بنغلاديش بين الحملات المغرضة والقلاقل السياسية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

وسائل الإعلام الغربية بدأت بتوجيه بوقها نحو بنغلاديش، وأخذت تكيل لها التهم والانتقادات بأنها دولة أصوليةº وهي تحاول في مسعاها هذا أن تصبغ ثالث أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان بصبغة مفادها أنها أصبحت مؤهلة أكثر من غيرها لإخراج جيل حديث من عناصر التطرف الأصولي المسلحº فوسائل الإعلام الهندية والأمريكية تلعب دوراً يتسم بالحيوية المفرطة لإبراز هذا الجانب، وجعله السمة الأكثر التصاقاً ببنغلاديش، خصوصاً في مدة رئاسة خالدة ضياء للوزارة الحالية في دكا التي مضى أكثر من عامين في السلطة.

فمن المعلوم أن حكومة خالدة ضياء وحزبها ليسا على وئام تام مع الجارة الغربية الهند، على العكس من الروابط الحميمة القائمة بين الهند وبين حسينة واجد (رئيسة وزراء بنغلاديش السابقة) التي تترأس حزب رابطة عوامي (الشعب)، الذي يعد أكثر ميلاً للهند، ويدعم مصالحها في المنطقة.

ويأتي الارتباط الوثيق في هذا المنحى بين وسائل الإعلام الهندية والغربية في إطار الشراكة الاستراتيجية القائمة بين الهند والولايات المتحدة، فهما البلدان الرئيسان ومعهما إسرائيل في اتباع نظرية الولايات المتحدة القائمة على توجيه الضربات الاستباقية، فلم تخفِ أبواق الدعاية الهندية القلق الرسمي مما وصفته بتنامي أنشطة التنظيمات الإسلامية المسلحة في بنغلاديش، وما يشكله ذلك من خطورة مفترضة على الأمن والاستقرار في المنطقة، ويساندها في ذلك ما انتهجته وسائل الإعلام الأمريكية من هجوم موجه ضد الدول الإسلامية، وأخذت مؤخراً تولي بنغلاديش نوعاً من الأهمية إرضاءً لشريكتها الهند.

صحيفة النيويورك تايمز كانت من السباقين في هذا المجال فنشرت موضوعاً حول بنغلاديش في يناير الماضي، بادرت فيه للتحذير مما وصفته بالنمو غير العادي للأنشطة الإسلامية في بعض الأقاليم البنغلاديشية، وخصوصاً تلك المحاذية للحدود مع الهند، وهو الادعاء الذي يخيف طرفي الشراكة الاستراتيجية اللذان يركزان جهودهما على مواجهة حركات التطرف الإسلامي بدون أدنى اكتراث بحركات التطرف الديني الأخرى - والتي منها الهندوسي على سبيل المثال لا الحصر - والتي تفوق أي أنشطة لدى مسلمي المنطقة، باعتبار أن مجرد ممارسة المسلم لعباداته مسألة تندرج في بوتقة التطرف في نظر وسائل الإعلام الهندية والغربية، وهو اعتقاد قائم لديها على الكثير من المغالطات.

ولم يفت الصحيفة أن تحذر مما أسمته بالأنشطة الإسلامية الإرهابية التي تشهدها الأجزاء الشمالية من بنغلاديش، والتي ترى فيها امتداداً ورافداً للحركات الإسلامية في المنطقة، وتمضي الصحيفة لتقول: إن قرابة العشرة آلاف من الإسلاميين المتطرفين أكملوا ما وصفته من ترتيب لصفوفهم، ورفعوا راية ما أطلقوا عليه تسمية حزب "جاغراتا مسلم جاناتا" المتطرف، وزعمت الصحيفة أنهم يتجمعون في معسكرات تدريب بالقرب من الحدود الدولية مع الهند.

ادعاءات الصحيفة لم تتوقف عند هذا الحد بل استمرت كاتبته ايليسا جريسوولد في القول بأن هذا التنظيم الإسلامي مرتبط على نحو ما مع قيادات الشرطة في بنغلاديش، ويخططان معاً لإقامة جماعة إسلامية أصولية لتأخذ على عاتقها القيام بما أوحت إليه الكاتبة بأنه ثورة إسلامية - قالت: إنها ستكون عارمة -، وربما يمتد أثرها ليصل إلى الدول المجاورة فإلى التي تليها.

وربما كانت الأخبار المنسوبة إلى هذه المجموعة فيها الكثير من المبالغة حول طبيعتها، والغرض من قيامها هذا إذا كانت تنظيمات ذات توجهات إسلامية حقيقية، فالكثيرون يرون أن هذه التنظيمات قد لا تخلو من روابط مع جهات خارجية حتى وإن كان ذلك جزئياً أو مرحلياً، حيث يجب القيام بقدر كاف من التمحيص والتدقيق في هذه طبيعة التنظيمات، ومعرفة الغرض الأساسي من تأسيسها، فمن غير المحتمل أن تسمح الولايات المتحدة وحليفتها الهند بقيام تنظيمات إسلامية حقيقية في بنغلاديش ناهيك عن أن تكون مسلحة.

ورغماً عن المبالغة الكبيرة التي تحيط بهذه التنظيمات إلا أن حكومة خالدة ضياء تتعرض لضغوط هندية بسببها، والتي تعتقد الكثير من المصادر بأنها ربما تم تلفيق الهوية الإسلامية المتشددة وإلصاقها بها، فالآراء لا زالت متباينة حول نشأة هذه التنظيمات، وتصب الضغوط الهندية على حكومة خالدة ضياء في خانة المطالبة بقمع هذه التنظيمات، والعمل بالتالي على إثارة القلاقل والمواجهات المسلحة في بنغلاديش تهيئة لإضعاف الحكومة والحزب المناوئين للنفوذ الهندي في ذلك البلد، والإتيان بنظام يكون أكثر تساهلاً مع أطماع الهيمنة التي تحاول الهند فرضها بمختلف الأساليب على منطقة جنوب آسيا.

بل إن هناك من يرون وبدون مواربة أن الهند تقف وراء تجميع هذه التنظيمات مع بعضها البعض لاستغلال العواطف الدينية، وإحداث نوع من عدم الاستقرار بالشارع البنغلاديشي بهدف دعم المصالح الهندية في ذلك البلد، وهي المصالح التي قد تكون ضمن أشياء كثيرة مصالح اقتصادية وتجارية.

أما أغراض وسائل الإعلام الغربية من إثارة هذا الموضوع فهو من ناحية دعم للتوجهات الهندية، ومحاولة جديدة كم جهة أخرى لتلويث صورة الإسلام، ووصمه بالإرهاب والتطرف في محاولة جديدة لتشويه هذا الدين، والتطرق مجدداً للمصطلح القديم الجديد الخاص بالإسلام المسلح.

الحكومة البنغلاديشية عاجلت بنفي التقرير الذي نشرته الصحيفة الأمريكية، واتهمت المعارضة البنغلاديشية بتبني مثل هذه الاتهامات، وأنها تقوم بترويجها من خلال أجهزة الإعلام المحلية والإقليمية والدولية عملاً منها على تشويه صورة الحكومة الحالية في دكا، وأشار المسؤول الإعلامي بوزارة الخارجية البنغلاديشية إلى أن المعارضة تروج مثل هذه الاتهامات بغية إلصاق شائبة دعم التطرف والإرهاب بالحكومة الحالية.

وزارة الإعلام في دكا قامت أيضاً بنفي النبأ، وبالتأكيد على أن السبعين ألف نسمة الذين يعيشون في الإقليم الشمالي من البلاد لا يمثلون لوحدهم بقية الشعب البنغلاديشي، واستند المتحدث باسم وزارة الإعلام إلى إحصائيات لديه تنص على أن 1400 صحفي أجنبي قاموا بزيارة بلاده خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ولم يخرج منهم أحد بمثل هذه التقارير سوى اثنين أو ثلاثة قاموا بنشر مثل هذه الاتهامات وهو عدد ضئيل جداً.

زعيم التنظيمات المسلحة مدار البحث يطلق على نفسه اسم "بنغلا باي"، والتي تعني شقيق البنغال، والذي استطاعت مجموعته الحصول على دعم الشرطة في المنطقة على الرغم من قيامها بعمليات عنف مسلح في منطقة الشمال الغربي من بنغلاديشº والشرطة في تلك المنطقة تسمح لهؤلاء بالتدرب على استخدام السلاح.

والكثيرون ينظرون إلى هذه الشخصية البنغلاديشية الجديدة على أنها غير ذات ميول إسلامية، وأنها تميل لاستخدام العنف المسلح المدعوم من بعض القوى السياسية في بنغلاديش لتحقيق أهداف مرحلية قادمة، صحيفة (نيو ايج) المحلية في دكا لم يسعها سوى أن تتبنى هذا الرأي في أواخر شهر يناير.

وهناك من يفترضون جدلاً أن هذه التنظيمات قد نشأت تحت زعامة الحزب الحاكم، ولكن السحر انقلب على الساحر، وخرجت من تحت عباءة الحزب الذي ترأسه خالدة ضياء، وبدأت تنفذ مخططاً خاصاً بها، محاولات رئيسة الوزراء للقبض على مسؤولي هذه التنظيمات باءت بالفشل الذريع بعد أن خرج ما يربو عن ستة آلاف متظاهر من مؤيدي هذا التنظيمات إلى الشوارع تحت حماية شرطة منطقتهم لمقاومة أي محاولة لتنفيذ قرار رئيسة الوزراء الخاص بالقبض على قادتهم، ووضعهم خلف القضبان.

ولا يسع العارفين ببواطن الأمور في بنغلاديش وبحقيقة التسامح منقطع النظير الذي يدعو إليه الدين الإسلامي إلا أن يشعروا بالقلق الشديد من المقال الذي دبجته اليسا جرسوولد بعنوان "بنغلاديش: الثورة الإسلامية القادمة؟"، والذي لا ينم سوى عن جهل شديد من الكاتبة بالحقائق على أرض الواقع، والأخطر من ذلك إصابتها بجهل يكاد يكون مطبقاً عن الإسلام وما يدعو إليه من حق وعدل وتسامح.

لقد أغفلت الكاتبة كل الظروف المحيطة بثالث أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، والتي لم تعد عبارة عن مجرد سلة للفقر كما وصفها هنري كيسنجر في عام 1972م، ولكن هذا لا يعني أن كل شيء على ما يرام في بنغلاديش، فهو بلد كغيره من دول جنوب آسيا لا يزال يعاني من العقم الإداري والسياسي بسبب العنف والفساد وانعدام التجانس السياسي بين من يحكمون ومن يعارضونهم، والسرقة المنظمة للمال العام، واستخدام جميع الوسائل بما فيها العنف لتجنب دفع الضرائب، كما أن أجهزة قمع الفساد في بنغلاديش لا تزال تقتل أهدافها في عمليات مسلحة تشير في نهايتها إلى أن الهدف قتل خلال تبادل لإطلاق النار، ولا يمكن لوزير بالحكومة أن يقر بأعمال عنف كهذه تتم فيها ملاحقة الأهداف بالسلاح وقتلها بدون محاكمة.

والشعب بصفة عامة في بنغلاديش (بدون حفنة من السياسيين والمفكرين ونشطاء حقوق الإنسان) مبتهج بعملية التطهير التي تتعرض لها العناصر الفاسدة، وإن كانت تتم بطريقة القتل خلال المواجهات التي تدبرها القوات الأمنية الخاصة، وما يسمى بالخبراء الغربيين في شؤون الإرهاب يلقون باللائمة في أحداث العنف هذه على ما يصفونه "بالإرهاب الإسلامي" رغماً عن أن أجهزة أمنية حكومية هي التي تنفذه، وقامت منذ منتصف عام 2004م وحتى الآن بقتل ما يربو على 300 من المشتبه بأنهم عناصر تحرض على الفساد، وترتكب أعمال عنف واغتيالات وقطع للطريق وما إلى ذلك.

وجرسوولد ليست الكاتبة الغربية الأولى التي تطرح صورة تحذيرية كهذه لبنغلاديش، فقد قام بيرتيل في أبريل 2002م بكتابة موضوع آخر مثير للمشاعر في جريدة وول ستريت جورنال، والذي زعم فيه بأن ثورة إسلامية تشق طريقها إلى السطح من بين تلال هذا البلد الفقير المتخم بسكانه، وقد بلغت هذه التحذيرات مبلغاً كبيراً من المبالغة لدرجة أن السفيرة الأمريكية في دكا حينها ماري آن لم تخف حنقها على الجريدة وعلى مجلة " فار ايستيرن ايكونومك افيرز" لنشرهما هذه التحذيرات عن بلد وصفته السفيرة بأنه يضم "أمة إسلامية ليبرالية"، وطالبت بالتحقيق في الدوافع الحقيقية وراء نشر مثل هذه التحذيرات.

الرئيس السابق لتحرير المجلة أعلاه قام هو الآخر بمهاجمة من وصفهم "بالناقمين على المسلمين" بمن فيهم دو جونز الذي يمتلك مجلة "فار ايستيرن ايكونومك افيرز".

البنغلاديشيون هم الآخرون انتقدوا لينتنير تماماً مثلما ينتقدون جريسوولد حالياً، ولديهم من الأسباب ما يكفي للقيام بذلك، فهؤلاء كتاب صحفيون يؤمنون إيماناً راسخاً بمقولة: إن النار العارمة يسببها مستصغر الشرر، وهم يحاولون إضرامها.

وكأن هذه الأصوات التي تؤجج النار ضد بلد مسلم فقير لا تكفي لكي تقوم رئيسة المعارضة في البرلمان الوطني بدكا حسينة واجد بركوب الموجة مع هذه الأصوات، وتقوم بتوجيه الاتهام لحكومة بنغلاديش بأنها ذات توجهات داعمة لطالبان!، وأنها موالية لباكستان، وتقف ضد مصالح بنجلاديش، ويرد التحالف الحاكم بأن حسينة واجد وحزبها ميالان لدعم الهند وأنهما عدوان للإسلام.

ومما تجدر الإشارة إليه أن حسينة واجد عندما كانت بالسلطة إبان زيارة كلنتون لدكا في مارس 2000م قد حذرته من مغبة تعرضه لهجوم إرهابي ممن وصفتهم بالمتطرفين الإسلاميين، وبعد أحداث 11/9 امتلأت شوارع دكا بصور ابن لادن وخالدة ضياء، وكتب تحتها كلمة صديقين، ومنذ أن خسرت حسينة الانتخابات العامة في أواخر عام 2001م وهي تصف الوزيرين اللذين ينتميان للجماعة الإسلامية البنغلاديشية وعضوا التحالف الحزبي الحاكم في دكا بأنهما عميلان لحركة طالبان، وأن حكومة خالدة ضياء غير شرعية، ولهذا فإن المرء لا يسعه إلا أن يعتقد أن المداولات التي أجرتها اليسا جريسوولد قد اقتصرت خلال إعدادها لمقالها على عناصر تابعة لحسينة واجد وحزبها، وهو ما يبوح بسر المغالطات الواردة فيه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply