لا صفر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

شهر صفر شهر شؤم عند العرب في الجاهلية، والتشاؤم به هو من جنس الطيرة المنهي عنها، ولذا نفى - صلى الله عليه وسلم - أن يكون شهر صفر شهر شؤم، فقال: "لا عدوى ولا صفر ولا هامة" صحيح البخاري (5717)، صحيح مسلم (2220).

والمراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النهي. يقول ابن رجب - رحمه الله -: وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان، كشهر صفر أو غيره، فغير صحيح، وإنما الزمان كله خلق الله - تعالى -، وفيه تقع أفعال بني آدم. فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله، فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله - تعالى -فهو مشؤوم عليه. فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله - تعالى -أ. هـ (لطائف المعارف ص131).

وقال ابن القيم: وقد شفى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته في الطيرة، حيث سئل عنها فقال: "ذاك شيء يجده أحدكم فلا يصدنه" (أخرجه مسلم 537). وفي أثر آخر: "إذا تطيرت فلا ترجع". أي أمض لما قصدت له ولا يصدنك عنه الطيرة.

واعلم أن التطير إنما يضر من أشفق منه وخاف، وأما من لم يبال به ولم يعبأ به شيئاً لم يضره البتة، ولا سيما إن قال عند رؤية ما يتطير به أو سماعه: "اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك، اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك".

فالطيرة باب من الشرك وإلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته يكبر ويعظم شأنها على من أتبعها نفسه واشتغل بها وأكثرَ العناية بها، وتذهب وتضمحل عمن لم يلتفت إليها ولا ألقى إليها باله ولا شغل بها نفسه وفكره.

واعلم أن من كان معتنياً بها قائلاً بها كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره، وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشه.

والمتطير متعب القلب منكد الصدر كاسف البال سيِّئ الخلق يتخيل من كل ما يراه أو يسمعه أشد الناس خوفاً وأنكدهم عيشاً وأضيق الناس صدراً وأحزنهم قلباً كثير الاحتراز والمراعاة لما لا يضره ولا ينفعه، وكم قد حرم نفسه بذلك من حظ ومنعها من رزق وقطع عليها من فائدة.

ولم يحك الله التطير إلا عن أعداء الرسل كما قالوا لرسلهم: "إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون". وكذلك حكى الله - سبحانه - عن قوم فرعون فقال: "فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله". حتى إذا أصابهم الخصب والسعة والعافية قالوا: لنا هذه، أي نحن الجديرون الحقيقون به ونحن أهله. وإن أصابهم بلاء وضيق وقحط ونحوه قالوا: هذا بسبب موسى وأصحابه، أصبنا بشؤمهم ونُفض علينا غبارهمº كما يقوله المتطير لمن يتطير به فأخبر - سبحانه - أن طائرهم عنده. وأجاب - سبحانه - عن تطيرهم بموسى وقومه بأن طائرهم عند الله لا بسبب موسى. قال ابن عباس: طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم. وفي رواية شؤمهم عند الله ومن قِبَله أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله. وهذا كقوله - تعالى -: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج" أي ما يطير له من الخير والشر فهو لازم له في عنقه، والعرب تقول: جرى له الطائر بكذا من الخير والشر. وهذا لا يناقض قول الرسل: طائركم معكم أي حظكم وما نالكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وعدوانكم.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا عدوى ولا طيرة وأحب الفأل الصالح".

و عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطيرة شرك" (أخرجه الترمذي 1614 وأبو داود 3910، وأحمد 1/389 وابن ماجه 3538، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي والعراقي).

وفي صحيح مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه قال: يا رسول الله ومنا أناس يتطيرون، فقال: "ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنه". فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيِّره ويصده، لا ما رآه وسمعه فأوضح - صلى الله عليه وسلم - لأمته الأمر، وبين لهم فساد الطيرةº ليعلموا أن الله - سبحانه - لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة ولا نصبها سبباً لما يخافونه ويحذرونه لتطمئن قلوبهم ولتسكن نفوسهم إلى وحدانيته - تعالى -، فقطع - صلى الله عليه وسلم - علق الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علقة منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهله البتة.

وكانت عائشة تنفي الطيرة ولا تعتقد منها شيئاً حتى قالت لنسوة كن يكرهن البناء بأزواجهن في شوال: ما تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في شوال وما دخل بي إلا في شوال فمن كان أحظى مني عنده. وكانت تستحب أن يدخلن على أزواجهن في شوال (أخرجه مسلم 1423).

وقال عكرمة: كنا جلوساً عند ابن عباس، فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم: خير خير. فقال له ابن عباس: لا خير ولا شر. مبادرة بالإنكار عليه لئلا يعتقد له تأثير في الخير أو الشر.

وأهل السنة في هذا الباب وسط بين النفاة الذين ينفون الأسباب جملة ويمنعون ارتباطها بالمسببات وتأثيرها بها، ويسدون هذا الباب بالكلية ويضطربون فيما ورد من ذلك، فيقابلون بالتكذيب منه ما يمكنهم تكذيبهم، ويحيلون على الاتفاق والمصادفة ما لا قبل لهم بدفعه من غير أن يكون لشيء من هذه الأمور مدخل في التأثير أو تعلق بالسببية البتة، وربما يقولون إن أكثر ذلك مجرد خيالات وأوهام في النفوس تنفعل عنها النفوس كانفعال أرباب الخيالات والأمراض والأوهام، وليس عندهم وراء ذلك شيء، وهذا مسلك نفاة الأسباب وارتباط المسببات بها، وهذا جواب كثير من المتكلمين. المسلك الثاني مسلك المثبتين لهذه الأمور المعتقدين لها، وهي عندهم أقوى من الأسباب الحسية أو في درجتها ولا يتلفتون إلى قدح قادح فيها، والقدح فيها عندهم من جنس القدح في الحسيات والضروريات.

وأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طيرة وخيرها الفأل". قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم". فابتدأهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإزالة الشبهة وإبطال الطيرة لئلا يتوهموها عليه في إعجابه بالفأل الصالح، وليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يلائمها ويوافقها مما ينفعهاº كما أخبرهم إنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، فهو يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما، والله - سبحانه - قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته وميل نفوسهم إليه. وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار باسم السلام والنجاح والتهنئة والبشرى والربح وأمثالها، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال فأحزنها ذلك وأثار لها خوفاً وطيرة وانكماشاً وانقباضاً عما قصدت له وعزمت عليه، فأورث ذلك ضرراً في الدنيا ونقصاً في الإيمان ومقارفة للشرك.

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الفأل من الطيرة وهو خيرها فقال: "لا طيرة وخيرها الفأل". فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها ولكنه خيرها، ففصل بين الفأل والطيرةº لما بينهما من الامتياز والتضاد ونفع أحدهما ومضرة الآخر.

ونحن نوضح فرقان ما بينهما فنقول: الفأل والطيرة وإن كان مأخذهما سواء ومجتناهما واحداً فإنهما يختلفان بالمقاصد ويفترقان بالمذاهب، فما كان محبوباً مستحسناً تفاءلوا به وسموه الفأل وأحبوه ورضوه، وما كان مكروهاً قبيحاً منفراً تشاءموا به وكرهوه وتطيروا منه وسموه طيرة تفرقة بين الأمرين. وسئل بعض الحكماء فقيل له ما بالكم تكرهون الطيرة وتحبون الفأل؟ فقال لنا: في الفأل عاجل البشرى وإن قصر عن الأمل، ونكره الطيرة لما يلزم قلوبنا من الوجل. وهذا الفرقان حسن جداً، وقد كانت العرب تقلب الأسماء تطيراً وتفاؤلاًº فيسمون اللديغ سليماً باسم السلامة وتطيراً من اسم السقم، ويسمون العطشان ناهلاً أي سينهل والنهل الشرب تفاؤلاً باسم الري، ويسمون الفلاة مفازة أي منجاةº تفاؤلاً بالفوز والتجارة، ولم يسموها مهلكة لأجل الطيرة.

والنفس لا بد أن تتطير ولكن المؤمن القوي الإيمان يدفع موجب تطيره بالتوكل على الله، فإن من توكل على الله وحده كفاه من غيره، قال - تعالى -: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ". ولهذا قال ابن مسعود: وما منا إلا -يعني من يقارب التطير- ولكن الله يذهبه بالتوكل. " أ. هـ مختصرا من مفتاح دار السعادة (3/270-338).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply