الأب لويس شيخو اليسوعي يحرف شعر أبي العتاهية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كان بين أيدينا نصوص أبي العتاهية كما طبعت في بيروت في المطبعة اليسوعية، وكانت الطبعة الأولى منها سنة 1886م.. ثم تكررت بعد ذلك مرات، أغلب الظن أنها أربع، من غير كبير اختلاف.. ولكنها لم تكن تحمل مقدمة يطمئن القارئ إلى كل مصادرها التي صدرت عنها وإلى كل مواردها التي أخذت منها وإلى تحديد هذه المصادر في كل قصيدة أو مقطوعة.. لم يكن بين أيدينا في الواقع ديوان أبي العتاهية كما صنعه الأقدمون، وإنما كان بين أيدينا، على نحو ما يفجؤنا في العنوان، ديوان صنعه أحد الآباء اليسوعيين، وسماه «الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية».

وما من عجب في أن يصنع معاصر ديوان شاعر قديم، يجمعه ويخرجه ويعرضه للناس على الصورة التي يوفق فيها إلى عرضه.. فذلك ما يجب أن نفعله في شعر الشعراء الذين غيّب الزمان دواوينهم وشعرهم.. ولكن العجيب ألا يكون في هذا الصنع تحديد واضح للخطة التي اتبعها، والنهج الذي أخذ نفسه به، وحديث موثوق عن المصادر التي استمد منها، وعزوٌ للروايات التي أخذ بها أو أشار إليها.

بل إن ما هو أعجب منه أن يكون هنالك طمسٌ لهذه المصادر وسكوت مقصود عنها أو إشارات خرسٌ إليها، فلا يكون في ذلك إلا هذا السطر «الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية، نقلا عن رواية النمري وكتب مشاهير الأدباء كالأصفهاني والمبرد وابن عبد ربه والمسعودي والماوردي والغزالي» في صفحة العنوان.. أما كل ما جاء بعد ذلك في الديوان نفسه فهو إلى التعمية أقرب، على مثل ما سيلقاك من وصف النسخة في الصفحات التالية.

مهما يكن من شيء، فالمؤكد أني لم أستطع وأنا أدرس أبا العتاهية أن أطمئن إلى هذا الديوان أقيم الدراسة عليه.. فكان لابد لي من أن أتلفت يمنة ويسرة أسأل عن أصول موثوقة.

وقرأت للشيخ أحمد محمد شاكر في الشعر والشعراء تعليقه على ترجمة أبي العتاهية قال فيها: «وديوانه معروف مطبوع طبعه الآباء اليسوعيون بمطبعتهم في بيروت، وهم قوم لا يوثق بنقلهم لتلاعبهم وتعصبهم وتحريفهم، ولكن هذا الذي وجد بأيدي الناس». فكانت هذه القالة منارا جديدا لي.. كيف يكون التلاعب والتعصب في نشر ديوان شعري قديم؟. ما طريق التعصب إلى هذا الشعر الذي يتحدث عن الحياة والموت والآخرة؟.. وكيف يكون الأمر على هذا النحو الذي وجد بين أيدي الناس ولا يكون في الناس خلال ثمانين سنة من يملك أن يضع بين أيديهم بعضا من تراثهم على خير من الذي وقع لهم محرفا متلاعبا فيه؟

* * *

يتلخص عمل الأب لويس شيخو في الأنوار الزاهية بالخطوط التالية:

1 - الركيزة الأولى في عمله هي الديوان الذي صنعه ابن عبد البر، وأغلب الظن أنه اطلع على نسخة الظاهرية، ومنها أخذ. وانظر دليلا على ذلك ما جاء في هامش الصفحة 235 من ذكر أحد الأسناد.

2 - عرض الأمهات كالأغاني والعقد والأمالي ونظر في بعض المخطوطات وأفاد منها.

3 - تجاوز الزهديات إلى الأغراض الأخرى فجعلها في قسم آخر سماه «منثورات شتى» وطواه على ستة أبواب: المديح والتهاني، حسن التوصل والطلب والتشكي والتشكر، العتاب والهجو، الرثاء والتعازي، الأوصاف والهدايا والإجازات الشعرية، الحكم.

4 - ألحق بعمله في خاتمته فهرسا لغويا فسر فيه ما رأى أنه غريب أو صعب من شعر أبي العتاهية.

5 - أخرج الديوان مشكولا شكلا كاملا، وسمى أبحر الأبيات، ووضع لكل قطعة عنوانا، رآه تعبيرا عنها.

ولكن عمله بعد ذلك جاء يحمل السمات التالية:

1 - طمس معالم عمل ابن عبد البر حين سكت عنه وأغفل التعريف به ولم يشر إلى مدى ما أفاد منه.

2 - سكت عن وصل الروايات والمقابلات بمصادرها مكتفيا بهذه القالات الصماء: روي له، ويروى، وفي رواية، وفي مخطوطة من باريس..

3 - لم يستوف كل شعر أبي العتاهية في غير الزهديات. والحق أنه ما كان له أن يبلغ ذلك آنذاك، لأن كثرة من ذخائر التراث العربي ومخطوطاته إنما نشرت أو عرفت بعد ذلك.

4 - طوى شعره الغزلي والخمري مهملا لهº وحرّف بعضه تحريفا، حذف القطعة خير منه، لأنه يجعل الحب ودا، والهوى نوى، والجارية نديما - في تقديم البيت - والوجه رأيا في مثل البيت التالي «ق279 ص663»:

عزة الحب أرته ذلتي

في هواه وله وجه حسن

فيصيّره إلى

عزة الود أرته ذلتي

في نواه وله رأي حسن

5 - في شكل الزهديات أخطاء قد يكون بعضها مما يقع مثله، ولكن الشكل في غير الزهديات كثير. وفي تسمية بعض الأبحر، وبخاصة مخلع البسيط الذي عدّه من المنسرح، وهمٌ وفي بعضها سكوت عن الإشارة إلى أنه مجزوء. وعناوين القطع لا تتساوق دائما مع مضمونها.

6 - ولكن أعظم من ذلك إنما كان في هذه التحريفات التي تعمدهاº وهي تتنوّع فتتناول الكلمة حينا والجملة حينا والشطر أو البيت مرة والأبيات ذوات العدد في بعض الأحايين.

أ - التحريف في الكلمة الواحدة:

1 - يتناول مثل هذا التحريف ضبط الكلمة المعروف المشهور والمتداول، فلفظ «زُلزِلت، في الآية الكريمة: {إذا زُلزلت الأرض زلزالها} من الألفاظ القرآنية الشائعة ولكن ناشر الديوان يضبطها: زَلزَلت.

2 - يتناول التحريف بناء اللفظة أحيانا. فكلمة «أوّاب» مثلا، وهي كلمة قرآنية معروفة، يحرفها الأب شيخور إلى أو آب» في البيت الثاني «ق168 ص166»:

طوبى لكل مراقب

ولكل أوآب شكور

3 - ويتناول أحيانا تغيير الكلمة كلها، نسخها بغيرها مما يرتضيه. فكلمة «نشور» وهي كذلك كلمة قرآنية، يحرفها الأب شيخو إلى «نزول» كما في البيت 11 «ق22 ص30»:

أسقام ثم موت نازل

ثم قبر ونشور وجَلَب

وطبيعي أنه لا يمكن أن يكون هنالك رواية ما للبيت على هذا اللفظº ولكنها الرغبة في التحريف. أما اللفظ القرآني «سائق وشهيد» فيتحول في البيت «ق125 ص123» إلى سابق وشهيد. كذلك تؤول لفظة «حورهن» إلى «دورهن» في البيت «ق452ص439»:

إن العقول عن الجنان

وحورهن لساهية

4 - وأبعد من هذا أن الأب شيخو كان لا يطيق فيما يبدو أن يرى لفظة «محمد» الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في شعر أبي العتاهية، ولذلك فإنه يحرّف هذه اللفظة، ما صادفها، التحريف الذي يشمل أكثر البيت حتى لا ينتقض الوزن فينقل البيت «ق11ص11»:

وإذا ذكرت محمدا ومصابه

فاذكر مصابك بالنبي محمد

إلى:

وإذا ذكرت العابدين وذلهم

فاجعل ملاذك بالإله الأوحد

ويحوّر البيت «ق100ص100»: بنبي فتح الله به.. إلى: بخطيب فتح الله به. وينقل لفظة «مرسل» إلى لفظة «ابن من» في البيت الذي يليه:

مرسل لو يوزن الناس به

في التقى والبر شالوا ورجح

فإن لم يجد التحريف السبيل حذف البيت كله كما فعل في البيت 28 «ق12ص15»

وهو الذي بعث النبي محمد صلى الإله على النبي المصطفى

ب ـ التحريف في التراكيب:

ويتجاوز التحريف الكلمة الواحدة إلى التعبير الكامل. ومن أمثلة ذلك أن الأب شيخو كان يستبعد التعبير الإسلامي: لا شريك له، في كل مكان يرد فيه، ويضع مكانه تعبيرا آخر: لا مثيل له أو لا شبيه له، كما يبدو في الشطر «ب9ق199ص194»: الحمد لله شكرا لا شريك له، وفي الشطر «ب2ق213ص203» فحسبي الله ربي لا شريك له.

وتعبير: رسول الله، يصير إلى: فنذير الخير في البيت «ق100ص100»:

فرسول الله أولى بالعلى

ورسول الله أولى بالمدح

وتعبير «لست والدا» يؤول إلى «لست محدثا» في البيت الثاني «ق104ص104»:

شهدنا لك اللهم أن لست والدا

ولكنك المولى ولست بمولود

والشطر «هو الذي لم يولد ولم يلد» في «ق119» يؤول على حساب المعنى والوزن إلى: «فهو الذي به رجائي وسندي».

فإذا وجد أن مثل هذا التحريف لا ينقع غلته أسقط البيت كله كما فعل بالبيت التالي «ق273ص261»:

الحمد لله لا شريك له

حاشا له أن يكون مشتركا

جـ - حذف البيت:

قلت إنه يحذف البيت كله، وقدمت على ذلك بعض الأمثلة وهي كثيرة منها مثلا هذا البيت «ق114ص112»:

أين أين النبي صلى عليه الله

من مهتد رشيد وهاد

د - طي الأبيات ذوات العدد:

ويمضي التحريف وكأنما ليست هنالك حرمة للنصوص ولا رعاية للصدق ولا اعتبار لأية واحدة من هذه القيم التي لا يكون العالم عالما إلا بها، فإذا ناشر الديوان يطوي أبياتا برمتها كهذه الأبيات الخمسة «ق116ص116» في مديح الرسول ولست لأستقصي في هذه المقدمة أمثلة التحريف كلها ولكني لأعرّف بها وأدل على بعض منها.. إن وراءها أمثلة أخرى كثيرة يستطيع القارئ المتتبع أن يقع عليها حين ينظر في الحواشي. (1)، وأن ينتهي - مهما يكن لونه - إلى أن مثل هذه التحريفات تتجاوز كل حدود التعصب والتلاعب التي أشار إليها الشيخ شاكر في قالته التي مرّت بنا، وأن هذه التحريفات تتناول كل ما يتصل بألفاظ القرآن وتعابيره، وكل ما يتصل بالنبي صلوات الله عليه ورسالته، وكل ما يتصل بمفاهيم الإسلام من الوحدانية والنشور والآخرة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

* هذا المقال مأخوذ عن مقدمة كتاب «أبو العتاهية: أشعاره وأخباره» للدكتور شكري فيصل - مطبعة جامعة دمشق 1384هـ - 1965م، ص5، 6، 10-13.

(1) انظر مثلا: ق12ص15ب28 ـ ق27ص51ب1 - ق76ص77ب8 - ق129ص126ب9 و 9-ق157ص154ب6.

نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(15)بتاريخ (1418هـ)

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply