هبوط قلب في مدرج المطار


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

كان صاحبي في طريق عودته من سفرٍ خارجي، وفي أثناء صعوده للطائرة؛ أصابه هبوطٌ مفاجئ في القلب، وبعد الاطمئنان على حالته؛ أقلعت الطائرة، وفورَ وصوله ذهب صاحبي إلى قِسم الطوارئ في أحَد المستشفيات القريبة من مطار الرياض؛ ليطمئن على حالته قبل شروعه في سفرٍ جديد، ثم بعد يومين ذهب صاحبي لطبيبٍ استشاري متخصص في أمراض القلب، وبعد الفحص تبيّن له أن عنده إجهاداً وتوتراً شديدين، ونصحه الطبيبُ بالتخفيف عن نفسه، وقال له  -بعد أن استمع لحالته-: لقد مرّ بي أناسٌ مثلك ممن قال فيهم المتنبي:

وإذا كانت النفوسُ كباراً *** تَعبتْ في مرادها الأجسامُ

ولكنك يا أخي لن تستطيع أن تأتي على كلِّ أعمالك في وقتٍ قصير، فَقَلّ مَن مات وليس له حاجة ما قضاها، على حدّ قول الصَّلَتان العَبْدي:

نروح ونغدو لحاجاتِنا                 وحاجةُ مَنْ عاش لا تَنقضي

تموتُ مع المرء حاجاتُه                وتَبقى له حاجةٌ ما بقي!

فارفق بجسدِك، وأعطِه حقَّه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا؛ فأعط كلَّ ذي حقٍ حقَّه"([1([.

واستطرد الطبيبُ قائلاً: أُكْبِرُ فيكم أخي هذه الهمّة، ولكن ليس صحيحاً أن تُهمِلوا أجسادَكم، والاستمتاع بحياتكم، وتُقصِّروا في ذَوق متعة الجلوس مع أولادِكم وأهلِكم بحجّة أنكم مشغولون! أو تُهمِلوا رياضةَ أبدانكم ولو بالمشي! حتى إذا سقَطَ أحدُكم بجلطة، أو مرضٍ مُقعِد؛ ذهب يلتمس الحلّ، ويُعيد حساباته! وقد كان بإمكانه أن يتلافى ذلك بفضل الله.

خرج صاحبي من الطبيب، وهو يفكّر في كلام الدكتور الناصح، ويتأمل فيما قاله؛ فوجد أنه بالفعل يحتاج إلى مراجعةِ حساباته فيما يخص زحمة جدول أعماله، وإرهاق نفسه بما قد يقطعه عن الاستمرار في العطاء بعد سنوات قليلة، وهو لا يزال بعدُ في قوّته!

هنا.. لاح لصاحبي حديثٌ عن عبدالله بن عمرو في قصة تشديده على نفسه بالعبادة، حين قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله! ألم أُخبَر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟»، فقلت: بلى يا رسول الله! قال: «فلا تَفعل! صمْ وأفطرْ، وقمْ ونمْ؛ فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزَوْرك عليك حقًا، وإن بحسْبِك أن تصوم كلّ شهرٍ ثلاثةَ أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله»، فشدَّدتُ؛ فشُدّد عليّ، قلت: يا رسول الله! إني أجد قوةً! قال: «فصم صيامَ نبيِّ الله داود عليه السلام، ولا تَزِد عليه»، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: «نصف الدهر»، فكان عبد الله يقول بعد ما كَبِر: يا ليتني قَبلتُ رخصةَ النبي صلى الله عليه وسلم!([2([

إن هذه الوصية النبوية العظيمة؛ نموذجٌ مشرِق لحرص الشرع على توازن الإنسان بين مطالب الروح والجسد، وعدم النظر إلى الحال الحاضرة فقط، بل يعيش وفق قاعدةِ: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا"([3([.

إن قصة صاحبي، وما سبق من حديث الطبيب؛ لا يخصّ العلماءَ المنشغلين بتعليم الناس أمرَ دِينهم، ولا الدعاةَ الذين يَتنقّلون بين المدُنِ والقرى، ولا للتجّار الذين ألهاهم الصَّفْقُ في الأسواق، وتتبع أخبارِ المال والعَقَار؛ بل هو رسالةٌ لكل مَنْ يركض لاهثاً في ميادين الحياة، أنْ ارفق بنفسك! وتذكّر أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وجيشُ أسامة لم يذهب إلى الشام، وسنموتُ ولنا حاجاتٌ وحاجات، ولْنُعطِ كل ذي حقٍ حقّه: بدَناً وعَيناً، وأهلاً وزوجاً وولداً وضيفا؛ فهو أصحّ بدَناً، وأقوى قَلباً، وأتقى دِيناً.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

([1]) صحيح البخاري ح1968.

([2]) هذا لفظ البخاري ح1975.

 

([3]) روي هذا من قول عبدالله بن عمرو بن العاص، كما عند الحارث بن أبي أسامة (1093)، وبعضهم يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث موضوع عليه، والصواب أنه مروي عن عبدالله بن عمرو، ينظر: المطالب العالية (13/ 314(.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply