بسم الله الرحمن الرحيم
لعل من أفضال النهضة الأوربية الحديثة وما انتهت إليه من حضارة غربية معاصرة، على شعوب العالم، أنها بتحديها الكبير لكل المجتمعات التقليدية، والهزة العنيفة التي أحدثتها في كيانها، قد نبهت هذه الشعوب إلى ضمور شخصياتها، وشحذت عزمها على البحث عن سر هذا الضمور، واكتشاف عناصر القوة في حاضرها، بتتبع منابع الأصالة والإبداع في ماضيها، ساعية بذلك إلى تأكيد ذاتها حتى تقف على رجليها بعد طول سبات في مجال الإبداع والإسهام في بناء الحضارة. وذلك لأن هذه الحضارة – رغم ادعاء الغرب ابتداعها على غير مثال – هي في حصيلتها النهائية جهد مشترك، وحصيلة لكل تراث الإنسان على الأرض. وهي وإن اصطبغت في كثير من جوانبها بالصبغة الأوربية والغربية عامة، فليست ملكًا لأحد، وهي في عمومها إنسانية المنحى، خاصة فيما يتعلق بالأسس العلمية والتكنولوجية التي يرتكز عليها المجتمع الحديث. فالدراسات العلمية والبحوث والنظم الإدارية وما إليها يمكن تطبيقها دون كبير عناء في كل قطر من أقطار العالم تتوافر فيه الإمكانيات والكفايات اللازمة، ومن ثم عمّت هذه الحضارة الحديثة في صورها المختلفة كل بقاع العالم تقريبًاº لأنها لا تعترف بالحدود، ولا تصدها السدود، ولكنها – كما برهنت تجربة القرنين الماضيين – لا تنتقل عامة في صور مجردة، بل تتخذ من الأوعية والقوالب والأزياء والأصباغ والألوان ما يجعلها شديدة اللصوق بالشخصية القومية للأمة التي تنقلها. فالإنجليز – مثلاً – الذين استعمروا قدرًا كبيرًا من العالم، لم ينقلوا أسس الحضارة الحديثة مجردة، بل نقلوها بما تهيأ للإنجليز أن يتأثروا بها ويطوعوها ويصبغوها بصبغتهم القومية. ومثل ذلك فعل الفرنسيون، ومثل ذلك يفعل الأمريكيون. فهناك إذن تراث عالمي مشترك هو هذه الحضارة الصناعية التي ارتبطت في كثير من مظاهره
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد