التوظيف السياسي للإساءة الدنمركية!


 
في خضم الحملة الشعبية التي قام بها المسلمون والعرب للاحتجاج علي الإساءة الدانمركية للرسول محمد - عليه الصلاة والسلام -، سارعت عدة حكومات ووزارات خارجية عربية لتوظيف هذا الحدث سياسياً سواء للمزايدة علي التيارات الإسلامية في بلادها، والظهور بمظهر حامي حمى الإسلام، أو للاستفادة من "التجربة الدانمركية" في معادلة الضغوط الغربية عموماً على الحكومات والتي تصاعدت ولا تزال منذ 11 سبتمبر.

ويبدو من استقراء ردود الأفعال الحكومية العربية والإسلامية من التحركات الرسمية التي زايدت بعض الحكومات فيها علي التحركات الشعبية أحياناًº أن هناك فارقاً بين التوظيف السياسي للحدث، والاستفادة منه في تحقيق أهداف عامة للدولة تكون في مواجهة الغير غالباً، وبين التوظيفات الذرائعية لتحقيق مصالح مؤقتة وزائلة تنصب على منافسة قوى أخرى سياسية داخلية.

فرد الفعل العربي الذي تمثل في إصدار العديد من رؤساء وقادة وحكومات ووزارات خارجية عدة دول عربية بيانات استنكار ودعوات للاعتذار الدنمركي الرسمي، يلاحظ عليه ما يلي:

1- أنه جاء متأخراً عن سياق الحدث الأصلي، وفي أعقاب تصاعد رد الفعل الشعبي بأسابيع، إذ إن تاريخ نشر الصور المسيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصحيفة الدنمركية يعود إلى سبتمبر 2005 أي منذ أربعة أشهر تقريباً، وقد جري التعامل معه حينئذ رسمياً بشكل دبلوماسي هادئ ودون صخب إعلامي.

2- رد الفعل العربي الرسمي في هيئته الأولى كان جماعياً وروتينياً، حيث صدر في صورة بيان عن جامعة الدول العربية في دورته غير العادية التي عقدت في ديسمبر 2005م، وتضمن استنكار الدول العربية للرسومات، ومطالبة الدانمارك بوقف الإساءة لشخص الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - دون طلب محدد بالاعتذار.

3- رد فعل العديد من الحكومات جاء في أعقاب خروج مظاهرات شعبية ضخمة ضد الإساءة الدانمركية، وحملات مقاطعة شعبية ومن أوساط وقوى إسلامية، ما سبب حرجاً للحكومات، وأظهرها بمظهر ضعيف متساهل مع الإهانة الغربية لأكبر رمز إسلامي أمام القوى والحركات الإسلامية الأكثر التصاقاً بالجماهير.

4- رد الفعل في عدة دول مثل: مصر والأردن والمغرب العربي والخليج جاء في أعقاب فوز قوى إسلامية في الانتخابات المحلية أو البرلمانية، أو اقتراب موعد هذه الانتخابات التي تتنافس فيها هذه القوى الإسلامية، وإدراك قوة هذه التيارات في الوقت الراهن وتصويت الجماهير لها، ومن ثم يثور احتمال أن يكون التحرك الرسمي أشبه بمحاولة منافسة أو مزايدة داخلية أكثر منها خارجية.

 

التوظيف السياسي الصحيح:

ومما سبق قد تثار شبهة أن يكون التحرك الحكومي العربي - ولو بدون قصد - استهدف التوظيف السياسي للحدث بطريقة خطأ، لأنه استهدف توظيف الحدث في الداخل، وبالتالي المزايدة على التيارات والقوى الإسلامية بقدر أكبر من التوظيف الخارجي وهو الأهمº لأن حدثاً كهذا (الإساءة الدنمركية وتضامن دول أوروبية مع الدانمارك ) مناسب جداً للاستفادة منه في التخفف من حملة الضغوط الغربية على العالم الإسلامي عموماً، وأيضاً لشن حملة مضادة ضد عنصرية وإرهاب الغرب الذي تصاعد منذ هجمات 11 سبتمبر، وتحول إلى حملة إرهاب فكرية وسياسية واقتصادية حقيقية ضد العرب والمسلمين.

وكمثال يمكن دراسة أسلوب اللوبي الصهيوني في التعامل مع ما يسمي قضية "العداء للسامية" التي تشير بوضوح إلي الطريق الذي يجب على الحكومات العربية أن تسير عليه"، إضافة إلى دراسة أساليب التعامل الأمريكية مع العالم الإسلامي عقب 11 سبتمبر، بهدف فتح أفاق التعلم المضاد من "الإساءة الدانمركية".

فمن أبرز ملامح التوظيف الأمريكي والأوروبي لمدة ما بعد هجمات 11 سبتمبر على المستوي العربي: أن الغرب فرض نوعاً من التضييق على التعليم الديني في الكثير من الدول العربية والإسلامية، وهو ما انعكس علي مطالبة مؤسسات دينية عربية رسمية بما سمي "تغيير الخطاب الديني "، وقد ظهر هذا التدخل في قضية التعليم الديني ليس فقط في العالم العربي والإسلامي ولكن في الغرب أيضاً، حيث جرى التضييق على التعليم والمدارس الدينية، وعلى لبس الحجاب للطالبات.

أيضاً من أخطر سلبيات 11 سبتمبر التي وظفها الغرب سياسياً للضغط على العرب كان التدخل الأمريكي في التنشئة السياسية والدينية للأجيال العربية الجديدة، وهو أمر كشفته دراسة صدرت يوم 7 مارس 2005م عن "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن" - أحد أهم مراكز الأبحاث في العاصمة الأمريكية -، وتحدثت بوضوح عن سياسة أمريكية جديدة تقوم علي "ضرورة الاستثمار في الجيل القادم من الزعامات العربية"، بمعنى "الاستثمار في الزعامات السياسية والأكاديمية والثقافية والاقتصادية!!

أيضاً سعي اللوبي الصهيوني لاستغلال قضية ما يسمي العداء للسامية في ابتزاز الدول العربية والغرب على السواء، ووصل الأمر في مصر على سبيل المثال لتحميل اللوبي الصهيوني العديد من نواب الكونجرس الذين زاروا مصر ملفات كاملة تضم رسوم الكاريكاتير التي تنشرها صحف ومجلات مصرية للسخرية من الزعماء الصهاينة، لعرضها علي القيادة المصرية، ومطالبتها بالاعتذار عن هذه الرسومات ووقفها.

بل وحذرت الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب في 31 أكتوبر 2004 من مخاطر "التطبيق الأعمى" للقانون الأمريكي الذي صدر مؤخراً باسم (مراقبة معاداة السامية)، وتقويم العلاقات الأمريكية مع دول العالم على أساس مواقفها من معاداة السامية وفق مفهوم هذا القانون، وقالت: "إن من التناقض الفج أن يأتي هذا القانون المتطرف ليعمل على مصادرة حرية الصحافة، وانتهاك حرية الرأي والتعبير في البلاد العربية، خصوصاً وكلها تضم شعوباً سامية إذا ما تعرضت بأي نقد أو اختلال مع سياسات "إسرائيل" ومنظمات اللوبي الصهيوني، بينما تدعي أمريكا أنها تضغط على الحكومات العربية لإطلاق حرية الصحافة والرأي والتعبير في نطاق دعوة الإصلاح الديمقراطي "!؟

أيضاً ظهر في الأزمة الإيرانية - الغربية الأخيرة بعد أخر لهذا التوظيف السياسي بهدف فرض المزيد من الضغوط الدولية على النظام الإيراني فيما يتعلق بقضية تخصيب اليورانيوم مثل تصريحات (الرئيس الإيراني) أحمدي نجاد عن "حقيقة الهولوكوست"، وعن "نقل الدولة العبرية إلى ألمانيا والنمسا"، حينما تم تحويل هذه التصريحات المحلية إلى أزمة دولية، وتجنيد مجلس الأمن لإدانة هذه التصريحات، وتدويل الأمر بشكل يضمن استمرار وقوع إيران تحت المقصلة الأمريكية.

 

رد الفعل الرسمي وترتيب الأدوار:

وهناك درس آخر في قضية الإساءة الدنمركية يوضح نجاح الغرب في التوظيف السياسي لأي حدث تمثل في تضامن قرابة خمس دول أوروبية أخرى مع الدانمارك من خلال إعادة نشر صحف في هذه الدول لنفس الرسوم المسيئة لنبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - بهدف تشتيت رد الفعل العربي (المقاطعة) وإرباكها، حتى ولو كشف هذا التضامن الأوروبي في هذه القضية سخونة صراع الحضارات بين العالم الإسلامي والغرب!

وهذا الدرس تحديداً كان من الممكن الاستفادة منه من "زاوية ضيقة" تتمثل في نوع من تنسيق الأدوار بين الحكومات العربية وبين التيارات والقوي والمؤسسات الإسلامية التي انتفضت للدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث تضغط الحكومات على الغرب للاعتذار تحت ذريعة تصاعد المقاطعة الشعبية، ومن "زاوية أخرى أكبر" تتمثل في إثارة قضية الصراع الحضاري والحوار بين الحضارات، وكيف أن مثل هذه الهجمات على الرموز الإسلامية تكشف حالة الصراع الحضاري بأكثر مما تشير لحالة حوار بين الأديان.

فهناك من يعتقد أن المحرض الأول على ما فعلته الصحيفة الدانماركية كان الملكة مارجريت الثانية عندما أطلقت العام الماضي تصريحات تحريضية لاستعداء العالم على الإسلام والمسلمين قالت فيها: إن الإسلام يمثل تهديداً على مستوى الداخل والخارج بسبب المتطرفين الإسلاميين، ودعت الملكة حكومتها إلى عدم إظهار أي تسامح تجاه الإسلام، وعدم الالتفات للغضب والاستياء من الخارج كرد فعل لهذه الممارسات!!

وهناك درس آخر فرضته التهديدات الأوروبية باللجوء إلى عقوبات تفرضها اتفاقية التجارة العالمية على الدول التي تقاطع دولº عقب نجاح المقاطعة الشعبية العربية يتلخص في الازدواجية، حيث يعدون اللجوء إلى المقاطعة الاقتصادية سلاحاً مشروعاً عندما تستخدمه الدول الغربية ضد آخرين، والعكس صحيح لو استخدمه العرب!

فالغرب استخدم سلاح المقاطعة نفسه ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا، وضد نظام (الرئيس العراقي) صدام حسين، ولهذا يمكن القول: إن الشعوب الإسلامية لم ترتكب أي خطأ باللجوء إلى السلاح نفسه، ومقاطعة بضائع الدول التي تسيء صحافتها للإسلام والمسلمين.

واللافت هنا أن رد الفعل العربي الرسمي ازداد حدة في أعقاب المظاهرات العربية وتنظيم قوى إسلامية فعاليات ضخمة لتحريك الشارع العربي والإسلامي بنحو شكل ضغطاً على الحكومات على غرار الضغط الذي شكلته الاحتجاجات الشعبية على الغزو الأمريكي للعراق، بل وبدأ نوع من تحجيم هذه الأنشطة الشعبية خصوصاً للقوى المنافسة في بعض الدول ( منعت قوات الأمن في الإسكندرية مؤتمراً للاحتفال بالهجرة النبوية أقامه عضو إخواني في البرلمان).

 

احذروا تصاعد الإرهاب:

بل إن رد فعل بعض قادة الدول العربية التي تشكو تصاعد دور القوى الإسلامية، ورغم أنه جاء قوياً ضد الرسومات الدانمركية المسيئة، ووصل لحد غلق سفارة ليبيا، واستدعاء سفير السعودية، إلا أنه كان محذراً للغرب بشكل قوي من مخاطر مثل هذه الأعمال الغربية في تأجيج العنف والتطرف و"الإرهاب".

فقد وصل رد الفعل المصري الرسمي حد مطالبة الدانمارك رسمياً بالاعتذار، واعتبار كل ما صدر رسمياً عن كوبنهاجن - كما قالت مني عمر عطية (سفيرة مصر في الدنمارك) - "غير كاف"، بيد أنه لوحظ على رد فعل الرئيس مبارك أنه قال: إن هذه الرسومات "توفر المزيد من الذرائع لقوى التطرف والإرهاب"، وإن التمادي في نشر رسوم كاريكاتيرية للنبي محمد في صحف غربية ينزلق لمنطقة خطرة، وسوف تكون له عواقبه الوخيمة في إثارة مشاعر العالم الإسلامي والجاليات الإسلامية في أوروبا وخارجها ".

وبالمقابل سعي (الرئيس التونسي) زين العابدين بن علي - في لقائه مع السلك الدبلوماسي 2 فبراير الجاري - لطرح دور للوساطة بتأكيده أن "تونس ستواصل مساندتها لحوار الحضارات والأديان تكريساً للأمن والسلم الدوليين "، و"ستواصل السعي في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي إلى نشر مبادئ الاعتدال والوسطية، ونبذ التطرف والعنف وكل المواقف والأشكال التعبيرية التي تسيء إلى رموز الأديان ومقدساتها ".

التوظيف السياسي للإساءة الدنمركية يحتاج بالتالي إلى حنكة سياسية، وأهداف وطنية عامة لا تقتصر على تحقيق (أهداف داخلية) بقدر ما يجب أن تكون الاستفادة من الحدث في مواجهة (الخارج) الذي أساء لنبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، وبغرض تحقيق أهداف أعظم، وهي في نهاية الأمر لصالح الحكومات لتخفيف الضغوط الغربية عليها!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply