ترتاح النفس لصور من المعاني يصنعها الخيال، أو تخرج في ثوب قشيب من حسن البيان، ذلك الارتياح لذة الشعر الذي هو صنع الألمعية المتلألئة، والتخيل الواسع، والذوق الصحيح.
ولا أظن أن في الناس من لا يلذ الشعر البديع متى أحسّ معانيه، ووقعت في ذهنه بادية الوجوه كما كانت في ذهن مصوّرها.
وإنما المشاهد أن الناس يتفاوتون في الارتياح للشعر على قدر تفاوتهم في صفاء الذوق، وتقدير ما في معانيه من غرابة وحسن التئام، أو تقدير ما في ألفاظه من حسن السبك وجودة التركيب.
فإذا رأيت الرجل يسمع الشعر البارع، ولا تلوح عليه أمارة الارتياح لسماعه، فلأنه لم يحس ما فيه من إبداع وجودة صنعة.
وكثيراً ما يعيب الناقد صورة معنى خيالي حيث لا يحس الناحية التي فعل فيها الخيال البارع فعلته.
أورد بعض الكاتبين في الأدب قول الشاعر:
كالطيف يأبى دخول الجفن منفتحا *** ولـيـس يـدخله إلا إذا انـطبقا
وعابه بقوله: إن الطيف لا يدخل الجفن، وإنما يتخيل إلى النفس.
ولو اعتاد هذا الكاتب النظر إلى الصور الخيالية من مسالكها اللطيفة، لما أتعب فكره في البحث عن الباب الذي يدخل من الطيف المتخيل للنفس في صورة المرئي رأي العين.
يصفو الذوقº فيحس براعة الشعر ولطف مسلكهº فتأخذ النفس من شدة الإعجاب به حالة ربما عبروا عنها بالإغماء.
أنشد عمرو بن سالم المالقي، في مجلس أبي محمد عبد الوهاب، أبياتاً لبعض الأندلسيين، منها:
ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم *** فـتقلدوا شـهب الـنجوم عـقودا
فأخذ أبا محمد حال من الإعجاب بهذه الأبيات حتى تصبب عرقاً، وقال: إني مما يقهرني ولا أملك نفسي عنده الشعر المطبوع.
وروى حماد ابن إسحاق، أن أباه قال له: كان العباس بن الأحنف، إذا سمع شيئاً استحسنه أطرفني به، وأفعل معه مثل ذلك، فجاءني يوماً ووقف بين البابين، وأنشد لابن الدمينة:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد *** لقد زادني مسراك وجداً على وجد
الخ الأبيات، ثم ترنّح ساعة وقال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا البيت! فقلت: لا، أرفق بنفسك.
وكان سعيد بن المسيب ماراً ببعض أزقة البصرة فسمع منشداً ينشد قصيدة لمحمد بن عبد الله النميري يقول فيها:
تضوّع مسكاً بطن نعمان إذا مشت *** بـه زيـنب فـي نـسوة خَفِرات
يـخبئن أطـراف البنان من التقى *** ويـخرجن جـنح الليل معتجرات
فضرب سعيد برجله الأرض، وقال: هذا - والله - يلذ سماعه.
وصام أبو السائب المخزومي يوماً، فما صلى المغرب وقدمت له المائدة خطر بقلبه بيتاً جرير:
إن الـذين غدوا بلبك غادروا *** وشـلاً بعينك لا يزال مَعيناً
غيضن من عبراتهن وقلن لي *** مـاذا لقيت من الهوى ولقينا
فاشتد ارتياحه لهما، حتى حلف أن لا يفطر في تلك الليلة إلا على هذين البيتين.
وكثيراً ما يكون ارتياح الأمير لبيت واحد سبباً في إغناء الشاعر ودفع مظلمته، نقرأ في أخبار ابن شرف، أن أحد عمال المعتصم ناقشه في قرية له، فورد ابن شرف على المعتصم شاكياً هذا العامل، وأنشد بين يديه قصيدة في الغرض، ولما بلغ قوله:
لـم يـبق للجور في أيامهم أثر *** إلا الذي في عيون الغيد من حور
قال المعتصم: كم في القرية التي تحرث فيها من بيت؟ قال: فيها خمسون بيتاً، فقال له: أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، ثم وقّع له بها، وعزل عنها كل وال.
وكيف ترى ابتهاج أبي عمرو بن العلاء، حين سمع قول بشار:
لـم يطل ليلي ولكن لم أنم *** ونفى عني الكرى طيف ألم
روَّحي عني قليلاً وأعلمي *** أنـني يا عبد من لحم ودم
إن في برديّ جسماً ناحلاً *** لـو تـوكأت عليه لا نهدم
لا شك أن ابتهاجه لسماعه كان بالغاً ما يمكن أن يبلغ، ينبئك بهذا أنه سُئل عن أبرع الناس بيتاً، فقال: الذي يقول"لم يطل ليلي"وأنشد الأبيات الثلاثة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد