بسم الله الرحمن الرحيم
إن ضعف الوازع الديني، وانتشار التحلل الأخلاقي، وتآكل دور الكنيسة في الغرب عموماً غير خاف على أحد، فلم يعد الوازع الديني يحرك أوروبا، بقدر ما أصبحت تحركها خريطة الجغرافيا السياسية والاستراتيجيات المتوسطة والبعيدة المدى، في ظل احتكار الولايات المتحدة لقيادة الحلف الأطلسي.
والرأي العام الغربي حيل بينه وبين المعرفة الكاملة بالعالم الإسلامي، وتولي الإعلام المغرض صناعة صور مشوهة مقلوبة لتحولات الإحياء الإسلامي، بالتمييز المصطنع بين مسلمين علمانيين ومسلمين متشددين.
هذه نقاط هامة نحتاجها ونحن نتحدث عن أزمة الحجاب في فرنسا هذه الأيام.
والحضور الإسلامي في ديار العلمانية لم يتجاوز قرابة خمسين عامًا من الزمان، فقد توجه إلى البلدان الغربية أفواج من المهاجرين منذ الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بحثًا عن عمل يرفع مستواهم المادي والاجتماعي، أو سلوكًا لطريق علم تجريبي أو إنساني ينفع النفوس والمجتمعات، أو هروبًا من استبداد سياسي واحتماءً بالديمقراطية والحرية.
لكن الإسلام تحول من الجيل الثاني والثالث، من مهاجر غريب، إلى مواطن أوروبي يسعى إلى التخلص من جذوره الثقافية والسياسية الأولى، ليندمج في الثقافة الغربية والحياة السياسية العامة، وبذلك أصبح هذا الإسلام الأوروبي رقمًا صعبًا داخل المعادلات الداخلية والدولية، بالنظر إلى الصحوة الدينية المتزايدة للعالم الإسلامي، والنزعات التوسعية للولايات المتحدة، والصراع العربي الصهيوني حول فلسطين المحتلة والشرق العربي الإسلامي.
صورة الإسلام في الضمير الفرنسي:
استقبل الغرب بعامة، وفرنسا بخاصة، هجرة الإسلام إلى أوروبا بذاكرة مشحونة بالمعارك الحربية والمواجهات السياسية بين العالم الإسلامي والعالم النصراني في حوض البحر الأبيض المتوسط.
وبالإضافة إلى الذاكرة المشحونة تزاحمت في المنطقة الدماغية البصرية صور ذهنية سيئة للإسلام والمسلمين، ومرة أخرى كان الإعلام المهيمن والاستشراق المتحيز وراء صناعة التحريف والتخويف.
الحالة الفرنسية لها علة أخرى في مواجهة الإسلام تتعلق بماضيها الاستعماري وما عانته مع المقاومة وجيوش التحرير، وبخاصة في الجزائر، وذلك ما سماه بعض المتخصصين بعقدة"ما بعد الاستعمار"، وتفسيرها أن فرنسا تحتضن مسلمين ذوي أصول جزائرية يذكرونها وهم على ترابها بهزيمتها وانهيار إمبراطوريتها الاستعمارية.
فالهزيمة الفرنسية في الجزائر كانت سياسية أكثر من كونها عسكرية، وتركت جرحًا غائرًا في الشخصية الفرنسية الوطنية (سيزاري: التمثلات الفرنسية للإسلام، في كتابها:"هل يجب الخوف من الإسلام؟").
ويكفي استقراء البرامج التلفزيونية الفرنسية خلال السنوات العشر السابقة لإدراك صعوبة تجاوز الذاكرة الفرنسية للهاجس الجزائري، ومن الطبيعي أن تتحفز النفس الفرنسية، وهي تستقبل الجزائريين والمغاربة القادمين إليها من المستعمرات السابقة، وتلجأ إلى الرفض بطرق ملتوية، منها الحذر الشديد من الإسلام، ولو كان فرنسيا!، وتخشى فقدان الهوية الأصلية والانتماء، وترى في القادمين الجدد والدين الجديد تهديدًا للجوهر والأصل.
محطات فرنسية بارزة في قضية الحجاب:
قضية الحجاب التي تختزل قضية الحضور والمستقبل الإسلامي في فرنسا والغرب، شهدت شوطين كبيرين وساخنين، الأول عام 1989 والثاني عام2003.
وقد اعتبر بعض الكتاب الفرنسيين سنة 1989م سنة إسلامية لكثرة قضايا الحجاب في فرنسا وأوروبا وتركيا، ففي تلك السنة التهبت فرنسا وأوروبا بصدى الثورة الإيرانية، وظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر وانفجار"الآيات الشيطانية"لسلمان رشدي، وتحول كثير من شباب ضواحي المدن الفرنسية نحو الإسلام.
وفي خريف تلك السنة تفجرت قضية الحجاب بفرنسا واحتلت كل شاشات التلفزيون الفرنسي رغم انشغال أكثر من 53% من الفرنسيين بانهيار حائط برلين وسقوط المعسكر الشيوعي وإسقاط الطاغية الشيوعي الروماني"تشاوشسكو".
وبدأ الانفجار في جريدة"لوكورييه بيكاريو"في الثالث من أكتوبر، بعد أن أقدمت إدارة ثانوية"دوكرييه"على طرد ثلاث تلميذات محجبات, لتتوالى الأحداث من بعد ذلكº ابتداء من احتجاج أسر التلميذات، وانتهاء بالموقف الذي اتخذته يومذاك"دانييل ميتيران"زوجة الرئيس الفرنسي المتوفى"فرانسوا ميتران"، مرورًا بمواقف جمعيات مناهضة للتمييز العنصري وجمعيات مسلمي فرنسا مثل"الدعوة والتبليغ"و"اتحاد المنظمات الإسلامية"و"الفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا".
ومنذ ذلك التاريخ وقضية الحجاب تسخن وتبرد حسب درجة حرارة الأحداث, إلى أن جاءت قضية تمثيلية المسلمين وتنظيم أنفسهم لتعيين مخاطب للحكومة.
أما سنة 2003 فهي سنة الاعتراف الرسمي بالإسلام في فرنسا، إذ تأسس فيها المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، المجلس الذي يعد المخاطب الرئيس في قضايا المسلمين بفرنساº اجتهد وزراء سابقون في تأسيسه، إلى أن كللت جهود وزير الداخلية الحالي"نيكولا ساركوزي"بالنجاح بعد أن استطاع جمع جميع المسلمين في هيئة واحدة تنطق باسمهم وتنظم أمورهم وتدافع عنهم وتحظى بالاعتراف الرسمي من لدن الحكومة الفرنسية.
وبالموازاة مع مداولات التأسيس هبت حملة إعلامية جديدة حول هذا الأمر، وحول الحجاب الإسلامي من جديد. في هذا السياق الساخن شكّل الرئيس الفرنسي لجنة ستازي، وإلى جانبها تشكلت اللجنة البرلمانية برئاسة رئيس البرلمان دوبري. اللجنة الأولى تشكلت من 20 من"الحكماء"وعملت لمدة 6 أشهر عقدت فيه 120 جلسة اجتماع. ويوم 11 ديسمبر الأخير قدمت تقريرها للرئيس مقترحة فيه مجموعة من المقترحات حول الحجاب وحماية العلمانية وإدماج المسلمين، وكان الرئيس الفرنسي قد صرح في تونس يوم الجمعة 6 ديسمبر بأن الحجاب يشكل عدوانًا على العلمانية.
تناقضات الحرية الفرنسية:
العجيب أن فرنسا بلد الحرية تخاف وترتعد من غطاء رأس نساء المسلمين، الحرية الفرنسية يتمكن منها العراة والشواذ وتستميت الهيئات السياسية والحقوقية الأممية والقطرية في الدفاع عنهم بجميع المحافل والمنتديات، والضغط بكل وسيلة ممكنة لضمان حرية التعري والشذوذ، في حين أن المتدينين لا حرية ولا حقوق لهم، وليس لهم من يحميهم ويدافع عنهم إلا الله وأهل الإنصاف والتعقل والضمير الحي، وقليل ما هم.
ففي الغرب عمومًا، الشاذ جنسيًّا لا حرج عليه، ويجد من يدافعون عنه، بل هناك رجال دين يلقون الخطب والمواعظ"البليغة"ويرشدون الناس إلى الأعمال الصالحة والمعاملات الحسنة، ومع ذلك هم شواذ وفضائحهم تملأ الآفاق.
وما دامت الحرية مصونة مضمونة للشذوذ الجنسي، فلماذا لا يصبح رجال التربية والتعليم من الشاذين جنسيا؟ وما المانع؟ ليس هناك أي مانع! فليعلنوا إذًا عن شذوذهم وتجمعاتهم، وليناشدوا رجال الحق والقانون أن يدافعوا عنهم، ورجال الصحافة والإعلام أن يسلطوا الأضواء على"محنتهم واضطهادهم".
وهكذا فمن عجائب الدهر أن للشذوذ الجنسي مشروعية الوجود، وقانونية الحماية والدفاع، وإمكانية الانخراط في كل مجال وقطاع، أما الحجاب الإسلامي فلا شيء له من ذلك، ويخشى أن يصبح جريمة ومخالفة يعاقب عليها القانون! ولم العجب وقد قال رئيس الجمهورية الفرنسية في قلب العاصمة التونسية وفي يوم جمعة"إن الحجاب الإسلامي بمثابة عدوان على العلمانية"؟!.
تحالف بين الغرب والعلمانيين المسلمين:
عندما بدأت مظاهر الصحوة الإسلامية تدب في العديد من بلدان العالم وانتشر الحجاب في بلاد المسلمين ووسط بناتهم في الدول الغربية ارتعد الغرب ومعه العلمانيون العرب والمسلمون، وبدؤوا في محاربة الحجاب الإسلامي حرباً لا هوادة فيها، ووصفوا الحجاب بأنه يغطي على عقل المرأة وأنه جزء من اضطهاد الإسلام لها ونعتوا المحجبات بنعوت لا تليق، ورموهن بالتخلف والرجعية والاستسلام لسطوة الرجل وغيرها مما ينعق به الناعقون.
اتخذت هذه الحملة أشكالاً عديدة فمرة نسمع من يقول إن الحجاب يعزل المرأة عن بقية شرائح المجتمع ويحرمها من دورها وظهر من يدعو إلى (تحرير) المرأة وغيرها من الدعاوى المتهافتة، ونسي هؤلاء الذين لا هم لهم إلا تحرير المرأة من قيمها واحترامها لنفسها أن الإسلام ما شرع الحجاب إلا صوناً للمرأة المسلمة وتكريما لها وإعلاءً لقدرها وتقديراً لدورها في المجتمع إذ أن المرأة المحجبة تكون بمنأى عن مشاكسات الذئاب البشرية ومصانة ممن لا يريدون لها إلا أن تكون متاعاً ومكاناً لتفريغ الشهوات.
وعندما يشعر هؤلاء أن ما ساقوه من حجج يتساقط من تلقاء نفسه نسبة لضعفه وعدم موضوعيته نجدهم يلجؤون إلى الاستشهاد برأي بعض علماء الدين، الذين باعوا دينهم بدنياهم، فيلوون لهم أعناق الحقائق ويستشهدون بأدلة ليست في مكانها ويفسرون الأحكام الإسلامية حسب هواهم متوهمين أن هذه الافتراءات سوف تنطلي على الأمة الإسلامية، وما دروا أن علماء الأمة الأمناء على دينها واقفون لهم بالمرصاد مفندين حججهم ودعاواهم.
عجز العلمانية الفرنسية:
لا ينبغي النظر إلى دلالات التوجه الفرنسي إلى منع الحجاب وباقي المظاهر الدينية خارج سياق عجز العلمانية الفرنسية عن التكيف مع المتغيرات الاجتماعية والثقافية والفكرية التي تطرحها العولمة كتحد على المجتمع الفرنسي في وقت لا تزال تشهد البلاد فيه دعوات إلى الانفصال على أسس إقليمية أو قومية كما هو الحال في كورسيكا، الأمر الذي يعني أن المركزية في الدولة الفرنسية باتت تتحول تدريجيا إلى الحد من الفيدرالية وفي الوقت نفسه فإن العلمانية كمصلحة عليا للدولة - تتحول إلى ضد الدين وليس الفصل عنه، وبالتالي تعجز الدولة عن استيعاب تعبيرات الهوية الاجتماعية للجماعات الدينية على اختلافها، وهو الأمر الذي أشارت إليه وزيرة التنمية الفرنسية تقيه صيفي «مسلمة من أصل جزائري"عندما قالت عقب خطاب شيراك الذي دعا فيه إلى منع المظاهر الدينية:
«إن خطاب الرئيس شيراك يساعد على النهوض بسياسة إدماج المهاجرين العرب والمسلمين في النسيج الوطني الفرنسي» الأمر الذي يعني أن المسألة لا تشير إلى خلل في العلمانية الفرنسية فقطº بل إلى وجود إشكالية اجتماعية سياسية تتعلق أساسًا بالجالية الإسلامية في البلاد دون التقليل من تأثير الجماعات الدينية ونفوذها وتهديدها للعلمانية في الوقت نفسه.
لعل ما يهم العالم العربي والإسلامي هنا هو ما يتعلق بالجالية العربية والإسلامية في فرنسا أولاً، وثانيا: علاقة التشريع المنتظر صدوره في فرنسا بالتجارب العلمانية الجارية في بعض الدول العربية والإسلامية مثل تركيا وتونس وغيرهما من الدول التي تعاني من أوضاع اجتماعية ودينية مشابهة لجهة علاقة النظام بالمجتمع وهويته الإسلامية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد