رحلة في أعماق طاجكستان ( 2/ 2 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

في مرحلة الانفتاح الديمقراطي التي مارسها غورباتشوف، ومحاولاته الإصلاحية التي استهدف منها الحفاظ على كيان الاتحاد السوفياتي الشيوعي من خلال تنفيس الضغوط الهائلة التي تراكمت على شعوب البلدان المحكومة، في أثناء ذلك أقصى غورباتشوف في مارس 1985م "رحمن نبييف" الأمين الأول للحزب الشيوعي الطاجيكي.. أحد بقايا تركة بريجينيف.. وعيّن مكانه رئيس البرلمان "قدر الدين أصلانوف".

 

• ثورة فبراير 1990م كانت المحاولة الأولى التي قام بها الشعب الطاجيكي للتعبير عن سخطه ضد الشيوعيين، استخدم الجيش كل أشكال العنف لإيقاف الثورة.. وسقط عشرات القتلى والجرحى.. ولقد عجلت الأحداث بهجرة الروس فزرعت في نفوسهم عدم الثقة بسلامة مستقبلهم.

 

• في 19 أغسطس 1991م قاد ضباط متشددون في موسكو محاولة انقلابية ضد غورباتشوف بحجة أنه يفكك الاتحاد السوفياتي.. ولقد أثارت محاولة الانقلاب الفاشلة هذه نقمة شعبية عارمة في طاجيكستان ضد الحكومة الشيوعية في دوشنبه التي أظهرت تأييدًا كبيرًا للانقلابيين.

 

• على أثر فشل الانقلاب وسقوط غورباتشوف.. وتفكك الاتحاد السوفياتي.. أعلن البرلمان الطاجيكي استقلال البلاد وحلّ الحزب الشيوعي وكان ذلك في 25 أغسطس 1991م.

 

• في 24 نوفمبر 1991م أجريت أول انتخابات رئاسية بعد الاستقلال فاز فيها الشيوعي السابق "رحمن نبييف" رئيسًا لطاجيكستان بأغلبية 54%، بينما حصل حزب النهضة الإسلامي على 33%، وادّعت المعارضة أن الانتخابات زُوّرت، وعلى الرغم من أن "نبييف" انتخب بشكل حرّ في ظاهر الأمر إلا أنه ضرب عرض الحائط بقانون الانتخابات الذي ينص على تشكيل حكومة وفاق تضم أعضاء من المعارضة يتناسب عددهم مع نسبة الأصوات التي حصلوا عليها.. وشكّل حكومة شيوعية بحتة، وأقر البرلمان (الذي ما زال شيوعيًا) منع تأسيس أحزاب على أساس ديني وهو قانون موجه أساسًا ضد حزب النهضة.

 

في 30 أبريل أعلن "نبييف" حالة الطوارئ والحكم الرئاسي المباشر لمدة ستة شهور.. كل ذلك فجّر الغضب الشعبي فاحتشدت المعارضة من أنصار حزب النهضة الإسلامي وهو أقوى الأحزاب وأوسعها انتشارًا، وأنصار الحزب الوطني الديمقراطي الذي شكّله البروفسور "شارمان يوسفوف" وطرح برنامجًا علمانيًا يرضي سائر القوميات، وأنصار اتحاد القوى الديمقراطية (راستوخيز) الذي أسسه (طاهر عبد الجبار) وهو يدعو إلى إحياء التراث القومي الطاجيكي المرتبط بالثقافة الفارسية والذي يعارض إقامة دولة إسلامية، احتشد كل هؤلاء يوم 26 مارس 1992م في ساحة الشهادة.. بينما احتشد الشيوعيون وأنصار الحكم السابق والذين هم في معظمهم من منطقة خوجند في الشمال، ومتطوعون جيء بهم على جناح السرعة من منطقة (كولاب) في الجنوب، احتشدوا في ساحة آزادي.. وهكذا وقف الفريقان وجهًا لوجه أمام البرلمان في وسط المدينة.

 

في 7 مايو 1992م استولت المعارضة على الإذاعة والتلفزيون، وانضم إليها الجنرال "رحمانوف بهرام" رئيس فرقة الحرس الجمهوري، وفي 11 مايو وافق "نبييف" على مطالب المعارضة وهي: تشكيل حكومة ائتلافية تتسلم فيها المعارضة ثمان وزارات منها الدفاع والأمن.. واستقالة الشيوعيين المتشددين، وتشكيل (مجلس نيابي) مؤقت يمارس صلاحياته حتى إجراء انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب في 6 ديسمبر 1992م، ولقد شارك "دولت عثمانوف" ممثل حزب النهضة في الوزارة بمنصب نائب رئيس الوزراء بينما تسلم الجنرال (رحمانوف) منصب وزير الدفاع.

 

الجبهة الشعبية تتصدى للحكومة:

شكّل خصوم الحكومة الائتلافية في كولاب ما يسمى الجبهة الشعبية.. وهي أشبه ما تكون بالعصابات المسلحة.. استطاعت في بضعة أشهر أن تقطع الطريق بالقتال من حدود طاجيكستان الجنوبية إلى العاصمة، وأن تستولي على الحكم في دوشنبه.

 

حاولت حكومة دوشنبه التصدي للمتمردين، وطالبت الرئيس "نبييف" باتخاذ إجراءات لنزع سلاح الكولابيين، وعندما ماطل في تنفيذ ذلك نحّوه عن مركزه بالقوة وجاءوا بحكومة جديدة برئاسة (أكبر شاه إسكندروف).

 

دور موسكو في الأحداث:

بالرغم من الإعلان الرسمي عن استقلال طاجيكستان إلا أنها ما زالت مقيدة بروسيا في كل شيء، فاقتصادها المنهار، وعدم وجود جيش خاص بها، ووجود المستوطنين الروس القابضين على الأمور الهامة، واحتواء أراضيها على ثلث مخزون اليورانيوم في الاتحاد السوفياتي المنهار.. وتنامي التيار الإسلامي.. كل هذه الأسباب جعلت روسيا تحكم قبضتها على هذه المنطقة، يقول "أناتولي أدامشين" نائب وزير الخارجية الروسي: (إن لدينا مصالح اقتصادية في طاجيكستان، فقد وظّفنا أموالاً طائلة في ذلك البلد وهناك معادن أرضية نادرة واليورانيوم والقطن، وطاقات اقتصادية كبيرة فلماذا نترك كل ذلك؟).

 

الحرب الأهلية:

في 30 سبتمبر 1992م سيطرت قوات روسية على مطار دوشنبه، وفي 10 ديسمبر دخلت قوات الجبهة الشعبية بعتاد أوزبكي ودعم روسي العاصمة دوشنبه وأسقطت الحكومة الائتلافية.. وعزلت "إسكندروف" ووضعت مكانه "إمام علي رحمانوف" الذي أصبح بذلك أول كولابي يصعد إلى قمة هرم السلطة في طاجيكستان.

 

إن أرقام الخسائر التي سببتها الحرب الأهلية هي من الهول بحيث تبدو وكأنها بعيدة عن الحقيقة، يكفي القول أن أكثر من 80% من المصانع دمّر تدميرًا كاملاً في البلاد وخاصة في مدن كورغان تبه وكولاب وخوجند وهي من المعاقل القوية لحزب النهضة الإسلامي، فقد استعمل الجيش الدبابات والمدفعية الثقيلة ضد النساء والأطفال، وأحرقت المدارس وروضات الأطفال، وتدل الإحصاءات الرسمية إلى أن ضحايا المذابح بلغ 60 أو 70 ألفا. أما النازحون فهم في حدود المليون.

 

ولقد تصدت الطائرات الحربية للشعب الأعزل الذي لجأ إلى أفغانستان وقتلت آلاف الناس وهم يحاولون عبور نهر (أمودريا) في مياهه المجلدة.

 

ولم يجد قادة حزب النهضة الإسلامي الذي قاد الكفاح الشعبي ضد الشيوعيين غير التوجه إلى إخوانهم وأهلهم في أفغانستان وإعادة تنظيم صفوفهم واعتماد مبدأ الجهاد لتحرير بلدهم.

 

التسوية السلمية للنزاع:

لم ترفض المعارضة الإسلامية الدخول في مباحثات سلمية مع الحكومة المتسلطة الشيوعية.. فهي تعلم أن الحروب لا تحلّ مشكلة، وأن استمرارها سيكون على حساب الشعب الطاجيكي. وقد طالبت المعارضة أن تكون المفاوضات برعاية الأمم المتحدة والمجلس الأوروبي والدول الإسلامية مثل المملكة العربية السعودية وباكستان وإيران وأفغانستان.

 

أما مطالب المعارضة فتتلخص في:

• تشكيل مجلس أعلى للدولة وحكومة مؤقتة محايدة.

 

• إيقاف الاعتقالات وعودة المشردين وضمان أمنهم.

 

• إلغاء الحظر الذي فرض على الأحزاب.

 

• إجراء انتخابات برلمانية في غضون سنتين.

 

عقد الطرفان أول اجتماع لهم في موسكو في الخامس من أبريل 1994 واتفقا على تشكيل لجنة مشتركة لتسوية مشكلة اللاجئين.

 

وفي 18 يونيو 1994 عقد الاجتماع الثاني في طهران.. والذي ركز أساساً على وقف إطلاق النار بين قوات الحكومة والمعارضة ونشر مراقبين من الأمم المتحدة على الحدود الطاجيكية الأفغانية لمراقبة وقف إطلاق النار.

 

وفي 20 أكتوبر عقد الاجتماع الثالث في إسلام أباد بوساطة من الأمم المتحدة واتفق الطرفان على وقف الأعمال الحربية على الحدود وداخل البلاد حتى السادس من فبراير 1995، ووقع الطرفان برتوكولاً بشأن اللجنة المشتركة التي ستراقب الاتفاق.

 

كانت المعارضة تطالب بتأجيل الانتخابات الرئاسية التي أعلنت الحكومة عن إجرائها في أوائل نوفمبر 1994م.. وأصرت الحكومة ونجح رئيس البرلمان إمام علي رحمانوف في غياب ومقاطعة المعارضة.

 

حزب النهضة الإسلامي:

ولكن كيف استطاع حزب النهضة أن ينال هذه المكانة في هذه المدة القصيرة من عمر الاستقلال في طاجيكستان...؟

 

مما لا شك فيه أن للإسلام جذوراً حضارية عميقة في هذه المنطقة.. وازدهرت في مدنها الثقافة الإسلامية خصوصاً في بخارى وسمرقند الواقعتين حالياً في أوزبكستان.

 

وبعد غياب قسري طويل انحسر فيه تأثير الإسلام في الحياة العامة في الجمهوريات السوفياتية لأكثر من 60 عاماً، عاد الإسلام إلى البروز بقوة منذ عهد الرئيس ميخائيل غورباتشوف فقد أعيد فتح نحو ثلاثة آلاف مصلى ومائة وخمسة وستون مسجداً إضافة إلى المعهد الإسلامي الذي يضم 1200 طالب و280 طالبة. ولقد تجمع المتدينون وتلامذة المدارس السرية والمبتعثون إلى الشرق العربي خصوصاً مصر في تنظيم إطلق عليه حركة النهضة، واختاروا روسياًّ من جمهورية داغستان رئيساً لهم هو الدكتور (أحمد القاضي)، وعقدت القيادة المركزية للحزب مؤتمرها التأسيسي في صيف 1990م بمدينة استراخان الروسية، حيث حضره مائتا مندوب يمثلون تسع جمهوريات (سوفياتية). وتسارعت الأحداث إثر محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها (الضباط الروس المحافظون) ضد غورباتشوف وإصلاحاته التي انتهت بتفكيك الاتحاد السوفياتي واستقلال جمهورياته، فاستقلت فروع النهضة عن القيادة المركزية مع الاحتفاظ بعلاقات أدبية بينها، وحصل اثنان من الفروع التسعة على اعتراف رسمي، الأول في روسيا بحكم القانون، والثاني في طاجيكستان بحكم الأمر الواقع.

 

حركة النهضة الإسلامية تصف المرحلة فتقول:

كان المسلمون يلتقون في بيوت يبنونها على شكل مكان لشرب الشاي (شاي خانه) يطلقون عليها كلوب، وزيادة في التمويه كانوا يعلقون على الجدران صور القادة الشيوعيين مثل ماركس ولينين، وكانوا يسمون زاوية من هذا البيت الزاوية الحمراء. في مثل هذه الأماكن كان المسلمون يلتقون.

 

كانت طاجيكستان قد قطعت شوطاً كبيراً في الحفاظ على هويتها الإسلامية، ولذا لم يكن يدعو للدهشة تحطيم تمثال لينين وكان أول نصب شيوعي يهوي في آسيا الوسطى. وسميت الساحة فيما بعد ساحة الحرية.

 

دور الغرب وإسرائيل في مواجهة الصحوة الإسلامية:

تراقب دول الغرب أحداث طاجيكستان عن كثب، وكانت أمريكا قد عبرت عن رغبتها في بقاء الشيوعيين في الحكم كما أنها قدّمت لهم الأسلحة تحت ستار نقل المواد الإغاثية، وعندما تعرضت منطقة كولاب في ربيع 1992م لفيضانات كبيرة زارها السفير الأمريكي عدة مرات.

 

أما إسرائيل فقد أصبحت لها أملاك واسعة ومؤسسات اقتصادية هامة في آسيا الوسطى يحميها رجال أمن يهود من نفس المنطقة. وتقوم إسرائيل بترحيل اليهود الطاجيك إلى إسرائيل.

 

لقد تحركت إسرائيل قبل بداية الأحداث الأخيرة حيث قام (أربيه ليفي) مدير الشؤون الخارجية الإسرائيلية بزيارات إلى كل من كازاخستان وطاجيكستان وقرقيزيا وأوزبكستان في فبراير 1992م درس فيها كيفية إقامة التعاون الاقتصادي الشامل بينها وبين هذه البلدان.

 

إن رؤساء هذه الدول وخاصة طاجيكستان يتلقون دعماً كبيراً من إسرائيل التي تشجعهم وتقنعهم عبر بعثاتها الدبلوماسية بضرورة التصدي للصحوة الإسلامية وضربها بل وجرها إلى معركة قبل أن يتم بنيانها.

 

الصين أبدت تخوفها الشديد تجاه أحداث طاجيكستان، وطلب الوفد الصيني الذي زار أوزبكستان مؤخراً تعاون البلدين لمنع وصول الأصولية إلى بلديهما. فهي تخشى من امتداد الأصولية إلى منطقة سينغيانغ الصينية ذات الأغلبية المسلمة حيث يوجد 30، 000 طاجيكي.

 

من الأمور التي تقلق الغرب امتلاك هذه الدول خبرات نووية.. والخشية من انتقالها إلى العالم الإسلامي.

 

يقول ليونيد فسكلير أحد العاملين في معهد كورتشاتوف النووي في موسكو: (إن طاجيكستان تمتلك عدة مناجم يورانيوم ومصانع لمعالجته ومخزونات من اليورانيوم غير المخصب في شمال البلاد). وفي تقرير للمعهد نفسه يفيد بأنه تم بناء أول مصنع لمعالجة اليورانيوم في طاجيكستان عام 1946. كما تم استعمال إنتاجه لتصنيع القنبلة الهيدروجية الأولى التي فجرت في عام 1949م في كازاخستان فضلاً عن وجود مصنع كبير لليورانيوم في خوجند (لينين آباد سابقاً) انتج عام 1992م (2000) طناً من أوكسيد اليورانيوم كما أن أول قنبلة نووية روسية صنعت في طاجيكستان وهكذا فقدرات طاجيكستان النووية كبيرة جداً، ولو صحّ ما نشرته صحيفة (زفيزدا) اعتماداً على عدة مصادر غربية مطلعة حول المباحثات السرية بين عدة دول إسلامية وطاجيكستان بشأن القضية النووية، فهذا يعني الطامة الكبرى في نظر الولايات المتحدة وإسرائيل بالذات فضلاً عن روسيا التي لا ترضى بذلك مطلقاً، كل ذلك يفسر لم كانت القضية الطاجيكية هي الأسخن والأهم من بين قضايا الجمهوريات الإسلامية الأخرى؟!

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply