بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ما المدينة التي لبست (لباس الجوع والخوف)؟
القرآن يشرح لنا السبب
قال الله سبحانه: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾(النحل: 112).
قال الطبريُّ في تفسير الآية الكريمة: ومثل الله مثلاً لمكَّة التي سكنها أهلُ الشِّرك بالله هي القَرية التي كانت آمِنةً مطمئنَّة، وكان أَمْنها أنَّ العرب كانت تتعادى، ويقتل بعضها بعضًا، ويَسْبي بعضها بعضًا، وأهل مكة لا يغار عليهم، ولا يحارَبون في بلدهم، فذلك كان أمنها، وقوله ﴿مُطْمَئِنَّةً﴾؛ يعني: قارَّة بأهلها، لا يَحتاج أهلُها إلى النَّجْع، كما كان سكَّان البوادي يَحتاجون إليها، ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا﴾ يقول: يأتي أهلها معايشهم واسِعة كثيرة، وقوله ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾؛ يعني: من كلِّ فجٍّ من فِجاج هذه القرية، ومن كلِّ ناحية فيها.
وقوله: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ يقول تعالى ذِكرُه: فأذاق الله أهلَ هذه القرية لباسَ الجوع؛ وذلك جوع خالَط أذاه أجسامهم، فجعل الله تعالى ذِكرَه ذلك لِمخالطته أجسامهم بمنزلة اللِّباس لها؛ وذلك أنَّهم سلط عليهم الجوع سِنين متوالية بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أكلوا العلهز والجِيَف؛ والعلهز: الوبر يُعجن بالدَّم والقُراد يأكلونه، وأمَّا الخوف؛ فإنَّ ذلك كان خوفهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت تطيف بهم، وقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ يقول: بِما كانوا يَصنعون من الكُفر بأنعُم الله، ويَجحدون آياته، ويكذِّبون رسولَه صلى الله عليه وسلم(1).
وقال الزمخشري: "﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً﴾؛ أي: جعل القريةَ التي هذه حالُها مثلاً لكلِّ قوم أَنعم اللهُ عليهم فأبطرَتهم النِّعمة، فكفروا وتولَّوا، فأنزل اللهُ بهم نقمتَه، فيجوز أن تراد قرية مقدَّرة على هذه الصِّفة، وأن تكون في قُرى الأوَّلين قريةٌ كانت هذه حالها، فضربَها الله مثلاً لمكَّة إنذارًا من مثل عاقبتها، ﴿مُطْمَئِنَّةً﴾ لا يزعجها خوف؛ لأنَّ الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلَق مع الخوف، ﴿رَغَدًا﴾ واسعًا، والأنعُم: جمع نِعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع"(2).
ويضيف القرطبي: ﴿لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ سمَّاه لباسًا؛ لأنَّه يظهرُ عليهم من الهزال وشُحُوبة اللَّون وسُوء الحال ما هو كاللباس، ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾؛ أي: من الكفر(3).
وذهب ابنُ كثير إلى أنَّ هذا مثَلٌ أُريد به أهلُ مكَّة، ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا﴾؛ أي: هنيئًا سهلاً ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾، ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ﴾؛ أي: جحدَت آلاءَ الله عليها، وأعظمها بعثةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إليهم، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾[إبراهيم: 28، 29]؛ فإنَّ مكَّة كانت آمِنةً مُطمئنَّةً مُستقرَّةً يُتخطَّفُ الناسُ من حولها، ومَن دخلها كان آمنًا لا يَخاف، كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾[القصص: 57]، ولهذا بدَّلهم الله بحالَيْهمُ الأوَّلَينِ خلافهما، فقال: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾؛ أي: ألبَسها وأذاقها الجُوعَ بعد أن كان يُجبى إليهم ثَمراتُ كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقُها رغدًا من كلِّ مكانٍ؛ وذلك لمَّا استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبَوا إلاَّ خلافَه، فدعا عليهم بسبعٍ كسَبع يوسف، فأصابَتهم سنَةٌ أذهبَت كلَّ شيءٍ لهم، فأكلوا العلهز؛ وهو وبَر البعير يُخلط بدمه إذا نَحروه، وأمَّا الخوف؛ وذلك أنَّهم بُدِّلُوا بأمنهم خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سَطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال، حتى فتحها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بسبب صَنيعهم وبغيهم وتكذِيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم، وامتنَّ به عليهم في قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا﴾ الآية[الطلاق: 10، 11]، وفي قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية [آل عمران: 164]، وقوله سبحانه: ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾- إلى قوله -: ﴿وَلَا تَكْفُرُون﴾[البقرة: 151، 152]، وكما أنَّه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، فبدَّل اللهُ المُؤمنين من بعد خوفهم أمنًا، ورزقهم بعد العَيْلة، وجعلهم أُمراء الناس وحُكَّامهم وسادتهم وقادتهم وأئمَّتهم، وهذا الذي قُلناه من أنَّ هذا المثَل ضُرب لأهل مكة قاله العَوْفيُّ عن ابن عباسٍ، وحكاه مالك عن الزُّهري، وإليه ذهب قتادة وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم(4).
إذًا هل نتَّعظ مِن هذا المثَل الذي ضرَبه الله سبحانه في كتابه؛ من المدينة التي كانت آمِنة مطمئنَّة، فأبدلها الله سبحانه بالخوف والجوعِ؟ هل نَلجأ إلى الله سبحانه ليَدفع عنَّا الخوف والجوعَ، أو نرى متَّعظين بمثل القرية التي أَلبسها الله سبحانه لباسَ الخوفِ والجوع؟!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
[1] محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ): "جامع البيان في تأويل القرآن"، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ط1، مؤسسة الرسالة، 1420 هـ - 2000 م، 17 / 311 - 319.
[2] أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538هـ): "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل"، دار الكتاب العربي - بيروت - 1407 هـ، 2 / 368.
[3] أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ): "الجامع لأحكام القرآن"، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، ط2، دار الكتب المصرية - القاهرة، 1384هـ - 1964 م، 194/ 10.
[4] ينظر: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ):"تفسير القرآن العظيم"، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، ط1، دار الكتب العلمية - بيروت - 1419 هـ، 4/ 522.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد