بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الخطبة الأولى:
معاشر المسلمين والمسلمات عام كامل يطوي بساطه، ويقوَّض خيامه، ويشد رحاله، بعد أن تصرَّمت أيامه وتفرَّقت أوصاله، حوى بين جنبيه حِكْماً وعبراً، وأحداثاً وعظات..
عام كامل سار بنا حثيثاً ليبعدنا عن الدنيا ويقربنا إلى الآخرة، يباعِدُنا من دار العمل ويقربنا من دار الجزاء أخرج البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال: (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل) .
نسير إلى الآجال في كل لحظة * وأعمارنا تطوى وهنَّ مراحلُ
ترحل من الدنيا بزاد من التقى * فعمرك أيـام وهن قلائــلُ
عام كامل ينقضي والناس ما بين مبتهج ومحزون لفراقه برحيله فالسجين يفرح بانسلاخ عامه؛ لأنه يقرّب فرَجه وآخر يفرح بانقضائه لأنه يقربه من مراده وغايته:
أعدُ الليالي ليلةً بعد ليلة * وقد عشت دهراً لا أعد لياليا
وأقوام يحزنون على فراقه لأنه طوى مرحلة من أعمارهم وقربهم إلى آجالهم وأدناهم إلى لحظة لا يدرون ما مصيرهم فيها إما إلى جنة وإما إلى نار، وهم مشفقون مما أودعوه فيه من الأعمال: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً}.
عباد الله لا بد من وقفة لكل واحد في نهاية العام ، ماذا قدم لآخرته؟ وماذا فعل لنصرة دينه وأمته؟ وكم سعى لخدمة مجتمعه ونفع إخوانه المسلمين؟!
أصحاب الأموال ورجال الأعمال يقومون بمحاسبة دقيقة ومراجعة شاملة لكل ما فعلوه خلال عام كامل، كم كسبوا وكم خسروا، وماذا أنفقوا وكم ادخروا ، والخاسر منهم يفتش عن سبب الخسارة ليجتنبها، والرابح يطور تجارته لجني المزيد .
ونحن أحق بطول المحاسبة من أهل التجارات والأموال، لننظر ماذا قدمنا لعام أدبر وماذا أعددنا لعام أقبل عملاً بقول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
إنا لنفرح بالأيام نقطعهــــا * وكل يوم مضـى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً * فإنما الربح والخسران في العمـل
إن أهم ما نودع فيه هذا العام ونستقبل آخر ، هو محاسبة النفس فنتصفّح ما صدر من أفعالنا، فإن كانت محمودةً أمضيناها وأتبعناها بما شاكلها وضاهاها، وإن كانت مذمومةً استدركناها بالتوبة وانتهينا عن مثلها في المستقبل.{إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.
قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيةٌ},
يقول ابن القيم رحمه الله: (المحاسبة أن يميز العبد بين ماله وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود). (مدارج السالكين، 1/187(.
المحاسبة هي مطالعة القلب وتفكره في أعماله وأعمال اللسان وأعمال الجوارح ، فمن ترك نفسه تلغ في المعصية دون أن يحاسبها فكأنما قتلها، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: "أي لا تقتلوا أنفسكم بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل".
المحاسبة تمكن العبد من الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها ، ومن اطلع على عيوب نفسه أنزلها منزلتها الحقيقية ومنعها من الكبر والتغطرس فمعرفة قدر النفس تورث العبد تذللاً لله وعبودية له فلا يمنُّ بعمله مهما عظُم ولا يحتقر ذنبه مهما صغُر وهذه علامة التوفيق، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً".
المحاسبة تزكي النفس وتطهرها وتلزمها أَمْر ربها فيفلح صاحبها ويفوز برحمة الله ورضوانه، قال تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}. قال مالك بن دينار رحمه الله: "رحم الله عبداً قال لنفسه: الست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً".
المحاسبة تنمي عند المسلم الشعور بالمسؤولية والتصرف وفق ميزان الشرع الدقيق. يقول ابن القيم رحمه الله محذراً من ترك المحاسبة: "أضرُّ ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب ويُمَشِّي الحال ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها وعسر عليه فطامها "أ.هـ . ( المدارج).
والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على * حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
فخالف النفس والشيطان واعصهما * وإن هما محضاك النصح فاتهمِ
قال ميمون بن مهران رحمه الله: "إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه".
ولأهمية المحاسبة فقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يحاسبون أنفسهم على الدوام:
قال سفيان بن عيينة رحمه الله :" كان الرجل يلقى أخاه في زمن السلف الصالح فيقول له: اتق الله وإن استطعت ألا تسيء إلى من تحبه فافعل، فقيل له: وهل يسيء الإنسان إلى من يحبه؟، قال: سبحان الله نفسك أحب الأشياء إليك فإذا عصيت الله فقد أسأت إليها".
وقال الحسن البصري رحمه الله: "لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه"، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر أمير المؤمنين، بخٍ بخٍ!! والله بُنيَّ الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك".
وقال إبراهيم التيمي: "مثَّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟، فقالت: أريد أن أردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قلت: فأنتِ في الأمنية فاعملي!
عباد الله: إن غياب المحاسبة أو الغفلة عنها نذير غرق الأمة في لجج الفساد والتيه المنتهية بنزول العقوبة في الدنيا ونارٍ وقودها الناس والحجارة في الآخرة، وإنما تنتشر المعاصي حينما لا يتوقع المجتمع أو الفرد حساباً فينطلقون في حركاتهم كما يحبون ويموجون كما يشتهون بلا زمام ولا خطام: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا كِذَّاباً}.
فلينظر كل واحد إلى تقصيره ، وليعزم عزماً أكيداً أن يحسن فيما يستقبله من أيام ، وليأخذ بالعزيمة الصادقة مع ربه على أن يكون عامه الجديد خيراً مما قد مضى. فالنفس سريعة التقلب ميالة إلى الشر كما أخبر بارئها عنها بقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد فاتقوا الله عباد الله حق التقوى..
معاشر المؤمنين روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصيام بعد رمضان : شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
إن الله تعالى جعل خاتمة كلِّ عام وفاتحته شهراً محرماً وموطنًا يغتنمه العبد للتوبة وإصلاح الحال والزيادة في الخير، فإنَّه إذا افتتح السنة بالطاعة وختمها بالطاعة يرجى أن يكون ممن قضوا كل عامهم في طاعة الله فتزودوا -عباد الله- من الأعمال الصالحة، ولا تغتروا بهذه الدنيا الفانية، واعلموا أنكم راحلون عما قريب ومفارقون لهذه الدنيا، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. وليست الغبطة بطول العمر، وإنما الغبطة بما أمضاه العبد في طاعة مولاه وخير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله .
فعلينا أن نستقبل أيامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة ربنا تبارك وتعالى وشكره وحسن عبادته، ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا ومراقبة من ولانا الله تعالى أمرهم من زوجات وبنين وبنات فما قامت الدنيا إلا بقيام الدين ولا نال العز والكرامة والرفعة إلا من خضع لرب العالمين ولا دام الأمن والرخاء إلا باتباع منهج سيد المرسلين ولئن استمرت زهرة الدنيا مع المعاصي والانحراف فإن ذلك استدراج يعقبه الإهلاك والاتلاف.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد