ومضات تربوية وسلوكية (4)


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 (تحرير الإنسان من الأغلال)

جاء الدين الإسلامي من أجل تحرير الإنسان من رق العبودية للطاغوت البشري أو الحجري وغيره، وإطلاقه إلى أفق مجتمع العدل والمساواة، الذي يتساوى فيه الغني والفقير في الحقوق الواجبات، وتكون فيه التكاليف على حسب القدرة والاستطاعة، تحفظ للإنسان الكرامة والأمن على نفسه وماله وعرضه ودينه، ويرفض الإسلام من أين كان المساس بها إلا بالحق، وما قول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه الخليفة الراشدي الثاني: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» إلا انعكاساً لتعاليم الإسلام بضرورة صون حرية الإنسان، وواجب الدولة والمجتمع المحافظة عليها وحمايتها.

جاءت رسالة الإسلام لتحطم الأغلال التي قيَّدت بها الكثير من المجتمعات، ومنها أغلال الرذيلة والفساد والعدوان وجميع الخبائث التي تعيش فساداً في الأرض، وليدعوا إلى مجتمع إنساني يتحلى بالقيم الإنسانية الرفيعة العالية، وقد أوضحت الآية الكريمة التالية معنى تلك الحرية، قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}[الأعراف:157]

وتوجهت رسالة الإسلام من الجزيرة العربية إلى بقاع العالم شرقاً غرباً، تحمل أهم مضمون لها، وأولى أهدافها الدعوة إلى التوحيد في عبادة اللّه عز جل، ورفض عبادة البشر والأصنام وغيرها، التي تتنافى مع العقل البشري، والهدف لثاني هو تحرير الإنسان من العبودية، التي فرضها الطغاة من حكامه عليه، تلك رسالة الإسلام في شقيها «التوحيدي والتحريري»، التي كانت مهمة الفتح تبليغها للناس كافة.

ومن الشواهد التاريخية على ذلك، ما قاله (زُهرة بن عبد اللّه بن قتادة بن الحويّة) للقائد الفارسي الشهير رستم، وهو ينقل إليه رسالة الإسلام وغاية الفتح، فحين سأله (رستم) عن هذا الإسلام الذي يقاتل العرب من أجله فقال: هو دين الحقّ لا يرغب عنه أحد إلا ذُلّ، ولا يعتصم به أحد إلا عُزَّ. فقال رستم: ما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح إلا به فشهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمد رسول اللّه، قال: وأي شيء أيضاً، قال زُهرة: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، والناس بنو آدم وحواء وأخوة لأب وأم، قال رستم: ما أحسن هذا.

ولزيادة المعرفة برسالة الإسلام طلب رستم من قائد الجيش الإسلامي سعد بن أبي وقاص مبعوثاً من قبله، فأرسل إليه (ربعي بن عامر) وكان جندياً بسيطاً فحين سأله رستم: ما جاء بكم؟ قال ربعي: اللّه جاء بنا، وهو بعثنا، لنُخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، فمن قبله، قبلنا منه، ورجعنا عنه، وتركنا أرضه دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نُفضي إلى الجنة أو الظفر.

في حين كان الإسلام يعمل فكراً وتطبيقاً على تحرير الإنسان، كانت أوروبا في حينه يزداد مواطنوها عبودية وذلاً، وقادتها جبروتًا وطغياناً، فيذكر أحد مؤرخي الغزوات القبلية الجرمانية الغربية عن التربية القائمة على البغي والطغيان والتدمير لملوك أوروبا آنذاك: نصيحة أم أحد ملوك البرابرة لولدها: إذا رُمت عملاً يرفع ذكرك، فعليك بهدم كل ما شاده غيرك، والفتك بكل من ظفرت به، فإنك لن تشيد خيراً مما شاد سابقوك، وليس في مقدورك إنجاز أنبل ليذيع صيتك.

فقد كانت بعض القبائل البربرية تربي أبناءها على سلوكيات قاسية لتتحول إلى وحوش كاسرة ضد الإنسان الروماني والأوروبي، ومن ثم تعيش حياتها اليومية بما هو أدنى من حياة حيوانات الغابة، فيتحدث المؤرخ (أميان مارسيلين) عن أسلوب حياة إحدى القبائل الأوروبية وتدعى «الهان» في القرن السابع الميلادي ما يلي:

إن عنفهم لا يعرف حدوداً، فكانوا يكوون وجنات أطفالهم حتى لا تنمو لحاهم لأن هذه المخلوقات القصيرة القوية الممتلئة الأجسام الغلاظ الأعناق، لا يطهون الطعام، ولكنهم يلتهمون الجذور البرية، واللحم النيئ لأول حيوان يصادفهم، وليس لهم مأوى ولا مدافن، وليس عندهم سوى ملابس من جلد الفئران يرتدونها إلى أن تتهلهل، ويقال: إنهم مقيدون بجيادهم، لا يترجلون ليأكلوا أو يشربوا بل غالبا يظلون ممتطين الجياد حتى في نومهم وأحلامهم.

أما عن حياة المجتمع الروماني فقد كان هناك سحق للإنسان من الطبقات الفقيرة، ما أدى إلى أن تفضل تلك الطبقات العيش في ظلال القبائل المتوحشة والبربرية على الحياة المسحوقة والمذلة في الدولة الرومانية، ويشهد على ذلك راهب عاش في (مارسيليا) العام 440 م يسمى (سالفين) قال إن الشعب الساكسوني شعب لا يعرف الرحمة، وأن الفرنجة غير جديرين بالثقة، ويتحدث عن الطبقة الفقيرة في الدولة الرومانية التي تعاني من سلطاتها الجور لتفضل عليها البرابرة، فيقول: إن الفقراء الرومان المنبوذين، والأيامي المنكوبات، واليتامى الذين تدوسهم الأقدام، وحتى الكثيرين من الرومان المتعلمين وأولاد الناس لاذوا بأعدائهم، لقد كانوا يبحثون عن الإنسانية الرومانية بين البرابرة، حتى لا يهلكوا من القسوة البربرية بين الرومان، لقد كانوا مختلفين عن البرابرة في عاداتهم ولغتهم ورائحة ملابسهم، إلا أنهم فضلوا هذه الاختلافات على تحمل الجور والقسوة، لقد انطلقوا ليعيشوا بين الهمج في جميع الأنحاء، ولم يندموا على فعلتهم قط، وفضلوا أن يعيشوا أحراراً تحت مظهر العبودية على أن يعيشوا عبيداً تحت قناع الحرية، ذلك لأن المواطنة الرومانية التي كانت تلقى تقديراً، وتُشترى بثمن باهظ لم تعد جديرة بالتقدير، بل أصبحت موضع الاحتقار، ومن لم يهرب اضطر أن يصبح همجياً بمقتضى القانون الروماني، أو بسبب الفوضى الناجمة عن خروج الرومان على القانون، إننا نسميهم عصاة ضالين، ولكننا نحن الذين أجبرناهم على أن يصبحوا مجرمين.

فالإسلام الذي حمل نور الحرية للإنسانية في زمن الظلام الدامس التي كانت تعيشه شعوب الأرض آنذاك، لا يزال حاضراً ومستقلاً في نهجه منذ أربعة عشر قرناً يحمل في طياته انعتاق البشرية من قيود وأغلال ظلام العبودية في أشكالها المختلفة المادية والمعنوية، ويرسل إليها كل إشارات الضوء لإنارة طريقها نحو المساواة والعدل والإخاء، على الرغم من كل محاولات أعداء الإنسانية تشويه صورته وأهدافه للرأي العام العالمي، حيث الزيف سيسقط، وستنجلي الحقيقية ساطعة كالشمس. [الحرية هدف الإسلام، زبير سلطان، مجلة الوعي الإسلامي، العدد 483]

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply