الوسيلة التي تدمّر الغاية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

مقدمة:

انظر حولك.. تر كيف تتخذ بعض الفئات والأفراد في مجتمعاتنا طرقا خاطئة لبلوغ مآرب لا غبار عليها.. بل ربما يحصل هذا في الدعوة إلى الله أو الجهاد في سبيله.. فلا يصلون!! ومن وصل منهم فهو مبتلى.. وقد يغترّ..  وقد يزلّ كالذين {استزلّـهم الشيطان ببعض ما اكتسبوا}.

وتربويا معظم الجيل الناشئ يفعل ذلك في شؤونه الدنيوية  فيسير في سبل معوجّة لتحقيق غاياته المادية القريبة.."لا تثريب عليه"! لولا أنّ أعظم النار من مستصغر الشرر ....

وعندما يغضّ الأهل والمربون النظر عن تلك الهنات وهذه الصغائر في رحلة الناشئين بين الوسائل والغايات.. تختلط الأمور.. ويكبرون وتكبر الأخطاء التربوية الصغيرة معهم ...

 إلا من رحم ربي  ،وتم تداركه  بما تيسر من سبل قويمة..

ولكن اليوم.. وفي عصر العولمة..  الأمر أشد صعوبة وتعقيدا.. وأبناؤنا معرضون لتيارات جذب ودفع أقوى مما نتوقع والناس في لهاثهم المحموم وسباقهم وراء المكاسب الدنيوية يبحثون عن الطرق المختصرة والأقل مؤونة.. ولو أتيت خلالها المعاصي أو ارتكبت المحرمات ..

ولكن لا بد لـهذا اللهاث أن يـتـوقـف.. الحمد لله.. ويصـل الـمتـسـابـقـون إلى نقطة النهاية الأرضية مثقلين بالمكاسب الصالح منها والطالح.. فجنة أو نار ...

قال تعالى يعلّمنا بل يذكّرنا إلام المسارعة في الدوري النهائي للسباق: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرضأعدت للمتقين} آل عمران 

وضوح الهدف وسلامة الطريق:

نحن من جيل تضخّم فيه بلاء اعوجاج الوسائل.. حتى صار تراكمياً  صعب التدارك.. فلا أقلّ من أن نبادر لتصحيح ذلك في الجيل الجديد، والخطوة الأولى والأهم: هي التربية المبكرة على اتخاذ الطرق السليمة القويمة.. والصبر عليها..

 وهنا فإنّ أعظم منحتين نقدمهما لأبنائنا: وضوح الهدف وسلامة الطريق ..

عندما تُــمَكّنُ ولدَك من هذين الأمرين.. تطمئن إذ يترك يدك وينطلق قدماً معتمداً على نفسه.. وهنا أُذكّر أن التحصين الأخلاقي الإيماني أجدى من إعطاء العلاج بعد وقوع المرض!.. حتى لو تلكّأ الناشئ المحصّن في سيره.. أو زلت قدمه فيما بعد.. فلن يعدم رفيق درب صالح يقيله من عثرته، أو وازعا محبا ينصحه..، وهو سيستجيب بما نسميه في الطب "تفاعل الذكرى" الذي ينبع من ذاته : فطرة سليمة وتربية أخلاقية ..

ولعلّ  المعتمد أولا وأخيرا على البدايات الصالحة.. ومهما كبر الفتى واشتد عوده ، فإن يد الأهل (وبالذات الأبوين)، والمربي الناصح، هي التي تمتد لتدعمه بإشفاق وقوة  في غياب الآخرين  كحال مجتمعاتنا اليوم التي يتزايد فيها ذلك الغياب ...

 والأفضل أن يكون توجيه الأهل حكيماً ودعمهم غير مباشر، لأن أغلبية الأبناء اليوم يعتبرون التوجيه والدعم المباشرين فرض وصاية.. ويتصرفون بناء على بدعة "صراع الأجيال".. فتتسع الفجوة.. وتزداد دروبهم تعرجا.. وتمتلئ بالخطوط المنحرفة والزوايا الحادة..

وبالمحصلة، لم تعد القضية: مناقشة رفض وتجنب شعار "الغاية تبرر الوسيلة" الذي  رُبــّينا على الحذر منه لضلاله ..

بل القضية هي أن الوسيلة المنحرفة قد تدمّر الغاية المشروعة... وحتماً تسئ لها بشدّة..

وقد توصِلُ السائر في ومن  يستدلّ به إلى أهداف وهمية.. أو أخرى بديلة تم تزيينها بعناية !

لنتذكر أن اتّباع الطرق والسبل المعوجة.. لا يرضاه الله تعالى.. حتى لو كانت الغاية إعلاء كلمة الله تعالى..،

وأن الوسائل السليمة متوفرة لمن شاء.. ولو بدت كقوارب النجاة صغرا وخطورة في عالم تتقاذفه التيارات والأهواء!.. قال تعالى: ﴿قُلْ لا يَسْتَوي الْخَبيثُ وَالطَّيّب﴾ (المائدة: 100)؛ وبالإجمال فإنّ السبل إلى الله تعالى متعددة.. وكلّها تفيض إحسانا.. وتبشرك وأنت تتخذ تلك السبل بمعيّة الله تعالى، والذي قال في ختام سورة بينت الفرق بين وهن وتهافت سبل الضلال وبين سلامة ومتانة السبل القويمة إلى خالقنا: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبُلَنا وإنّ اللهَ لمعَ المحسنين}ختام العنكبوت..! أليس أنه سبحانه {لمعَ المحسنين}.. بلى وله الحمد ..

 

 لماذا علينا أن نصحح وسائلنا ؟ أكتفي بثلاث محفّزات:

أولاً: المسؤولية تجاه الأمة: هذا العنوان العريض هو بحث واسع اوجز منه ما يلزم لهذه الفكرة:

تجنب الوقوع في السفاهة والتعميم:

فمن أسوأ نتائج هذه الممارسات أنها توقعنا كمسلمين -أمة ومجتمعات- بين السفاهة والتعميم، ومما يؤلم أن تقرأ مثلا  قول أخ أوربي دخل الإسلام: ((الحمدلله أنني تعرفت على الإسلام قبل أن أتعرف على المسلمين!..))

عندما تجد نفسك بين سفاهة السفهاء.. وخطيئة التعميم والمعممين الذين يسعون لمحاربة الإسلام بحجة أو بدون حجة.. تتذكر قول الشاعر:

وجرمٌ جرّهُ سفهاء قوم ** فحلّ بغير جارمه العقاب

وإن انتشار اتباعنا الوسائل المعوجة لتحقيق الغايات يعطي عدونا ألف حجة لاستصغار ديننا الذي نمثله..

فكيف والمعاناة من ذلك هي في عصر العولمة والإعلام الغبي والمتغابي..

وكيف وهي على مستوى المجتمع والأمة؟!.. وكثيرا ما تنالنا من بني جلدتنا وممن يدّعي أخوتنا وصداقتنا!؟؟.. سبحان الله.. !أتذكر ضراعة نبي الله موسى {(قال ربّ لو شئتَ أهلكتهم من قبل وإيّاي.. أتهلكنا بما فهل السفهاء منا)} الأعراف 155؛ وأدعو بمثل دعاء حبيبنا صلى الله عليه وسلم.. بعد تعرض سفهاء الطائف له: اللهم إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي.. غير أن عافيتك أوسع لنا!!

ويشتد بالأمة البلاء عندما يكثر استخدام السفهاء من قبل أعداء الدين كوسائل لتدمير ثوابتنا، لأن وسائلنا نحن أنفسنا خاطئة..، فيتصدر لذلك "لكع بن لكع".. ويتشدق به "الرويبضة"!!.. مما يضاعف العبء على عاتق كل مسلم.. في نفسه وفيمن هم في دائرة رعايته ....

ثانيا: حقيقة أن الوسائل المعوجة كثيرا ما تدمر الغايات المشروعة إن عاجلا أو آجلا :

فالغايات التي تتحقق بوسائل ظالمة وباطلة تحمل بذور تلفها في داخلها وهذه أمثلة من واقعنا المعاش نتدرج فيها من الخاص للعام:

(1) على مستوى الفرد:  والمثال للتقريب، وقد يبدو خاصا ولكنه بالنسبة للناشئين أعمّ وأهمّ مما نحسب: وهو تناول الأدوية المنشطة الممنوعة في البطولات الرياضية، والنجاح في التمويه على الفحوص المخبرية ثم الفوز ببطولة ...

ذلك الفوز كثيرا ما تلاه على أرض الواقع هبوط كارثي: إما صحي أو قانوني.. أطاح بالغاية البراقة والمجد الأثيل، وهوى بصاحب ذاك المجد.. إلى القاع..

ومثال آخر: فهدف نشر العلم بجميع فروعه بما فيه العلوم الدينية يدعو البعض لتبرير أخذ أعمال الآخرين ونشرها دون اسم صاحبها رغم معرفته لتبدو كأنها إبداع من نشرها، ومنهم من لا يجد غضاضة في نسبها لأنفسهم، وغياب التوثيق آفة الثقافة والمثقفين اليوم والأسوأ الهبوط للسرقات الفكرية كما تسمى مع الأسف ،والتي تجد من يسوّغها!!

(2) على مستوى المؤسسات: يشيع بنفس الحجة :غاية نشر العلم، تبرير وسيلة أكل حقوق المؤلف من قبل الناشرين.. وبعض المؤلفات تطبع مئات المرات ولا تعترف دور النشر إلا بطبعتين أو ثلاثة..؛ وكل مالا يطاله قانون الأرض فإن له قانون السماء.. ودقة عدل رب السماء..، حتى لمثاقيل الذرات!..

(3) على مستوى المجتمع: إن هدف الحصول على مسكن مريح في أنظمة اقتصادية عالمية ربوية دعا شريحة كبيرة من المجتمعات للاستعانة بالقروض الربوية المسهّلة والتي أغرت كثر (غير مسلمين ومسلمين).. وفي هزة تجاوزت المجتمع إلى مستوى النظام العالمي الاقتصادي لاسيما في أوربا والولايات المتحدة (1)  ما لبث الناس أن وجدوا أنفسهم في الطريق.. مطرودين من تلك البيوت التي ضمت كل ما يحلمون به وما يملكونه.. فيما عرف بمأساة القروض العقارية (2007-2008)..؛ وحينها أقرّ صندوق النقد الدولي في تقرير له بأن "المستهلك سوف يتحمل في نهاية الأمر أي صدمات عقارية"  كما اعترف الخبراء بدور الربا الفاحش (ويسمونه أسعار الفائدة) في موجات الانهيار الحادثة والمتوقعة بمثل قولهم أن "الارتفاع المفاجئ في أسعار الفائدة كان من محفزات الانهيار" (1).

(4) والرشوة هي من تلك الوسائل التي تخرب الغايات في الفرد والمجتمع وتنهار المؤسسات بسببها أو تدمر منجزاتها،.. فهي توقع الراشي والمرتشي في غضب الله تعالى، وقد يناله ذلك في الدنيا قبل الآخرة فيتعرض للفضيحة، أو يُطرد من عمله أو يسجن.. وتبقى ذيول الرشوة سيفا مصلتا على رقبته ولو حقق بها أسمى الغايات: كحصول الراشي على شهادة علمية، والمرتشي على مبالغ ضخمة تتراكم! وقد ينفق منها في وجوه الخير!! وإذا بيّض صفحته عند الناس فلن تبيض عند رب الناس... قال تعالى {مثل ما ينفقون في الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قومٍ ظلموا أنفسهَم فأهلكتْه} آل عمران من الآية 117 ..

وأمثلة أخرى .... لاشك أن في جعبة كل قارئ أكثر من  واحد منها  ...

ثالثا المسؤولية المحلية:

لابد من تصحيح وسائلنا لننجح في أن نكون قدوة لأبنائنا ووازعا اجتماعيا أخلاقيا  للناشئين في المجتمع من حولنا: وليخاطب كل منا نفسه: ((إن لم تكن مسؤولا بشكل مباشر عن أخطاء السفهاء التي سببت تعميم الإساءة لأمتك، فأنت مسؤول في محيطك على الأقل!)).

وبما أن وضع التشخيص هو نصف الطريق للعلاج، فنذكّر بأن أساس انحراف الوسائل هو "أسرة لآفة ممرضة" -إن صح التعبير- اسميها "التبعيض" (وهي آفة الأمم من قبلنا لاسيما بني اسرائيل):

فأكثرنا يُبَعّض فيطبق بعض التشريعات.. ويتجاهل بعضها... وفي تاريخنا القريب كان من الأخطاء الشائعة تركيزنا على الأوامر وتراخينا في المناهي ؛ قال الإمام أحمد: "إن النهي أشدّ من الأمر"..

والأصل في  عبادة الله تعالى "النهي" عن عبادة غيره ولو بهدف التقرب له.. قال عز من قائل: {قل إني نـُهِيتُ أن أعبد الذين تدعونَ من دون الله ، قل لا أتّبعُ أهواءكم قد ضللْتُ إذاً وما أنا من المهتَدين} الأنعام 56، وهذا يشمل أي شئ وأي وسيلة منحرفة نظن أننا نتقرب بها لله تعالى.. متناسين أنه أغنى الأغنياء عن الشرك سبحانه. وأغلب الناس، وكثير من المشايخ  -من الجنسين- على أشد التشدّد في الأوامر (والنوافل منها وصولا للبدع!)  لكنهم في المناهي قد يتساهلون، وهكذا شبّ جيل وأجيال على هذا !

وهو أمر خطير لأنه يورث شعورا كاذبا بالرضا عن النفس أخلاقيا وسلوكياً! وبالمحصلة صار عاديا أن ترى (وهي نماذج حقيقية):

-       الناشئ من أسرة ملتزمة يغش في الامتحان، ولا ينكر أهله عليه ذلك ....!!

-       والرجل الذي لا يغضّ بصره عن المحرمات.. وهو يعتمر كل عام ...

-       والمرأة المحجبة التي تعمل في بنك 1)ربوي.. 2)تختلط بزملائها الشباب وتمازحهم، 3)وعندما تتعامل مع العملاء تماطلهم.. بينما هي تحضر الدروس الدينية وملتزمة بصلاتها وصيامها و.. وهذا طيب.. ولكن ماذا عن صلاة لا تنهى عما نهى الله ورسوله عنه؟!

-       والأدهى انتشار الرشوة وعدم الانتهاء عنها بين المبعّضين.. ومن يدفع أكثر يأكل أكثر ولو من حقّ غيره.. بدعوى الغاية الشريفة !

واستمع لقول ابن رجب في جامع العلوم: "إن الله لا يكلف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به، وقد أسقط عنهم الكثير من الأعمال بمجرد المشقة، وأما المناهي فلم يعذر أحدا بارتكابها، بل كلفهم تركها على كل حال" (2).

وانظر مجتمعات الأمم المتقدمة، عندما انتهوا عن مخالفة قوانين وضعها بشر، تقدموا وسادوا.. ونحن نخالف قوانين رب البشر، ونتحايل على قوانين البشر.. فكيف نستعيد دورنا بين الأمم ونؤدي الأمانة؟....

لنتدارك ونشرع بتربية أبنائنا -وهم الثروة الحقيقية للأمة- بالوسائل والغايات الصحيحة فهي من أهم مفردات هذه الأمانة !

 

بماذا نستعين: دعامات الارتقاء بالوسائل:

لعل استصلاح الوسائل هو أهم تغيير إيجابي يجب أن نعمل عليه؛ وفيما يلي بعض الإضاءات التي تغني البحث وتدعمنا في إنجاز ذلك "التغيير"، ثم تجعلنا "نثبت" (3) عليه ونستمر أكثر تبصرا فيما نتخذ من الوسائل نحو الغايات فلا نتناقض ولا نبعّض.....  -اللهم غفرانك.. لاتكلنا لأنفسنا طرفة عين ولا لأحد من حولنا-:

1.    مشيئة الاستقامة والعيش مع القرآن: تلك المشيئة هي أول خطوة للنجاة من تعاظم النتائج المدمرة للوسائل المنحرفة قال تعالى: {(إن هو إلا ذكر للعالمين(27) لمن شاء منكم أن يستقيم (28)}(سورة التكوير) وهي-المشيئة- تتوفر لدينا استجابة للمحفزات التي ذكرت بعضها، وأقوى دعم لتلك المشيئة العيش مع القرآن وبالقرآن تلاوة وتفكرا وتدبرا، لأن كلام الله لا يقبل العوج في الوسائل مهما شرفت الغايات، قال تعالى {الحمدلله الذي أنزل على عبدهِ الكِتاب ولمْ يجعلْ له عِوَجاً (1) قيِّما}الكهف..؛  كلما فتحت القرآن افتح قلبك وعقلك.. وتذكر أن الأمر منوط بك أنت.. لتأمن الزيغ عن الاستقامة رغم الوضوح..، سبحان الله..، فكثرة يزيغون.. وهي "بيضاء  لا يزيغ عنها إلا هالك"( 4)!! فكيف لو كانت رمادية معتمة.. مدلهمّة!!؟

استعن بالله ولا تعجز واجتهد في جسر الفجوة بين القول والعمل.. وإلا فهي ليست استقامة إن اقتصرت على التنظير ولنتذكّر أن  تلك المشيئة التي فطرنا عليها.. هي هبة سماوية.. لنتعلم ونتربى...  ونعلم  ونربّي على الحق، فتسلم لنا الغايات والوسائل.. ونفوز بحرثي الدنيا والآخرة ..

2.    اليقين والطاعة: خير ما يدعمنا في تحقيق تلك المشيئة  وصيانة ثوابتنا عموما، وبشأن اعوجاج وسائلنا خصوصاً: اليقين بحكمة الله تعالى.. وعدم الشعور أن علينا تبرير كل الأحكام والأوامر والنواهي..، وتجد بعض المسلمين الجدد أشد وعيا منا لهذا.. ومنهم العلماء..، ومما يُروى: قول أحدهم وهو أخ أوربي حديث عهدٍ بالإسلام لمن كان يشرح له الحكمة من تحريم لحم الخنزير: قل لي حرّمه الله وكفى!

قال تعالى: {قل هذه سبيلي}(يوسف 108).

تؤمن بهذا النص الواضح يقيناً؟! إذن تذكر وأنت تطيع منزله ..وتلتزم تلك "السبيل" نحو "الغاية"..  أنك في سباق نحو الجنة..

3.    تقوى الله: والتقوى امتداد لما ورد في الإضاءة الأولى من "العيش مع القرآن"، وهي دعامة متينة لتجنب منزلقات الوسائل الخاطئة؛ ونحن نتقي الله تعالى منزل القرآن إذ نطيعه ونتبع رضوانه اتباعا حقيقيا صادقا.. لا تجارة فيه ولا هوى نفس.. قال تعالى: {(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )} التوبة 119.

وإن بحث التقوى طويل ومتشعب وكتب عنه الكثير، وفي مقامنا أركز على أمرين :

-       التقوى خير زاد لابن آدم ليلتزم السبيل القويم، ومهما كانت العقبات نحو الغاية الشريفة، قال تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}البقرة 197.. وذلك في حلّه وترحاله، في منشطه ومكرهه، في حربه وسلمه (صلح الحديبية :26 الفتح )..  فالتقوى تشمير واجتهاد يتطلبه سيرنا القويم في دروب الحياة.. وهي تقوينا على التمسك بالوسائل السليمة ولو طال الطريق.. وعلى تحري الوسيلة النظيفة رغم المغريات صعودا نحو الغاية الشريفة في طريق كثر شوكه ..

-       التقوى الضامن الأقوى للصدق مع النفس ومع الله تعالى.. حيث لا دخل للبشر.. لأن الكثير من الوسائل القانونية نحو الغايات يتم خرقها سرا ، ويبقى الخرق إثما يحيك في صدرك.. ولا يطلع عليك إلا رب البشر، بينما يرى الناس لحظة نجاحك وما يظهر تحت الأضواء: الفائز يلوح بجائزته؛  لذلك يكثر قرن التقوى في القرآن الكريم بالصدق والصبر والعزيمة (177 البقرة).

ومن الأمثلة العادية في حياتنا اليومية الأخذ بالرخص: أكل الميتة في مخمصة، الفطر في رمضان.. تناول الأدوية المخدرة للآلام الشديدة.. وأعرف امرأة أدخلت العناية المشددة لجرعة زائدة من أحد تلك الأدوية: وأصل استعمالها له: آلام الأسنان.. ولكنها استمرت عليه لعامين بعد شفاء أسنانها.. ثم ماتت بسببها! فما الضمانة؟ الضمانة هي تقوى المرء أو تقوى من أفتى له: أي تقوى العالم  وتقوى الطبيب.. وهذا يضبط من يحاجج في التهاون بالطاعات والمنهيات متبعا  الهوى والمصلحة ..

ومن الأمثلة الشفاعة، والإصلاح.. فما الضمانة أن الساعي في الصلح بين طرفين إذ تنحرف به الوسيلة قد يبث الشحناء.. وقد يورط طرفا ثالثا ويوسع الخلاف؟ لا ضامن  إلا تقوى الله، قال تعالى: {(إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلّكم تُرْحمون)} الحجرات 10.

ولاشك أن التزام تقوى الله (5) في ما نتخذ من وسائل نحو الأهداف سواء في مفاصل حياتنا الكبيرة، أو خلجاتها وسكناتها الدقيقة هو على صعوبته الظاهرية يقوينا؛ بل هو طوق النجاة مهما اشتدت ريح السموم.. لأنه يحمينا من الغفلة وما تجر له من انحدار في سبل الضلال (6).

4.    تذكر نقطة النهاية: الدعامة الأخيرة والأهم والتي تجعلنا نتحمل عناء استصلاح الوسائل والثبات فلا ننكص للفاسدة منها: رضا الله تعالى والجنة، ففي كل مرة وأنت تسلك الطريق للغاية مهما كانت سامية.. تذكر نقطة النهاية.. والتي نعلم جميعا -سبحانك ربي- أنها نهاية جسد  وبدء انطلاقة روح لما بعدها من ميزان وحساب !!

وفي قانوننا الأرضي لا بدّ لكل شئ من نقطة نهاية.. والأكثر إلحاحاً أن هذه الدنيا برمتها ستفنى! وتلك النهاية قد تسبق تحقيقك للغايات "الشريفة".. حتى رسولنا الحبيب ذكره تعالى بهذه الامكانية في اكثر من آية، قال تعالى يخاطب المصطفى رسوله صلى الله عليه وسلم:{ليس لك من الأمر شئ} آل عمران 128 وكذلك يونس 46- والرعد 40، وقال سبحانه {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}.

وإن حديث الفسيلة هو دليل هام جدا على ذلك: عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل)). والحديث رواه الإمام أحمد (7).. ولرب قائل :

- ولكن القيامة قائمة لن اجني ثمرها.. بل حتى لن اراه ..

- بلى إن استطعت فاغرسها.. أما سمعت قول الحبيب فليفعل ..

هذا ما يريده تعالى منا.. أن نتعلم الصبر على الطرق المستقيمة والوسائل الشريفة ولو طال لبث الجنى وانتظار الثمرة.. ولو امتد المسير إلى الهدف السليم  امتداد الزمن بين الفسيلة والشجرة المثمرة..  ولو لم يذق الغارس الثمرة ......!!

اعمل بوسائل شريفة.. وعينك على  تلك النقطة ..

الشعور يقينا بأن هنالك نهاية.. مريـع! ولكنه مريح في ذات الوقت..، وهو يجعلك مع "المتقين".. أو أكثر قربا منهم..

 تلك هي الـمـعادلة الصعبة.. إن عقلناها بتفاصيلها ودقائقها.. عرفنا كيف نتقي الوسائل المعوجة والدروب المنحرفة عن السواء والتي قد تدمر الغايات النبيلة.. وعرفنا كيف نربي أبناءنا  في البيت.. والمدرسة.. والمجتمع(8) على حبّ الله تعالى وخشيته في آن ،ولا يلبث هذا الشعور المتوازن أن يتحول الى إدراك ويقيـن! لأنه عـلـم :

فأنت تعلم في قرارة نفسك شئت أم أبيت الإقرار بذلك أن نقطة النهاية هـنـاك.. تترصدك...

لا تعلم مـتى... لا تـعـلم كيـف.. ولكن.. لا بـد للأمانة أن تحمل بحقها قبل الأجل..كل من موقعه..

والمصيبة في قصورنا البشري.. التـشـبـث بالـطريـق ولو التوى.. كأن المرء يظنه كـلّ شيء.. يريد الـبـقـاء فيه... مـسـكـيـن.. لاهثاً في كبد.. لم يُدرك أنّه مِضمار سِـبـاق! فـتأتـي نـقـطة الـنـهـايـة إليه بدل أن يكون مشمرا جادا إلـيـهـا حـيـث يـتـوج الـفائـزون بالجائزة الحقيقية.. قال تعالى: {وسابقوا الى جنة عرضها كعرض السموات والأرض}

اللهم ارحمنا.. فلا نغفل بين البداية و النهاية عن "حق" هو كالشمس في رابعة النهار ..

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

هوامش

(*)كتاب: من أوراقي التربوية -د.غنية عبد الرحمن النحلاوي  - مخطوط

(1) ويعرف ما جرى بـ"أزمة الرهن العقاري" التي تفاقمت ببطء حتى بلوغ ماسمي: "يوم الانهيار الكبير=9 آب 2007" ومن يطلع على بعض الملابسات يعجب لكثرة الوسائل الملتوية التي استخدمت آنذاك ،وحتى قوانينهم الأرضية خرقوها.. وتورط في الأزمة عدة بنوك أمريكية وأوربية باعتراف خبرائهم!

(2) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي وقال رواه مسلم- ص295 - طبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده بمصر-1926م/1382هـ

(3) كتاب الثابت والمتغير -د. غنية عبد الرحمن النحلاوي-دار الفكر دمشق .

(4) هذا الحديث رواه ابن ماجه عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" قال الشيخ  الألباني : صحيح

(5) حفظت من عامي فصيح أهلنا في الشام قولهم عن شخص: "فلان شغل تقوى" أي أنه متين في موقفه أو عمله، وتطلق على الشئ : تقوى: أي صنعته متقنة ومتينة، وأعدّ للنشر عن التقوى وفيه توضيح بعض ما أوردته  .

(6) بحث: *فهمنا الخاطئ للغفلة*:  د.غُـنـْيـَة عبدالرحمن النحلاوي

(7) وقال عنه الهيثمي: ورجاله ثقات وأثبات. وقال عنه الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في الصحيحة ،ورغم عظمة ديننا في هذا المجال ومنه ذلك الحديث إلا أننا كثيرا ما ننبهر بالأمم الأخرى لاتباعهم السبل القويمة وعدم خرقهم القوانين فيما يظهرونه.. ونعزو ذلك لتربيتهم على النظام من جهة وعلى مرونة قوانينهم وتساوي الجميع أمامها..، علما أن صرامتهم في الاستقامة بالوسائل لا تمنع أن يضعوا لها أهدافا غير شرعية أحيانا.. وبداهة فإن استقامة الوسائل وفساد الأهداف لايقل سوءا عن انحراف الوسائل نحو أهداف مشروعة ( موضوع بحثنا).

(8) للمزيد كتاب أصول التربية الإسلامية في البيت والمدرسة والمجتمع للأستاذ عبدالرحمن النحلاوي –ط الثالثة – دار الفكر

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

التربية وبناء الفرد

-

أبومحمد

08:58:33 2016-04-10

أسأل الله تعالى أن يبارك فيكم وينفع بكم ويرفع قدركم يتداعى إلى ذهني لقاء بيني وبين صديقي طبيب نفسي وكنا نتحاور حول بناء الفرد معظم الناس ينظرون إلى العالم أو إمام المسجد أو الطبيب نظرة مثالية. فسألته كيف تكون علاقة الطبيب بالمرضى أو صرف العلاج فأجاب الطبيب أو الشيخ أو زيد من الناس هو إنسان مثله مثل أي إنسان آخر هو إنسان (مجموعة من القيم والمبادئ التي تربى عليها والتي اكتسبها من أسرته والمجتمع) هذا الإنسان إما يكون أساسه سليم أو عاطل والألقاب التي يحصل عليها أو المهارات التي تؤهله لحصوله على عمل هي الرداء أو القناع الذي يلبسه وأساس بناء الفرد هو الأسرة ممثلة بالأبوين والأخوة والأبوان مسؤولان مسؤولية أساسية في تربية الأبناء والنصح والدعاء لهم. أعجبني في هذا الموضوع حرصك يادكتورة على الدليل من الكتاب والسنة من الأحاديث الصحيحة رفع الله قدركم د.غنية وبارك فيكم وكتب أجركم نشكركم على هذا الموضوع جزاكم الرحمن عنا خير الجزاء