من الاستشراق إلى الدراسات الإسلامية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تغيرت حالة التعليم العالي في مجال الدراسات الإسلامية تغيراً هائلاً و تقدمت تقدماً ملحوظاً في العقود الأخيرة في الولايات المتحدة. و بغرض فهم الوضع الراهن و تفهٌّم المشكلات و مناحي القصور الحالية المتعلقة بهذه الدراسات، سوف نقوم أولاً بمراجعة تطور هذا المجال فيما يتعلق بالدراسات الدينية بشكل عام، ثم نركز بعد ذلك على المشكلات الرئيسية المتعلقة بتدريس الإسلام على وجه الخصوص، وهي مشكلات تتعلق على وجه التحديد بالمعلمين ومناهج التعليم من ناحية، وبالكتب وطريقة كتابتها من ناحيةٍ, ثانية.

 

التطور التاريخي:

انتقلت الدراسات الدينية في العالم الغربي من المؤسسات اللاهوتية إلى المعاهد العلمية، و أدخل ­(عصر العقلانية) الغرب في دائرة الدراسات المنهجية و العلمية للدين، و التي تختلف بشكلٍ, ملحوظ عن الطرق الكَنَسيّة لدراسة الدين و التي تعتمد بشكلٍ, أساسي على التسليم. و قد أدى هذا إلى الاعتراف بأن الدين كظاهرةٍ, اجتماعية و سياسية و ثقافية يمكن فهمها و شرحها عبر العلوم الاجتماعية و ليس عبر علم اللاهوت.

 

ومن المعروف أن هذه العلوم الاجتماعية أبدعت طرائقها في البحث بشكلٍ, يتناسب مع موضوعاتها ومجالات بحثها، و لكن استعمال هذه الطرائق في مجال دراسة الأديان يؤدي عادةً إلى اختزال الدين إلى أحد أبعاده فقط. فبدلاً من رؤية الدين كعقيدةٍ, جامعة تربط كل الأمور ببعضها، ضاعت هذه العلوم في التحليل الجزئي الذي فشل في رؤية البنية الكلية التي تجمع الأمور و تعطيها معناها. و قد كان التحدي لطالب الدراسات الدينية أن يطور حقل دراسة الأديان بحيث يكون الدين وحده هو محور الاهتمام و مصدر التعريف و مفصل التفريق، وبحيث يصبح الدين موضوعاً خاصاً متفردا مستقلا، تُستدعى لدراسته طرائق بحثٍ, خاصة مستمدة و مفهومة من طبيعته الكلية.

 

وبعيداً عن الدخول في تفصيلات الموضوعات المنهجية لدراسة الدين، تجدر الإشارة إلى أنه رغم الاختلاف حول تاريخ الدين و تعريف موضوع الدين و بنية الدين، إلا أن هناك اتفاقاً عاما حول استقلال و ذاتية حقل الدراسات الدينية و الذي احتفظ به عبر منهجية الظاهراتية. و قد نأى هذا الاتجاه بنفسه بعيداً عن المنهجية اللاهوتية التي تعنى بتأصيل الحقيقة المطلقة، و بقي في نفس الوقت على مسافةٍ, من منهجية الاختزال التي تمارسها العلوم الاجتماعية، و التي لا تستطيع أن تفسر إلا أموراً جزئية من الدين. و بالطبع لم ترحب المدارس اللاهوتية التي احتكرت دراسة الدين (بِعَلمَنة) هذا المجال من الدراسة من قبل علماء الاجتماع أو علماء الظاهراتية. لكنها تقبّلت - في بعض الأحيان - هذه العلوم المستحدثة بشرط إضافة لمسةٍ, دينية تُثبت أن الإيمان هو النتيجة النهائية لمكتشفاتها. و ظلت النصرانية في أوروبا محصورةً بمدارس اللاهوت و الكنائس بينما كان للأديان الأخرى معاهد و مؤسسات "استشراقية". أما في الولايات المتحدة فقد كانت جميع الأديان تتكامل في أقسام و هذا يعني تطبيق نفس المنهجية على جميع الأديان بغض النظر عن تفوقها.

 

كان كل ذلك من الناحية النظرية - على الأقل- و لكن التطبيق أثبت صعوبة التزام هذه المنهجية بشكل شامل. فلم تكن أقسام الدراسات الدينية تلتزم دائما بالمنهجية الظاهراتية التي كانت تُستخدم بشكل أكثر جدية في الدراسات المتعلقة بالنصرانية (ثم اليهودية بعد ذلك) منها في الدراسات المتعلقة بالأديان الأخرى. فبالنسبة للنصرانية كدينٍ, للأغلبية في الغرب، كان العلماء الجدد على علمٍ, و درايةٍ, بالبعد الاعتقادي و هذا بالطبع يمنع من الجنوح إلى الاختزال في الدراسات النصرانية، أما ما يحدث عند دراسة أي دين آخر "غير غربي" فكان على عكس ذلك تماما.

 

فالإسلام كما يروون لنا سواء في النشرات التمهيدية أو التخصصية ليس ديناً واحدا فهناك عدة نسخٍ, وأنواعٍ, من الإسلام (أو ما يسمونه "إسلامات")، و تديٌّنُ المسلمين يختلف من منطقة إلى أخرى في العالم، و تتمحور أكثر دراسات الطلبة للأديان غير الغربية على دراسة السلوك وعلى عرض وجهات نظر شائعة. و بالمقابل لا تُعطى المجلدات الضخمة التي تتحدث عن العقيدة أي اهتمام، و ليس هناك من محاولة لكشف العلاقة بين السلوك و عقائد الدين.

 

و بالطبع فإن نقص الفهم و الإدراك لعقائد الأديان الأخرى هو الذي يحمل الطلاب الغربيين على التركيز على الدراسات العرقية و الدراسات الميدانية. و نظراً لعدم تمكنهم من فهم العلاقة بين الواقع و عقيدة الدين فإن ذلك يقودهم إلى التقديم المختصر المختزل الذي تصبح فيه شعائر العبادة هي المُعبِّر الرئيسي عن الدين. و على سبيل المثال - إذا لم تكن مسلماً - فإن معرفتك بالعقيدة الإسلامية لن تتعدى العلم بأن المسلمين يؤمنون بالإله و يمارسون أركان الإسلام الخمسة، و بعبارةٍ, أخرى فإن الفهم الإجمالي سيتلخص أن هناك بعض الشعائر ترتبط بالإيمان. و بالطبع فإن المختص سيكون على علمٍ, بكثيرٍ, من التفاصيل التاريخية و لكن الفهم للعقيدة سيكون معدوماً في غالب الأحوال.

 

هذا الافتراق بين الدراسات النصرانية و الدراسات للأديان - غير النصرانية - موجودٌ بعمق في حقل الدراسات الدينية. و لا بد من معالجة هذا الوضع بزيادة الأبحاث الميدانية في واقع التدين النصراني الحديث من جهة، و بزيادة الدراسات المنهجية للعقيدة في الأديان الأخرى.

 

وإن من الضرورة بمكان أن ننتبه إلى أن حقل دراسات الأديان - غير الغربية - قد تأثر إلى حدٍ, كبير بظروف نشأته التاريخية. فقد نشأ الاستشراق في القرن التاسع عشر مع التوسع الاستعماري الذي كان يحتاج إلى فهم ثقافات الشعوب المستعمَرة ليتمكن من نشر الدعاية للمدنية الغربية بشكل أفضل. و لذا لم يكن مستغرباً أن يتزايد الاهتمام بالدراسات الإسلامية في الفترة الاستعمارية لارتباطه بإيجاد المبرر الفكري للاستعمار. و لم يجرِ سبرُ و فحصُ استغلال و استعمال النتاج الفكري قبل قيام هذا النتاج بتركيب القوى في المجتمع الذي أنتجه إلا في الستينات من هذا القرن من خلال الكتابات الفلسفية لأمثال (مايكل فوكو). و كذلك ساهم بعض العلماء - و المسلمون والعرب منهم بشكل خاص في فضح عددٍ, من المستشرقين و في تبيان مناهجهم. و قد بلغ هذا النقد شأوه عندما عُمِّمَ مجال النقد الأدبي و تحليل النصوص عبر النقد المنهجي الذي يهدم طرق المستشرقين و مجالات بحثهم، وكانت الصورة المُثلى لهذا البحث الذي نشره (إدوارد سعيد) في كتابه (الاستشراق) و الذي أصبح مشهورا عالميا. و رغم أن الاستشراق كظاهرة - فَقدَ رصيده و احترامه حتى أن هذه الكلمة أصبحت تستعمل لوصف فكرةٍ, أو كاتب لا نتفق معه، إلا أنه - أي الاستشراق - ما زال المصدر و المرجع للدراسات المتعلقة بالإسلام.

 

يحمل الاستشراق أهدافاً فكريةً تتمثل في إثبات دونية البنية الاعتقادية و العملية للأديان غير الغربية و ذلك لتبرير فرضِ قيم و مؤسسات الثقافة الغربية (وخاصة المؤسسات السياسية و الاجتماعية تحت شعار الديموقراطية و التحديث و العلم)، و ذلك كما بين (إدوارد سعيد) بأمثلة تفوق الحصر. لقد كان التحيز الوقح للمستشرقين مدعاةً للشك في انتمائهم للعلم، و كان هذا أيضاً هو الأمر الذي طرحته الحركات الرافضة المعادية للمؤسسات في أمريكا في الستينيات. و قد صادف أن الاهتمام بالأديان الأخرى غير النصرانية و الذي تزايد من خلال هذه الحركات ساهم جزئياً في التحريض على إنشاء أقسام أديان، و سُمِح لهم باكتساب الاستقلال عن أقسام الفلسفة. و بذلك أصبح الاختصاص بحقول الدراسات الإسلامية و الأديان الشرقية واسعاً ومُنتشرا، و جاء مع ذلك المساهمات العلمية التي أبرزت التحدي للمناهج و المؤسسات القديمة.

 

و على هذا فالمشكلة الرئيسية في مجال الدراسات الدينية تنبع من حقيقة أن أكثر الأعمال الأساسية فيها جاءت عن طريق الفلسفة أو الاستشراق حيث لا يتعامل أي منهما مع الدين كعقيدة ونظام حياة و لا يستخدم منهجية الظاهراتية على الإطلاق. و كان فهم الدين يُستنبط و يُحمل على شرح و بيان الجمود الاقتصادي عند المسلمين، أو أي قصور في الثقافة الإسلامية بالقياس إلى الثقافة الغربية. فالخلفية الثقافية للعلماء الغربيين و النقص النسبي في معالجة قضايا الاعتقاد في الأديان الأخرى، يجعلهم يفسرونها بشكل لا يمكن أن يُقرِّهُ أهل تلك الأديان. إن من الطبيعي أن يقرأ المرء ثقافته من خلال دين آخر، و لكنه ليس من الطبيعي على الإطلاق الادعاء أن هذه القراءة هي القراءة الصحيحة و الموضوعية، و هذه بشكل أساسي هي المشكلة مع الدراسات المعاصرة في حقل الأديان غير الغربية. و كما أكَّد (فوكو) و (تشومسكي) و (إدوارد سعيد) فإن النفوذ السياسي ما زال له دورٌ في قبول العمل العلمي و الحكم على درجة معقوليته، و باعتبار أن النفوذ السياسي العالمي يكمن في قبضة الغرب، فإن الاستشراق لا يستند في مرجعيته إلى التزام المعايير الموضوعية بل إلى القوة السياسية الكامنة في الثقافة التي أنتجته. و الحقيقة أن أكثر الأعمال العادية للعلماء الغربيين لا تتطلب أكثر من ترديد آراء المستشرقين عن الإسلام لتلقى الترحيب و تحصل على الدعم المالي و تنال الشهرة رغم احتياجها للمؤهلات و الجدارة العلمية، وهذه حالةٌ يمكن أن تُلاحظ بوضوح في كل أرجاء العالم.

 

و رغم أن الجيل الجديد من العلماء يبدون قدراً متزايداً من النقد الذاتي، إلا أن التكبٌّر في الدراسات الاستشراقية لا يزال موجوداً و بحاجة إلى الاقتلاع. و باختصار، تتمثلُ الموروثات التي تحمل إشكاليةً سلبية في حقل الدراسات الإسلامية في هذه المجموعة من النقاط:

 

1. الجهل بعقيدة و مفردات الإيمان الكامنة في الدين الأجنبي (وخاصةً الإسلام في هذه الحالة).

 

2. الميل الطبيعي لقراءة الأديان الأخرى من وجهة نظرٍ, محدودة بالرؤية الخاصة لمن يمارس تلك القراءة.

 

3. التحيز الاستعماري و الانطلاق من عقلية امتلاك المرجعية.

 

وليس من الغريب بعد هذا - ورغم المتغيرات الكثيرة التي حدثت في هذا الميدان - أن أكثر القضايا المرتبطة بالوضع الحالي للتعليم الإسلامي في مستوى الكليات له علاقة بواحدة أو أكثر من العوامل المذكورة. و سيحتاج الأمر إلى بعض الوقت - على ما أعتقد - ليحرر هذا المجال من الدراسة نفسه من هذه الخلفية التاريخية و ليتمكن من الاحتفاظ بالاكتشافات الحقيقية و بالنظريات العلمية الرصينة في تراث الاستشراق و يتخلص من التشويه الفكري.

 

المشكلات المتعلقة بالمعلمين و مناهج التعليم:

من أكبر المشكلات أهميةً و التي تنطبق على جميع الأديان غير الغربية، أنها تُدرَّسُ على الأغلب في الصفوف التمهيدية، و يقوم على تدريسها مختصون في عقائد أخرى و أحياناً مختصون في تخصصٍ, مختلف كلياً. وفيما يتعلق بالإسلام بالذات فإنه غالباً ما يُكلَّفُ بتدريسه أي إنسانٍ, له خبرة بمجالٍ, ما ذو علاقة بهذا الحقل من الدراسة مهما تكن تلك العلاقة بعيدة. و المشكلة تظهر عندما يُعيّنُ لتدريس الدراسات الإسلامية إنسانٌ غير متخصص في العقيدة، لأن الإسلام يغطي مساحة واسعة من التاريخ إلى الدين، ولا يُعقل أن يستطيع مثل ذلك الشخص أن يؤدي دوره بأمانة وهو بعيد عن فهم العامل الأساسي في ما يقوم بتدريسه وهو العقيدة.

فهؤلاء، سواء منهم المتخصص في التاريخ أو الاجتماع أو حتى في الأدب العربي، يصبحون خبراء في الإسلام (و لا يُقال خبراء في التاريخ الإسلامي أو الاجتماع الإسلامي..)، و ليس غريباً أن نجد علماء اجتماع يُدرِّسون الإسلام في أقسام الدين، في الوقت الذي لا يُقبل فيه على الإطلاق ادعاء متخصص في تاريخ أوروبا السياسي في العصور الوسطى على أنه خبيرٌ في النصرانية. و في نفس الوقت يمثل مصطلح (مختص بالإسلاميات) مشكلةً، إذ أن هذا المصطلح يغطي بدون تمييز مجالا من العلم ينتسب إلى حضارةٍ, تمتد زمانياً عبر خمسة عشر قرناً و مكانياً عبر ربع مساحة العالم. و على النقيض ليس هناك (مختصٌ بالنصرانيات) من بين الاختصاصات العلمية التي تنتسب إلى النصرانية التي تمتدٌّ زمانياً عشرين قرنا و تغطي مكانياً ربع مساحة العالم.

و كما يبدو فإن هناك موقفاً متعجرفاً يكمن وراء هذه الطريقة المسيئة في تمثيل الإسلام، كما يبين المثال التالي (علماً بأنني سأُعرضُ عن ذكر الأسماء لأن الغرض هو عرض القضايا في مجال الدراسات السياسية). فقد أخبرني مرةً عميد قسم الأديان في جامعةٍ, مرموقة عن نيته تعيين مُدَرِّسٍ, لتدريس دورةٍ, تمهيدية عن الإسلام، وعندما أشرتُ إلى أن ذلك الشخص المعني هو متخصصٌ في التاريخ، هزَّ العميد كتفيه بلا مبالاة و قال إن والد هذا الشخص قسيس و هذا يكفي لضمان أن يمتلك هذا الرجل فهماً كافيا للبعد الديني للإسلام!! و لنا أن نتصور أن يُطبَّقَ هذا المثال على النصرانية، و نتصور أن يُعينَ مسلمٌ متخصصٌ في التاريخ الأوروبي مُعلِّماً للدين النصراني فقط لأن أباه كان فقيهاً شرعيا.

إن أحد المشكلات الرئيسية يكمن في حشد جميع أنواع الدراسات و الاختصاصات تحت اسم (الدراسات الإسلامية). و لا تنحصرُ إشكالية تعليم (الدراسات الإسلامية) بشكلها الراهن في غياب التحديد الدقيق فقط، وإنما في رداءة النوعية العلمية التي يُنتجها مثل ذلك التعليم. و لذا فإن هذا يستدعي أن يُطبّقَ في تصنيف الفروع الموجودة تحت هذا العنوان الكبير (الدراسات الإسلامية) المنهج المُتّبعُ في كل حقول المعرفة الأخرى. و من الطبيعي أن يؤثر غياب التحديد على تدريب الأساتذة "المختصين" و "علماء" المستقبل، الذين يحصلون على شهاداتهم من جامعاتٍ, تعاني من كل المشكلات التي عرضناها، والأدهى من ذلك أنه ليس هناك أي مؤهلات محددة تُطلب من الجامعات لتغيير هذا الوضع.

 

و من الظواهر العجيبة أن ترى أن أغلب "الخبراء" بالإسلام في أمريكا لا يمتلكون إلا معرفةً ضئيلة بالعربية أو ليس عندهم أي خبرة بها. و إذا حدث أن كان عندهم بعض المعرفة بالعربية فليست هي المعرفة اللازمة للتمكن من الأدب العريق القديم أو المعاصر و الذي يُهملُ ببساطة لأنه ليس أدباً غربياً. و مرةً ثانية، للقارىء أن يتصور إمكانية وصف إنسانٍ, بأنه خبيرٌ بالفكر اليوناني دون أن يكون عنده أي معرفة باللغة اليونانية. ولكن هذا بالضبط هو ما يحدث في مجالات الدراسات الإسلامية، ليس في المستويات التمهيدية فحسب بل على مستويات مراكز الصدارة في هذا المجال.

 

المشكلات المتعلقة بالكتب:

تحدث المشكلة الرئيسية في الكتب الدراسية عندما تُكتبُ هذه الكتب لدراساتٍ, دينية و تُستعمل من قبل خبراء في مجال آخر غير مجال الدراسات الدينية، كطلاب التاريخ و علوم السياسة الذين ينقلبون بلحظةٍ, واحدة إلى "خبراء" غبر التأثير السحري لكلمة (خبير إسلاميات). فالمشكلة تكمن في كتبٍ, دونها علماء تمرسوا في الدراسات الدينية و لكنهم يفتقدون التمرس في العقيدة الإسلامية و يعتمدون على مصادر غير أصلية نظراً لجهلهم التام باللغة. و تغيب العقيدة تماماً أو تُذكر باختصار في ثنايا عرض بعض المناظرات الدينية في مدارس اللاهوت في القرون الوسطى.

و لقد جرت العادة أن يعطي أي كتابٍ, تمهيدي عن الإسلام عرضاً مختصرا عن تاريخ نشأة الدين، تُذكرُ بعده بعض (أركان/شعائر) الإسلام مع غياب أي نظرة عقدية، و ربما يتبع ذلك وصفٌ جاف لنشأة بعض المدارس و المذاهب الفقهية، ثم ينتقل البحث إلى الحركات الحديثة و القضايا المعاصرة في العالم الإسلامي. و يغيب في هذا العرض البعد الاعتقادي الذي يعطي المعنى للحركات و المؤسسات و يُبرز الجانب العملي للإيمان. و تتضاعف المشكلة وتزداد وضوحاً عندما نتعامل مع كتابٍ, تمهيدي يُغطّي عدداً من الأديان. إذ غالباً ما يعتمد الكاتب على فهمٍ, مُتَوهّم لمصادر غير أصلية لعرضِ الدين الذي يُدَرِّسُهُ. و لذا أصبح تتبٌّعُ الشائعات و الأغاليط التي تنتقل من مؤلف إلى آخر بُغية التنبيه والإشارة إليها مهمةً من أصعب المهام.

و حيث أن عرض النصرانية (و اليهودية بشكل متزايد) يتمٌّ بشكل متوافقٍ, مع رموزها و تصورها الديني، فإن المرء ممن يتعلم في مثل هذه الكتب - يتخيل أن الإسلام (و الأديان غير الغربية) ليس إلا مجموعةً من الطقوس التي قد تُفهم إلى حد ما. فبعد الأركان الخمسة ننتقل مباشرة إلى بعض القضايا الاجتماعية (و التي تمثل مشكلات) كالمرأة و الجهاد، و في بعض الكتب التمهيدية تبتدأ المقتطفات بسورة الفاتحة و يليها مباشرة آية ضرب النساء، و كما هو متوقع لا يُشرح هذا الأمر وتبقى ارتباطاته وتفسيراته مُغيّبةً تماما. و طبيعيٌ بالنسبة لمؤلفي الكتب وإن كان غريباً في المنهجية المقارنة - أن أقسام الكتاب التي تتحدث عن اليهودية و النصرانية لا يوجد فيها أي ذكرٍ, لوضع المرأة في هذه الديانات.

 

و إذا حدث أن عُرضت بعض التصورات الاعتقادية في هذه الكتب فغالباً ما تُوضع بحيث تعكس التفكير الصوفي في الإسلام. الأمر الذي يعطي فهماً مغلوطاً بأن الفهم الصوفي (الباطني-الرمزي) هو الفهم الوحيد للعقيدة في الإسلام. فيما الحقيقة تقول أن هناك فهماً أصلياً يتعارض مع الصوفية، و أنه لابد على الأقل - من إجراء بعض التأويلات على مثل هذه الكتابات لتتفق مع الفهم الأصلي. ومعلومٌ أن الفهم الأصلي للعقيدة يتعارض بشكل صريح مع النصرانية بينما تتشارك الصوفية مع الرمزية النصرانية. و هذا ما يفسر الاهتمام من قبل كثيرٍ, من العلماء بالصوفية.

و هناك مشكلةٌ أخرى تكمن في ترجمة القرآن الكريم حيث أن بعض الترجمات مثيرٌ للتساؤل بشكلٍ, مؤكد. و أحسن الترجمات - على حد علمي - هي ترجمة محمد أسد (رسالة القرآن) و التي تحتوي على تعليقٍ, وشرحٍ, علمي جيد، و إن كانت اللغة الإنجليزية المستعملة فيها تتصفُ بالرصانة و الجدية. هذا وإن من الصعوبة بمكان اختيار مقتطفاتٍ, من القرآن كما هو الحال عليه مع النصوص الأخرى، و ذلك بسبب الاختلاف الجذري بين أساسيات البلاغة العربية و فن الكتابة الغربية، الأمر الذي يجعل الفهم متعسرا من غير تدريبٍ, اعتقادي مناسب. و بدون هذا التدريب غالباً ما سينتقل انطباعُ عدم إمكانية الفهم إلى الطلاب.

 و أهم من هذا كله في مجال (الدراسات الإسلامية) - الخضوع لضغط وسائل الإعلام وقبول عرضها الشائع للإسلام. فالموضوعات الرئيسية للمناقشة في أي كتابٍ, تمهيدي عن الإسلام هي المرأة و الجهاد و الإرهاب، و كأن هذه الموضوعات هي الموضوعات الرئيسة في الإسلام أو عند المسلمين.

و لا أود أن أنهي هذه المراجعة بلهجة سلبية، فالحقيقة أن التقدم في العقود الأخيرة في مجال الدراسات الإسلامية هائلٌ حقاً، و الحقيقة أن هناك جيلاً من العلماء يعملون على تحرير أنفسهم من القديم و ينتجون بازدياد إنتاجاً علميا رصينا. و إذا ما طبقنا المعايير الصارمة في مجال الدراسات الإسلامية كما اقترحَت هذه المراجعة فسيصبح هذا القسم مضاهيا لبقية الأقسام.إن ماضي وتاريخ أي علم من العلوم يمكن أن لا يكون رائعا أو على الوجه المطلوب، ولكن الواجب أن يكون المستقبل كذلك، و هذا هو الهدف الطبيعي النهائي لطلب العلم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply