقية المسلمين في شتى البقاع، بل أنكروها ولم يقبلوها تكملة القرن الرابع وطيلة القرنين الخامس والسادسº إذ انتقلت عدوى هذه الاحتفالات في أوائل القرن السابع من مصر إلى أهل إربل في العراق، نقلها شيخ صوفي يدعى عمر، وأقنع بها ملك إربل في العراق أبا سعيد كوكبري، ثم انتشرت بعد ذلك في سائر بلدان المسلمين، بسبب الجهل والتقليد الأعمى، حتى وصلت إلى ما نشاهده في العصر الحاضر من مظاهر احتفالية كبيرة ومتنوعة في سائر أرجاء العالم الإسلامي.
والمطلع على كتب العلماء يجد أن بعضها أرخ لبدعة المولد بالقرن الرابع وبعضها بالقرن السادس، وتوجيه ذلك: أن أول إحداثها في مصر كان في القرن الرابع، ثم انتقلت في القرن السادس أو أوائل القرن السابع إلى العراقº إذ احتفل به الملك أبو سعيد كوكبري(2).
إذًا كان الهدف الرئيس من إحداث هذه الموالد هدفًا سياسيًا لتثبيت حكم بني عبيد، ولم يكن لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لمحبة آل بيته فيه أي نصيب، ولا يعني هذا أن الذين يحتفلون به في العصر الحاضر لا يحبون النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل قد يكون دافعهم الأكبر لهذه الاحتفالات هو محبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم أخطأوا في ذلك، وقلدوا أقواماً في هذه الاحتفالات لا يمتون إلى محبته - عليه الصلاة والسلام - بصلةº لأن من أحب النبي - صلى الله عليه وسلم -أحب دينه، واتبع شريعته، وأطاعه في أمره، واجتنب نهيه، وقد قال الله - تعالى -: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم 31 {آل عمران: 31} وقال - سبحانه -: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا7 {الحشر: 7}.
حقيقة بني عبيد:
ومن المهم جداً معرفة سيرة بني عبيد في المسلمين وأصل نشأتهم ومذهبهم وأقوال العلماء فيهم حتى نعرف دوافعهم لأحداث هذه الموالد، وهل كان ذلك محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -أم أرادوا هدم الشريعة بالإحداث فيها، فالإنسان يعلم حسن مقصده أو سوءه من سيرته وأعماله.
لقد كان أول خروج العبيديين من المغرب في قبائل تجهل الإسلام، انخدعت بدعوة أبي عبد الله الشيعي، فناصره أهل المغرب حتى استقرّ له الأمر، فكتب إلى رئيسه الباطني ليقدم إليه من الشام، فلما دخل المغرب تسمى بعبيد الله ولقب نفسه بالمهدي وإليه ينسب العبيديون ويذكر العلماء أن اسمه: سعيد وهو من ولد ميمون القداح الملحد المجوسي. وفور تمكنه بطش بداعيته والممكن له في المغرب أبي عبد الله الشيعي. قال أبو شامة المقدسي الشافعي - رحمه الله - عن عبيد الله: "وعبيد هذا كان اسمه سعيدًا فلما دخل المغرب تسمى بعبيد الله، وزعم أنه علوي فاطمي، وادعى نسباً ليس بصحيح، لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية، وترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى بالمهدي، وبنى المهدية بالمغرب، ونسبت إليه، وكان زنديقاً خبيثاً عدواً للإسلام، متظاهرًا بالتشيع، مستترًا به، حريصًا على إزالة الملة الإسلامية، قتل من الفقهاء والمحدثين والصالحين جماعة كثيرة، وكان قصده إعدامهم من الوجودº لتبقى العالم كالبهائم فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم، والله متم نوره ولو كره الكافرون. ونشأت ذريته على ذلك منطوين، يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسروه... " إلخ(3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ردًا على من ادعى العصمة فيهم: "فكيف تكون العصمة في ذرية "عبد الله بن ميمون القداح" مع شهرة النفاق والكذب والضلال... "(4).
وعن نسبهم وإظهارهم الإيمان قال - رحمه الله تعالى -: "ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من شهد لهم لبني عبيد بالإيمان والتقوى أو بصحة النسب فقد شهد لهم بما لا يعلم، وقد قال الله - تعالى -: ولا تقف ما ليس لك به علم {الإسراء: 36}، وقال - تعالى -: إلا من شهد بالحق وهم يعلمون {الزخرف: 86}.. وليس أحد من الناس يعلم صحة نسبهم، ولا ثبوت إيمانهم وتقواهمº فإن غاية ما يزعمه أنهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه، وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمنًا في الباطنº إذ قد عرف في المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق قال الله - تعالى -: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين {البقرة: 8}، وقال - تعالى -: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون {المنافقون: 1}، وقال - تعالى -: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم {الحجرات: 14}، وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماءُ الأمة وأئمتها وجماهيرها أنهم كانوا منافقين زنادقة يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. فإذا قدر أن بعض الناس خالفهم في ذلك صار في إيمانهم نِزاع مشهورٌ، فالشاهد لهم بالإيمان شاهد لهم بما لا يعلمهº إذ ليس معه شيء يدل على إيمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم، وكذلك "النسب" قد عُلم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود. هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث وأهل الكلام وعلماء النسب والعامة وغيرهم، وهذا أمرٌ قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم حتى بعض من قد يتوقف في أمرهِم كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوهº فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم. وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه فإنهم ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي وأبو شامة وغيرهما من أهل العلم بذلك حتى صنَّفَ العلماء في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كما صنَّف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارىº بل ومن مذاهب الغالية الذين يدّعون إلهيّة علي أو نبوته فهم أكفر من هؤلاءº وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه: "المعتمد" فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه الذي سماه: "فضائل المستظهرية وفضائح الباطنية" قال: ظاهر مذهبهم الرَّفض وباطنه الكُفر المحضُ، وكذلك القاضي عبد الجبَّار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضِّلون على علي غيرهº بل يفسقون من قاتله ولم يتب من قتاله: يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة. فهذه مقالة المعتزلة في حقهم فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة.
والرَّافضة الإمامية مع أنهم من أجهل الخلق، وأنهم ليس لهم عقلٌ ولا نقلٌ ولا دينٌ صحيحٌ ولا دُنيا منصورةٌ نعم يعلمون أنَّ مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقينº ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شرٌ من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلهيّة علي - رضي الله عنه -. وأمَّا القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطَّوائف. وقد تولَّى الخِلافة غيرهم طوائف، وكان في بعضهم من البدعة والظٌّلم ما فيهº فلم يقدح النَّاس في نسب أحد من أولئك كما قدحوا في نسب هؤلاء، ولا نسبوهم إلى الزَّندقة والنفاق كما نسبوا هؤلاء. وقد قام من ولد علي طوائف: من ولد الحسن وولد الحسين كمُحمد بن عبد الله بن حسن وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن وأمثالهما. ولم يطعن أحدٌ لا من أعدائهم ولا من غير أعدائهم لا في نسبهم ولا في إسلامهم، وكذلك الدَّاعي القائم بطبرستان وغيره من العلويين، وكذلك بنو حمود الذين تغلَّبوا بالأندلس مدَّة وأمثالُ هؤلاءِ لم يقدح أحدٌ في نسبهم ولا في إسلامهم. وقد قتل جماعة من الطالبيين على الخِلافة لا سيَّما في الدَّولة العبَّاسية وحُبس طائفة كموسى بن جعفر وغيره ولم يقدح أعداؤهم في نسبهم ولا دينهم. وسبب ذلك أن الأنسابَ المشهورة أمرُها ظاهرٌ متداركٌ مثل الشمس لا يقدرُ العدوٌّ أن يُطفئهº وكذلك إسلام الرَّجُل وصِحةُ إيمانِهِ بالله والرَّسولِ أمرٌ لا يخفى، وصاحب النسب والدِّين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلكº فإن هذا مما تتوفّر الهمم والدَّواعي على نقله، ولا يجوز أن تتفق على ذلك أقوالُ العلماء، وهؤلاء "بنو عبيد القداح" ما زالت علماء الأمة المأمونون عِلماً وديناً يقدحون في نسبهم ودينهمº لا يذُمونهم بالرَّفض والتشيعº فإن لهم في هذا شركاء كثيرينº بل يجعلونهم "من القرامطة الباطنية" الذين منهم: الإسماعيلية والنصيرية ومن جنسهم الخرمية المحمرة وأمثالهم من الكفار المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفرº ولا ريب أن اتباع هؤلاء باطلº وقد وصف العلماء أئمة هذا القول بأنهم الذين ابتدعوه ووضعوهº وذكروا ما بنوا عليه مذاهبهمº وأنهم أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفةº فوضعوا لهم "السَّابق" و"التالي" و"الأساس" و"الحجج" و "الدعاوى" وأمثال ذلك من المراتب. وترتيب الدعوة سبع درجاتº آخرها "البلاغ الأكبرº والنَّاموس الأعظم" مما ليس هذا موضع تفصيل ذلك.
وإذا كان كذلك فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان فأقل ما في شهادته أنه شاهد بلا علم قاف ما ليس له به علمº وذلك حرام باتفاق الأمةº بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق ومعاداة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -: دليل على بطلان نسبهم الفاطميº فإن من يكون من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - القائمين بالخلافة في أمته لا تكون معاداته لدينه كمعاداة هؤلاءº فلم يعرف في بني هاشم ولا ولد أبي طالب ولا بني أمية: من كان خليفة وهو معادٍ, لدين الإسلامº فضلاً عن أن يكون معاديًا كمعاداة هؤلاءº بل أولادُ الملوك الذين لا دين لهم يكون فيهم نوع حميّة لدين آبائهم وأسلافهم، فمن كان من ولد سيد ولد آدم الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق كيف يعادي دينه هذه المعاداةº ولهذا نجد جميع المأمونين على دين الإسلام باطنًا وظاهرًا معادين لهؤلاء إلا من هو زنديق عدو لله ورسوله أو جاهل لا يعرف ما بُعث به رسوله، وهذا يدل على كفرهم وكذبهم في نسبهم "(5).
وقال أيضًا: "فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مئتي سنة على غير شريعة الإسلامº وكانوا يظهرون أنهم رافضة وهم في الباطن: إسماعيلية ونصيرية وقرامطة باطنية كما قال فيهم الغزالي - رحمه الله تعالى - في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض. واتفقت طوائف المسلمين: علماؤهم، وملوكهم، وعامتهم، من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم: على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام، وأن قتالهم كان جائزًاº بل نصوا على أن نسبهم كان باطلاً، وأن جدَّهم كان عبيد الله بن ميمون القدَّاح لم يكن من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وصنَّف العلماء في ذلك مصنفات. وشهد بذلك مثل الشيخ أبي الحسن القدوري إمام الحنفية والشيخ أبي حامد الإسفرائيني إمام الشافعية ومثل القاضي أبي يعلى إمام الحنبلية ومثل أبي محمّد بن أبي زيد إمام المالكية. وصنف القاضي أبو بكر بن الطيب فيهم كتابًا في كشف أسرارهم وسمّاه: "كشف الأسرار وهتك الأستار" في مذهب القرامطة الباطنية(6).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم: "وهؤلاء القوم تشهد عليهم الأمة وأئمتها أنهم كانوا ملحدين زنادقة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وجمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد اليهود أو المجوس، وهم يدّعون علم الباطن الذي مضمونه الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعندهم: لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور... ويستهينون باسم الله ورسوله حتى يكتب أحدهم (الله) في أسفلِ نعله - سبحانه وتعالى- عمّا يقول الظالمون علوًا كبيرًا"، فقوم هذه سيرتهم وحقيقتهم كيف يظن بهم محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -بإحداث هذه الموالد المنكرة في الإسلام. ولعل هذا يكشف القصد من وراء هذه المبتدعات من قوم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والعياذ بالله - تعالى -. (7).
حقيقة الرجل الذي أحدث الموالد:
الذي أحدث هذه الموالد هو المعز لدين الله العبيدي، وقد كان له سيرة سيئةº إذ قرّب اليهود والنصارى، وأقصى المسلمين، وحرّف الأذان الشرعي فهو أول من دعى بالأذان بحي على خير العمل، ويكفي في بيان حقيقته أن الشاعر ابن هانئ الأندلسي مدحه فقال فيه:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار(8)
نعوذ بالله من الكفر والضلال.
ومع سيرة المعز السيئة فهو أيضاً صاحب عقيدة فاسدة كما هو حال آبائه وأبنائه، قال أبو شامة المقدسي الشافعي: "وقام بعده ابنه الملقب بالمعز فبث دعاته فكانوا يقولون: هو المهدي الذي يملك الأرض، وهو الشمس التي تطلع من مغربها!! وكان يسره ما ينزل بالمسلمين من المصائب من أخذ الروم بلادهم، واحتجب عن الناس أيامًا ثم ظهر وأوهم أن الله رفعه إليه، وأنه كان غائبًا في السماء، وأخبر الناس بأشياء صدرت منهم كان ينقلها إليه جواسيس لهº فامتلأت قلوب العامة الجهال منه، وهذا أول خَلف خلفائهم بمصر، وهو الذي تنسب إليه القاهرة المعزية، واستدعى بفقيه الشام أبي بكر بن أحمد بن سهل الرملي ويعرف بابن النابلسي فحمل إليه في قفص خشب فأمر بسلخه، فسلخ حيًا، وحشي جلده تبنًا وصلب - رحمه الله تعالى -، قال أبو ذر الهروي: سمعت أبا الحسن الدار قطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: كان ذلك في الكتاب مسطورا {الإسراء: 58} ا هـ(9).
وذكر المؤرخون أنه قرب المنجمين وكان يأخذ بأقوالهم(10).
وذكر ابن عذارى المراكشي: أن المعز في سنة 349هـ وجه أئمة المساجد والمؤذنين، يأمرهم ألا يؤذنوا إلا ويقولون فيه: "حي على خير العمل"(11)، قال السيوطي: "ومن غرائبه: أنه استوزر رجلاً نصرانيًا يقال له: عيسى بن نسطورس، وآخر يهوديًا اسمه ميشا، فعز بسببهما اليهود والنصارى على المسلمين في ذلك الزمانº حتى كتبت إليه امرأة في قصة في حاجة لها تقول: بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس، واليهود بميشا، وأذل المسلمين بكº لما كشفت عن ظلامتي" ا هـ (12).
فهل يشك عاقل في حقيقة هذا الرجل وحقيقة دولته الباطنية، وهل يمكن أن يقال: إن دوافع إحداث هذه الموالد كان محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -ومحبته آل بيته ومن قِبَلِ مَن؟! من قبل قوم كانوا يظهرون محبة آل البيت ويبطنون العقائد الفاسدة، ويمالئون أهل الكفر على أهل الإسلام، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
ولم يكتف مشائخ الضلالة في طول العالم الإسلامي وعرضه - هداهم الله وأصلحهم - بجر الناس إلى هذه البدعة المنكرةº بل حاولوا إقناعهم بأن الأمة كانت تحتفل بذلك على مر العصور، وأن هذه الموالد لم تنكرها إلا فئة محدودة من العلماء ينعتونهم: بالوهابيين، وهذا من أوضح الكذب والافتراءº إذ إن علماء كثر من مصر والعراق والشام والمغرب وسائر الأمصار أنكروا هذه البدعة، وشنعوا على أهلها. وحصر المنكرين لهذه البدعة في علماء الجزيرة العربية مقصودº لأجل إبطال الحق بإخفاء أنصاره، وإظهار الباطل بتكثير أتباعه.
شهادة مهمة..
أوفى كتاب ألف في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي - فيما وقفت عليه من كتب - كتبه أحد المتحمسين لهذه البدعة، الناشرين لها، المحتفين بها، ذلكم هو المؤرخ المصري: حسن السندوبي، ومع اهتمامه بتلك البدعة، وتأييده لهاº فإنه اعترف في كتابه بأنها من المحدثات في الدين. وقال في كتابه: تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ما نصه: "وهنا يجمل بي أن أقول: إن هذه المواسم والأعياد والموالد وما شاكلها وجرى في سبيلها إنما تعد من البدع التي لم يأذن بها الله، ولا ورد منها ما يشير إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أمر بها، أو أشار إليها، أو باشرها في قول أو فعل حاشا عيدي الأضحى والفطر وكذلك لم يعرفها الصحابة على طبقاتهم، ولم يشهدها أحد من التابعين على درجاتهم، ولم ينوه بها أحد من الأئمة المجتهدين الذين ضبطوا أصول الشريعة، وحرروا فروعها، وبينوا مدلولاتها"(13).
ثم ذكر بعد ذلك أن الواقع فرضها بإحداث الفاطميين لها، وأنه يؤيدها من باب ضغط الواقع ليس إلا.. وهو ما قال هذا الكلام إلا بعد أن بحث ونقب في كتب التاريخ والآثار والفقه لعله يعثر على ما يدل على وجودها في الصدر الأول من الإسلام، فلما لم يعثر على شيء من ذلك بعد طول بحث وتنقيب اعترف بهذه الحقيقة المهمة.
احتفاء أعداء الإسلام بها:
هذه الاحتفالات والموالد لا تنفع الإسلام شيئًاº بل ضررها ظاهر على المسلمين، وأكبر دليل على ذلك دعم الكفار والمنافقين لها بقصد هدم الشريعة، وتغيير معالم الملة، وتشويه صورة الإسلام، وحصره في مظاهر أولئك الدراويش الذين يتراقصون ويتمايلون في احتفالات المولد، ويوضح حقيقة ذلك ما ذكره المؤرخ الجبرتي في أخبار مصر من أن القائد الفرنسي نابليون إبان استعماره لمصر أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد، وأعطاه ثلاثمئة ريال فرنسي لأجل ذلك، وأمره بتعليق الزيناتº بل إن نابليون حضر المولد بنفسه، واحتفل به مع المسلمين!! قال الجبرتي: "سأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟ فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور، وتوقف الأحوال، فلم يقبل وقال: لابد من ذلك، وأعطى له ثلاثمئة ريال فرانسا معونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع الفرنساوية يوم المولد، ولعبوا ميادينهم، وضربوا جلودهم ودبادبهم بطول النهار والليل بالبركة تحت داره... "(14) إلخ..
وكثير من العلمانيين الذين رفضوا الشريعة، وحاربوا الإسلام بأقوالهم وأقلامهم يحضرون تلك الاحتفالات ويشجعونهاº فلولا أنها من سبل هدم الديانة في قلوب الناس لما فعلوا ذلك، ولما فعله المستعمر النصراني الحاقد نابليون.
وفي الختام فإن ما يعرض حيال هذا الموضوع ليكشف حقيقة الحياد والموضوعية التي تتشدق بها كثير من القنوات الإعلامية، ولن يتضرر الإسلام بذلكº لأن الله - تعالى - قد تكفّل بحفظهº لكن الجهلة المتلقين عن هذه القنوات هم من سيتضرر بهذا الطرح الخبيث أسأل الله - تعالى - أن يحفظنا والمسلمين بحفظه، وأن يثبتنا على التوحيد والسنة إنه سميع قريب.
____________________
الهوامش:
(1) انظر: تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي لحسن السندوبي (62) ويتوقع أن إحداثهم له كان قريبًا من عام 362ه.
2- انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة (13)، ومرآة الزمان لسبط بن الجوزي (8-310)، والبداية والنهاية (12-263).
3- انظر: الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة (1-201)، وما بعدها، ومختصر الروضتين للدكتور محمد حسن عقيل (156) وما بعدها.
4- مجموع الفتاوى (35-127).
5- (مجموع الفتاوى 35-127 132).
6- (مجموع الفتاوى 28-635 636)
7- مختصر الفتاوى للبعلي (488).
8- انظر البيت في: حسن المحاضرة للسيوطي (2-20)، وذكر أن ابن هانئ كفّره غير واحد من العلماء لمبالغته في المدح، ومن ذلك قوله هذا البيت في المعز العبيدي.
9- مختصر الروضتين (159 160).
10- انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (26-350) والنجوم الزاهرة (4-75).
11- البيان المغرب (223/1).
12- حسن المحاضرة (2-22) وانظر ترجمته في: المنتظم (7-82) والعبر (2-339) ومرآة الجنان (2-383) وشذرات الذهب (3-52) والبداية والنهاية (11-383) والخطط (1-351).
13- تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي من عصر الإسلام إلى عصر فاروق الأول لحسن السندوبي (22 23).
14- عجائب الآثار في التراجم والأخبار (1-201).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
لكم جزيل الشكر والتقدير
10:06:46 2019-11-09