بسم الله الرحمن الرحيم
يمر السودان هذه الآونة بأخطر المراحل في تاريخية السياسي، وهذه الخطورة تنصب بالأساس على الشعب السوداني وجارته الشمالية مصر، ومن أسف أن ما يحدث في السودان يجري في صمت ودون ضجيج إعلامي، وكأن ما يحدث يتم بموافقة ومباركة الشعب السوداني، في حين أن الملف السوداني يدار الآن في واشنطن عبر وكلائها في المنطقة 'كينيا المختصة بملف الجنوب، وتشاد المختصة بملف دارفور'.
والخطورة التي يمثلها هذا الملف أن السودان بوابة العرب والإسلام الجنوبية إلى إفريقيا، وتمثل جغرافياً واستراتيجياً الظهير الاستراتيجي للعرب عامة ومصر خاصة، إضافة إلى كونها تحمي الأمن المائي لمصر من خلال نهر النيل، ومن هنا فإن عمليات التقسيم والتجزئة التي يمر بها السودان الآن تجعل ظهر مصر والعرب مكشوفاً أمام تحديات أقلها التحدي المائي، وأخطرها تحدي التقسيم والتجزئة، ولكي تتضح لنا أبعاد هذا الملف لابد من الوقوف على بعض المعطيات التي تلخص المشهد السوداني، ويمكن إجمالها فيما يلي:
ـ مشهد حقوق الإنسان:
يتعرض السودان الآن للتلويح بعصا حقوق الإنسان الأمريكية، وإن لم تعد هذه تخيف أحداً بعد انتهاكات حقوق الإنسان المروعة في العراق على يد الأمريكان أنفسهم، فأمريكا تقول عبر تقارير دولية وأمريكية إن الحكومة السودانية تقوم بعملية تطهير عرقي في إقليم دارفور، وأن سكان منطقة دارفور يتعرضون لنظام رعب على يد المليشيات الموالية للحكومة والمسماة الجنجويد، وهي قبائل عربية تزعم أمريكا أنها تقوم بإبادة السكان الأفارقة والزنوج من المنطقة نفسها.
ورغم أهمية مشهد حقوق الإنسان وخطورته في السودان إلا أنه ليس المشهد الأسوأ، حيث إن ما تقول أمريكا إنه إبادة عرقية ضد سكان دارفور لا يمكن أن ينطلي على أحد، لأن معظم هذه القبائل مسلمة وموالية للحكومة، برغم أن هناك تهميشاً وإهمالا من قبل الحكومة لسكان الأطراف في السودان عموماً، وحتى الخرطوم العاصمة، وإذا كانت أمريكا عبر المنظمات الدولية الحقوقية الموالية لها تريد لفت الأنظار عما يحدث في العراق من انتهاكات لحقوق الإنسان، فإن الحكومة السودانية استطاعت أن تدير هذا الملف بجدارة من خلال تصريحات وزير خارجيتها د. مصطفى عثمان الذي قال: إن على أمريكا أن تحترم حقوق الإنسان في العراق وفلسطين قبل أن تتحدث عن السودان، كما سمحت لوفد من الجامعة العربية بزيارة منقطة دارفور، ولم يشر الوفد إلى أية إبادة عرقية في المنطقة باستثناء إهمال الحكومة للمنطقة من ناحية التنمية.
ـ المشهد الجنوبي:
انتهى جانب من المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية في كينيا تحت إشراف منظمة الإيجاد، وعبر الإدارة المباشرة من السفير الأمريكي في كينيا ومسئولي ملف السودان وإفريقيا في الخارجية والإدارة الأمريكية، وأعلن عن اتفاقات إطارية إلا أن اتفاق السلام الشامل سيحوي العديد من التفاصيل التي ستجعل الملف قابلاً للتفجير في أية لحظة، وأياً كان المآل الذي ستؤول إليه المفاوضات إلا أنه يمكننا القول: إن الحركة قد حققت مكاسب جمة في هذا الملف على حساب خسائر الحكومة يمكن إيجازها فيما يلي:
1ـ تقاسم السلطة:
فيما يتعلق بهذا الملف فإن الحركة استطاعت عبر عنوان 'تقرير المصير' أن تتوصل إلى اتفاقات مع الحكومة من شأنها ليس تقرير مصير الجنوب فقط بل تقرير مصير السودان ككل، والانطلاق من هذا العنوان إلى عناوين أكثر خطورة وهي تقاسم السلطة، والتي هي مرادف لتقسيم الوطن، فمنذ أن جلست الحكومة السودانية مع الحركة في مفاوضات لم يكن الأمر مسألة إنهاء الحرب الأهلية التي امتدت لأكثر من عشرين عاماًº بقدر ما سعى جارانج وحركته عبر نصائح عواصم غربية وإفريقية للتأسيس لكيان جنوبي يمهد لتقسيم السودان وتجزئته وإضعافهº تمهيداً لإعادة رسم خريطته وهويته وانتمائه، فلم تعد المسألة مجرد تقرير مصير واستفتاء لأهل الجنوب يخيرهم بين الجنوب والشمال، وإنما الحديث الآن يجري على خلفية أن الجنوب أصبح كياناً مستقلاً أي باختصار دولة أخرى 'وهذا هو الأخطر'، خاصة إذا انضمت إليه ولايات أخرى من السودان، وهذا ما حدث بالفعل في منطقة أبيي، حيث تم الاتفاق وفقاً للمقترحات الأمريكية على أن تكون منطقة 'أبيي' - وهي منطقة تابعة وفقاً للتقسيم الجغرافي السوداني ضمن شمال السودان وليس إلى جنوبه -، ولكن نظراً لموقع المنطقة الاستراتجي، وغناها بالنفطº سعت الحركة الشعبية إلى محاولة ضمها إلى ولايات السودان الجنوبية، وفي هذا السياق تم الاتفاق على أن يكون هناك استفتاء لأهالي منطقة أبيي بعد ثلاث سنوات للاختيار بين البقاء مع الشماء أو الانضمام إلى الجنوب، وهكذا نجد أن تقرير المصير والاستفتاء أصبح أقرب الطرق إلى التقسيم والتجزئة، ولم يعد المطروح الآن مسألة الوحدة التي تعول عليها الحكومة وفقاً لإطار مشاكوس.
إن خطورة الاتفاقات أنها تؤسس لتقسيم السودان وليس لوحدته - بدليل ما يحدث في منطقة أبيي التي سوف يتم التعامل مع الجنوب من خلالها وكأنه دولة - من حق أهالي المنطقة الانضمام إليها، والتصويت لصالحها، ولذلك فإن سياسة الخطوة خطوة التي تطبقها أمريكا في السودان تجعلنا نقول إن السودان المقبل سيكون مكوناً من أربع دويلات على الأقل 'شرقاً ـ غرباً ـ جنوباً ـ شمالاً'، وإضافة إلى ما سبق فإن الحركة الشعبية بقيادة جارانج تسعى عبر اقتسام السلطة إلى تحقيق منجزات أخرى على مستوى الشمال والغرب على الأقل في الفترة الحالية، فقد أعلن جارانج أكثر من مرة استعداده للتوسط بين الحكومة والحركات المعارضة في دارفور، وهناك تقارير صحفية تؤكد دور جارانج في إشعال فتيل الحرب بين الحكومة وسكان دارفور، كما تسعى الحركة من خلال العنوان نفسه 'اقتسام السلطة' إلى التدخل في الشأن الشمالي والسوداني ككل من خلال جعل جارانج هو النائب الأول للبشير، أي أن جارانج من حقه في حال غياب البشير لأي سبب عن السلطة أن يكون بكل بساطة هو الرئيس القادم للسودان.
2ـ مشهد دارفور:
تضم منطقة دارفور 3 ولايات سودانية تقع في الغرب على حدود التماس السودانية التشادية، وتشهد هذه المنطقة مواجهات بين الحكومة وبعض فصائل المنطقة على خلفية إهمال المنطقة وتهميشها، وتردي أوضاعها المعيشية والإنسانية والصحية على غرار مناطق كثيرة في الدول، وقد استطاعت القوى المختلفة المناوئة للحكومة السودانية سواء داخلية 'جارانج - الترابي'، أو إقليمية 'تشاد' ودول الجوار، أو دولية [أمريكا، فرنسا، الاتحاد الأوروبي] أن توظف ما يحدث في المنطقة لصالحها عن طريق استغلال ما يحدث في المنطقة لتحقيق بعض المصالح من أهمها:
أ- فتح جبهة مواجهة جديدة للحكومة السودانية تضعفها وتجعلها تقدم تنازلات في ملف الجنوب، وملفات أخرى داخلية.
ب- ترشيح ملف جديد ومنطقة جديدة بعد الجنوب لتكون هي المسرح المقبل لتدشين الدولة الثالثة في السودان بعد الجنوب.
ج- استخدام العرق في الصراع، حيث إنه بعد أن تم توظيف ما يحدث بين الشمال والجنوب على استخدام سلاح العرب والأفارقة لأن معظم سكان المنطقة مسلمون، ومن ثم يصعب تصوير الصراع في المنطقة على أنه صراع ديني، ويتم الترويج على أنه صراع عرقي بين عرب وزنوج أفارقه.
د- توظيف الصراع الفرنسي - الأمريكي في إدارة الصراع في السودان، فإذا كان الملف الجنوبي من نصيب الأمريكان عن طريق كينيا الدولة الحليفة لأمريكا، فإن ملف دارفور من نصيب تشاد الدولة الحليفة لفرنسا، ومن شأن ذلك تأجيج الصراع وإطالة أمدهº وفقاً لاختلاف المصالح بين الأمريكان والفرنسيين في المنطقة.
3ـ مشهد العاصمة:
رغم أن الخرطوم حتى الآن هي العاصمة القومية للسودان، إلا أنها هي الأخرى لم تسلم من محاولات تقسيمها، ومسخ هويتها، وسلخها عن عروبتها، من خلال بعض العناوين مثل: الشريعة الشعبية حول تطبيق الشريعة، إذ كانت الحركة تريد عاصمة علمانية بلا شريعة، ولما لم يتبق للحكومة الإسلامية في السودان سوى هذا الملف لتدافع عنه، فإنها حاولت جاهدة للحيلولة دون تحقيق مطالب الحركة بإقصاء الشريعة من حكم العاصمة، ويبدو أن الحركة رأت أنه ليس من المناسب الآن تحقيق كل مكاسبها مرة واحدة، فوافقت على تطبيق الشريعة في العاصمة، واستثناء غير المسلمين من هذه القوانين، واحترام قوانين غير المسلمين الدينية، والخطير في هذا الملف ليس مسألة الشريعة باعتبارها عنوان الهوية، والانتماء، والبقية الباقية من المشروع الإسلامي في السودان، ولكن الخطورة تكمن في أن تؤسس ولاءات وهويات جديدة في السودان تقوم على العرق واللون والقبيلة، وهو ما يمثل خطورة حتى على الكيانات التي ستنشأ جراء هذه الاتفاقات، فما المانع بعد الآن أن تحتكم كل قبيلة إلى تقاليدها وقيمها؟
الأمر الثاني في هذا السياق هو المخاوف التي تبديها دوائر في النظام السوداني من نقل المعارك والتمرد إلى الشمال تمهيداً لإضعافه، وفي هذا السياق يمكن فهم الدوافع وراء تأسيس 'منبر السلام العادل' من مجموعة تضم مسئولين في الحكومة، وأعضاء بارزين في الحزب الحاكمº تدعو المجموعة إلى فصل الشمال عن الجنوب، وتقرير مصير الجنوب بعد عام وليس بعد ست سنوات كما جاء في الاتفاقات.
وفي النهاية يمكن القول:
إن ما يحدث في السودان ليس أقل خطورة مما يحدث في العراق، الأخطر في المشهد السوداني أنه يتم في صمت، ولا يجعلنا نستبعد تحقيق أمل بني صهيون في كيانهم الممتد من الفرات إلى النيل، وهو ما يجعلنا أيضاً نتساءل: هل يتم تجهيز النيل ليكون الحد الجنوبي لكيان بني صهيون.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد