فوائد من كتاب التنازع والتوازن في حياة المسلم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

·       التوازن لغةً بناء يدل على تعديل واستقامة، وزٓينُ الرأي: معتدله،

أما اصطلاحاً فهو إعطاء كل ذي حق حقه من غير زيادة ولا نقص، ومعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه ومعرفة حدودها وغاياتها ومنافعها.

أما التنازع: فتدور معانيه على التجاذب والحنين والمغالبة.

والنوازع إن حاكت في صدر المسلم كلها أو بعضها منعته الرقاد وأورثته السهاد، فلا يطيب له عيش حتى يُحكم أمره فيها ويختار منها ما يوفقه الله تعالى إليه، وهذه النوازع هي:

١- طلب العلم الشرعي

٢- كثرة العبادة وإحسانها

٣- الدعوة إلى الله تعالى

٤- الجهاد في سبيل الله

٥- طلب المال الصالح

 

·       يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله موضحاً هذا التنازع:

"نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجباً، وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه، لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فرد، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه" صيد الخاطر

وكلام الإمام ابن الجوزي يتردد في صدور كثير من الصالحين، والغالب أن أكثرهم لا يجد سبيلاً للجمع بين تلك الأمور المذكورات على وجه حسن.

 

·       وللتدليل على أهمية التوازن بين النوازع المختلفة نذكر قصة أحد الصالحين:

كان داعية نشيطاً، ولكنه يعاني من عدم استطاعه التوفيق والتوازن بين نوازعه، فكان يقوم الليل ويكثر من التعبد، فيجد أنه قد قصّر في حق الدعوة، فيترك التعبد وينغمس في العمل الدعوي، فيجد أنه قد قصّر في حقوق أهله وأقاربه،  فيترك كل شيء ويهتم بأهله وأبناءه، فنصحناه بالاتزان فلم ينتصح، فكان نتيجة لهذا أنه ترك الالتزام كلية بعد شعوره بالضعف وعدم القدرة على التوفيق. ثم منّ الله عليه بالتوبة والرجوع والحمد لله.

 

·       النازع الأول: طلب العلم الشرعي:

هذا النازع قوي متجذر في نفوس كثير من الملتزمين بالإسلام، فهم سبب هداية الناس، ويجددون الدين وينقونه مما علق به من البدع والمخالفات، ويصححون مفاهيم العامة.

ولا بد لطالب العلم أن يلتفت لتنبيهات وتحذيرات:

١- لا يجب عليه ترك دراسته للفنون والصناعات، لأنها سبب من أسباب سعادة الأمة وفوزها على أعدائها وقد يصيب تاركها إثم لأنها اليوم من فروض الكفاية ومن أصول الريادة.

٢- لم يكن للفنون والصناعات هذه المنزلة في عهد السلف، فلا يصح أن نقارن ما عليه السلف بما نحن عليه.

٣- كان السلف حريصين على هذه الفنون والصناعات رغم بدائيتها، فكثير من العلماء اشتقت ألقابهم من الصناعات التي يزاولونها.

٤- وقد عاب بعض السلف تضييع بعض الفنون والصناعات، يقول الإمام الشافعي:

"لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه"

يقول هذا في زمانه فكيف في زماننا!

٥- سهُل عند بعض السلف الجمع بين الصناعات والفنون وبين طلب العلم الشرعي، ولكنه اليوم مطلب عسير، فطلبك العلم الشرعي يعني أن تلتحق بكلية من الكليات الشرعية أو تطلب العلم على يد شيخ، والأول صعب المنال إن كان الشخص مشغولاً بفنه وصناعته، والثاني من أصعب الأمور.

 

·       هذا ما حدا بكثير من الشباب إلى طلب العلم من الكتب والتفقه بغير شيخ، فظنوا أنهم قد علموا، والحقيقة أن بينهم وبين العلم الصحيح المعتبر مفاوز، إذ هم من الفضلاء المطلعين، ولا يصح وصفهم بأكثر من هذا، ويجب على الشخص أياً كانت صنعته تعلم فروض العين وفروض الكفاية، ولا يعذر بجهل هذه الأمور، وكذلك يحسن به أن يعرف الضرورات والحاجيات والتحسينات حتى يستطيع فهم واقعه على ما هو عليه.

 

·       جوانب التوازن في طلب العلم الشرعي:

1-  التوازن في طلب العلوم المختلفة وتفضيل بعضها على بعض:

يقول الإمام يحيى بن عمّار السجستاني: "العلوم خمسة: علم هو حياة الدين وهو علم التوحيد، وعلم هو قوت الدين وهو العظة والذكر، وعلم هو دواء الدين وهو الفقه، وعلم هو داء الدين وهو أخبار ما وقع بين السلف، وعلم هو هلاك الدين وهو علم الكلام".

2-  التوازن بين طلب العلم وطلب ترقيق القلب:

وهذا من أهم المهمات، وحث عليه السلف كثيراً وحذروا من تركه، ويقول الإمام ابن الجوزيّ: "فالصواب العكوف على العلم مع تلذيع –أي إيلام وإحراق- النفس بأسباب المرققات" وهذا القول يعد من القواعد الجامعة المثلى في هذا الباب.

3-  التوازن بين طلب العلم وحقوق الأهل والأولاد:

وذلك لأن حب طالب العلم للعلم أعظم من حب الناس للمال والنساء، وقد يقول قائل أن السلف كانوا يطلبون العلم ولا يفكرون في غيره من الأمور فأقول له: "هات لي نساءً كنساء السلف، ومعيشة كمعيشتهم، ثم يصح لك بعد ذلك قياسك".

وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: " لا تدخل هذه المحابر بيت رجل إلا أشقى أهله وولده".

ولما سأل رجلاً قال له ما حرفتك؟ قال: طلب الحديث، فقال له سفيان: بشِّر أهلك بالإفلاس!

4-  التوازن بين طلب العلم وفعل التطوّعات:

فالمراد وجوب التوازن بين العلم والعبادات التطوعية لتحقيق الكمال المنشود وإن كان الإمام الذهبي رحمه الله يفضل العلم على النوافل مثل كثيرٍ من السلف.

5-  التوازن بين طلب العلم الشرعي وبين طلب الثقافة الإسلامية والواقعية:

الكثير يقتصر على العلم الشرعي ولم يهتموا بما ثُثري ثقافتهم الإسلامية، أو معرفة واقعهم الذي يعيشونه، فلا يفقهون حال إخوانهم المسلمين ولا يطلعون على شبهات الكافرين، وهذا عيب في العالم أو طالب العلم المتصدر لإرشاد الناس، فهو أمر لا غنى عنه لفهم مشاكلهم والعمل على حلها.

·       النازع الثاني: كثرة العبادة:

فرغبة كل مسلم ملتزم بدينه أن يكون عظيم العبادة، كثير الأوراد، وأشد ما يكون شوقه إلى الإكثار من العبادة حين يقرأ أو يسمع أخبار السلف وعبادتهم، فهذا أنس بن عياض يحدث أنه رأى صفوان بن سليم –أحد أئمة التابعين- لو قيل له: "غداً القيامة" ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة!

وهذا هنّاد بن السريّ يحدث عنه أحمد بن سلمة النيسابوري الحافظ بأنه كان كثير البكاء، فرغ يوماً من القراءة لنا، فتوضأ وجاء إلى المسجد فصلى إلى الزوال، وأنا معه في المسجد، ثم رجع إلى منزله، فتوضأ وجاء فصلى بنا الظهر، وأخذ يقرأ في المصحف حتى صلى المغرب. فقلت لبعض جيرانه: ما أصبره على العبادة فقال: هذه عبادته بالنهار منذ سبعين سنة فكيف لو رأيت عبادته في الليل!

والأمثلة كثيرة، إذ لو أكثرت لأتيت بالعجب العجاب، ويجب التوضيح حتى لا يصاب الشخص بإحباط أو يكذب هذه الأخبار فيرتكب ما لا يسوغ:

1-  لم يكن السلف يعملون أغلب أوقات نهارهم كما الآن، بل كان جُلهم إذا كسب ما يقوته اكتفى به.

2-  كانت عندهم بركة في الوقت تكاد تكون معدومة في عصرنا وما ذاك –والله أعلم- إلا بإخلاصهم وكثرة تحريهم للحلال.

3-  لم تكن الحياة بنحو العسر الذي نعيشه الآن، فالأماكن كانت متقاربة والعيش سهل.

4-  لم تكن هناك كثير من الأمور المزعجة لنا الآن، فهاجس الشخص الملتزم اليوم تربية أولاده، وقضاء كثير من الوقت في إصلاحهم، بينما لم يكن السلف كذلك: لنقاء حياتهم وخلوها من أسباب الفساد الموجودة في هذا العصر.

5-  تغيير نمط الحياة بحيث صار الشخص –إلا من رحمه الله- يفكر في مستقبله ووظيفته وماله، ويسعى لهذه الأمور سعياً عظيماً.

6-  سعي الشخص المسلم لإقامة دولة الإسلام قد اقتطع كثيراً من وقته، ولم يعد هناك الوقت الكافي لأن يكثر العبادة، بخلاف السلف فإنهم كانوا يعيشون في دولة خلافةٍ إسلاميةٍ مرهوبة الجانب.

 

·       جوانب التوازن في التعبد:

1-  الأولوية لإقامة الفرائض: كاملة غير منقوصة، ولا يعذر في ترك شيء منها إلا فيما يعذره الشرع، ثم يأتي بعد ذلك بأنواع من الطاعات حسب قدراته وفراغه.

2-  فعل بعض التطوعات أمرٌ لازم لطالب الدرجات العلى: وذلك بقدر ما يسعفه الزمان، فكثير من الناس يعلل نفسه بأنه يدعو إلى الله أو أنه يتعلم العلم فلا وقت عنده لصلاة تطوع أو صيام نافلة، وهنا نسوق قول الفُضيل بن عياض رحمه الله: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبّلتك خطيئتك".

3-  العزيمة القوية: وذلك حتى يستطيع فعل بعض الطاعات، وأما التراخي والتعلل فلا يورث إلا حرماناً من القُرُبات، والله أعلم.

4-  إقامة الحقوق الأخرى: وذلك قبل القيام بالعبادات التطوعية، وأعني بها حقوق الزوج والأولاد وما يماثلها، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "كنت تاجراً قبل المبعث، فلما جاء الإسلام جمعت التجارة والعبادة فلم يجتمعا فتركت التجارة ولزمت العبادة" فقال الذهبي معلقاً: الأفضل جمع الأمرين مع الجهاد.

5-  الشمولية في العبادة: فلا يصح الاقتصار على العبادات البدنية فقط، فالدعوة، والتعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الرحم، كلها من الأمور المهمة، بل قد تكون –والله أعلم- أهم من العبادات التطوعية، لأن نفعها متعدٍّ والعبادة البدنية نفعها ذاتي قاصر على العابد.

 

·       النازع الثالث: الدعوة إلى الله تعالى:

وهو مطلب كثيرٍ من الملتزمين، وأمرٌ واجب في هذا العصر الذي ضل به كثير من الناس، واتبعوا أهوائهم وشهواتهم، وللدعوة شروطها ووسائلها ومقوماتها، وآدابها رسائل كثيرة، والمطلوب هنا ذكر بعض الأمور التي يتم بها الداعية أمر دعوته من حيث التوازن والاعتدال.

 

·       جوانب التوازن في الدعوة:

1-  التوازن بين الدعوة وأداء القربات: وهو ألا ينسى أن يوازن بين التقرب إلى الله ببعض العبادات البدنية وبين الدعوة، وذلك كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الدعوة بدون قُرَب جفاف، والقُرَب بدون دعوة تضييع، والجمع بينهما حال الرسل والأنبياء.

2-  عدم الانجراف مع الناس حال دعوتهم: وليس المقصود الانجراف في معاصيهم، بل ألا ينجرف إلى أن يكثر الهذر معهم، ويسترسل في اللغو والمزاح، فيفقد تأثيره وبريقه، فلا يقبل بعد ذلك كلامه.
قال الشافعي يرشد تلميذه يونس بن عبدالأعلى: "يا يونس: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقُرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط".

3-  الإقلال من مخالطة المدعوين: فيلتبس الأمر على الداعية فيخالط المدعوين بسبب أو بدون، وتصبح زيارتهم عادة وليست عبادة! ويضيع الغرض الصحيح من الزيارة، وكثرة الزيارة لغرض صحيح أو إصلاح مدروس أمرٌ لا غبار عليه بل هو من المندوبات.

4-  الإقلال من مخالطة الدعاة إلا لغرض صحيح: لأن ذلك يضيع وقته ووقتهم، ويأخذ من وقت المدعوين بدون حق، فلا يكثر زيارة الدعاة إلا لغرضٍ كتنسيق أعمال الخير أو غزو بعض القلوب الصدئة ونحو ذلك، ولا يتأثر الداعي إلى الله بقلة زيارة إخوانه، إذ أن المعيار هو الأخوة وتقارب القلوب وليس دليل المحبة كثرة الزيارات.

5-  التوازن في الحرص على الناس: فبعضهم لكثرة مخالطته بالناس ومعرفته بمشاكلهم قد يضعفُ شعوره بمشاكلهم وتجاوبه معها، وبعض الدعاة على العكس من ذلك يكاد يتمزق كلما سمع مشكلة، والمطلوب التوازن. وحث الله سبحانه وتعالى رسوله ألا يهلك نفسه حسرة على قومه إذ قال: "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا" - والبخع: الهلاك.

6-  التوازن بين كره التصدر والشهرة وبين وجوب قيادة الناس: فالداعية يكره التصدر بطبعه لإخلاصه وبعده عن الرياء، ولا ينبغي له الفرار من واجب نصح الجمهور وإرشادهم للحق.

وقد يكون في قلب المتصدر حبٌ للشهرة بدون أن يشعر به أو يريده، ولكنه نازع من نوازع النفس الإنسانية، ولا يؤاخذ عليه إن شاء الله.

قال أبو الطيب سهل الصعلوكيّ: "من تصدّر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه" أي أنه معرّضٌ للذل.

وهذا القول إن انطبق على محب التصدر والشهرة وعديم الإخلاص، فلا ينطبق إن شاء الله على داعية تصدر لإرجاع قومه إلى الحق وإلى طريق مستقيم، حتى لو شُهر وعرف فلا بأس عليه، وله أسوة بالرسل الكرم فهم أعظم الناس شهرة وكذلك المصلحون والدعاة.

 

·       النازع الرابع: الجهاد في سبيل الله

يطير المسلم شوقاً إلى الجهاد، وكلما دعاه الداعي رغب فيه وحنّ إليه، والجهاد من أعظم القُرب وأفعَلِها في النفس وأشدها تأثيراً، قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ"

فالذي يسمع هذا النداء الجليل، لا بد له أن يستجيب إن كان في قلبه إيمان.

 

·       جوانب التوازن في الجهاد:

1-  العلم والدعوة قد يفضلان الجهاد الكفائي: فقد يكونا أفضل من الجهاد الكفائي في بعض الأحيان وخاصة في هذا الزمن، يقول يحيى بن معين:
"الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله"، فقال له محمد بن يحيى الذهلي: "الرجل ينفق ماله ويتعب نفسه ويجاهد فهذا أفضل منه؟ قال: نعم.. بكثير".
فهذا رأي يحيى بن معين في ذلك الزمان، فكيف في هذا الزمان الذي قل فيه من ينشر العلم.

2-  وجوب الاستعداد للجهاد: وهذا يعني الاستعداد نفسياً وعقلياً وبدنياً، وأن يكثر ذكره ويتمنى الشهادة ويرغب بها، فقد كان الإمام البخاري رحمه الله يركب إلى الرمي كثيراً، وكان لا يُسبق في إصابته الهدف.
وهذا سلطان الموحدين يوسف بن عبدالمؤمن: "أمر العلماء أن يجمعوا أحاديث في الجهاد تُملى على الجند، وكان هو يملي بنفسه وكبار الموحّدين يكتبون في ألواحهم". وحتى سؤال الله الشهادة، فكان الصالحون يكثرون منه.

3-  معرفة أنواع الجهاد: فالجهاد بالنفس هو أعلاها مرتبة، والجهاد بالمال من أعظم الأمور خاصةً في هذا العصر، وهناك الجهاد بالقلم، وهناك جهاد بالدعوة، وهناك جهاد للنفس، وغير ذلك، ولا بد أنه إن لم يجاهد بنفسه أن تكون حياته بين قومه جهاداً حقيقياً باللسان وبالحال وبالدعوة وغير ذلك، وقد غفل البعض عن هذا المعنى، كأنه بعدم خروجه للجهاد البدني لعذر ما، فيسقط عنه جميع أنواع الجهاد الأخرى!

 

·       النازع الخامس: طلب المال:

والمجتمع الإسلامي في أمس الحاجة إلى المال، ليقيم به حياة إسلامية كريمة، والمشاريع الإسلامية النافعة، والمال أساسٌ في الجهاد والدعوة والإعلام الإسلامي، واللجان الخيرية وهيئات الإغاثة.

فهل يلام المسلم الملتزم إن بحث عنه وجدّ في طلبه للأغراض المذكورة؟
لا ليس عليه لوم، فقد قال سعيد بن المسيب: " لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله يعطي منه حقه ويكف به وجهه عن الناس"

وقال الثوريّ: "كان المال فيما مضى يُكره، فأما اليوم فهو تُرس المؤمن".

 

·       جوانب التوازن في طلب المال:

1-  وجوب كون المال في اليد لا في القلب: فإن حب المال للمال إذا تمكن من القلب أهلك صاحبه، ولضمان عدم تغير النفس بكثرة المال، يجب الاستكثار من قراءة سير الصالحين الذين جمعوا بين الغنى والأموال الطائلة، وبين الزهد والتطلع إلى الآخرة وما عند الله تبارك وتعالى، وأعظم من جمع بين الأمرين: عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما، إذ أن كثرة أموالهما معروفة، وكانا –مع ذلك- مبشرين بالجنة!

2-  عدم الإغراق في طلب المال: وهذا أمرٌ خطير، فقد يحصل أن ينسى دعوته وعبادته، فيقسو قلبه وتجف روحه، وإذا رأيته فكأنه أحد أبناء الدنيا المتكالبين عليها ولا يبالون بأمر آخر غير حبها وتفضيلها.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه موضحاً ذلك: "أعوذ بالله من تفرقة القلب. قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يُجعل لي في كل واد مال".

3-  المسارعة في إنفاقه لوجه الله: فقد يسوّل الشيطان لأصحاب الأموال جمعها بدعوى استعدادهم لمشاريع أخرى، وهذا المنطق يجر صاحبه لكنز المال عن المحتاجين الذين كان جمع المال من أجلهم.

4-  وجوب التخصص في هذا الباب: أنه ليس لكل داعية أو مسلم ملتزم أن يخوض في جمع المال للإنفاق في سبيل الله، إذ لا بد من ضوابط، إذ لا يصح للتفرغ لهذا الأمر داعية قدوة، ولا غرٌّ ضعيف لا يفقه حيل السوق، وذلك حتى لا يطغى جمع المال على غيره من الجوانب المهمة في حياة المسلم فيضيع في تلك الأودية!

 

·       التوازن بين النوازع:

بداية فالتوضيح واجبٌ أن هذا الكتاب لم يصنف لقاعدي الهمّة أو للمحبَطين اليائسين الذين من صميم عملهم إحباط أي فكرة، أو على الأقل الغض من شأنها، إنما وضع هذا الكتاب لمن هو عالي الهمة قوّي الإرادة، ترى بريق العزم في عينيه، ويفصح لسانه عن مخبوء صدره وعقله، فإن كنت من هذا الفريق فواصل القراءة مستعيناً بالله، وإن كنت من فريق المثبطين فاعزم على فراقهم، واستئنس بهذا الكتاب.

 

قد يسأل سائل: هل هذا بحث واقعي؟ وللإجابة على هذا السؤال، لا بد من النظر إلى جانبين اثنين حتى يتحقق هذا الأمر:

الأمر الأول: هل حدث مثل هذا التوازن بين المتنازعان في عصور السلف الذين فهموا الإسلام وطبقوه، أو حتى فيمن جاء بعدهم؟

الأمر الثاني: هل يمكن لهذا التوازن أن يحصل في هذا الزمان؟سواءً حدث في العصر الأول أم لم يحدث؟!

أما الأمر الأول فقد تحقق في سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فقد كان قوي الإيمان راسخ اليقين، بل أعظم الناس في هذا، وكان سيد العابدين الزاهدين، وكان مجاهداً عظيماً وقائداً بطلاً شجاعاً، وكان خير الناس لأهله وأقاربه، وأعظم الناس تربيةً لصحبهِ وأزواجه وأولاده، وهكذا لا تكاد تجد جانباً من جوانب التفوق إلا وقد جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه على الوجه الأعظم.

والأمثلة كثيرة لبعض الصحابة، يتفاوتون في تحقيق الجمع بين الفضائل والموازنة بينها.

أما من جاء بعدهم كالإمام "بقيّ بن مخلد" محدث الأندلس وعالمها وزاهدها، قال الذهبي رحمه الله: كان يختم القرآن كل ليلة في ثلاث عشرةَ ركعة، وكان يصلي بالنّهار مئة ركعة، ويصوم الدهر، وكان كثيرَ الجهاد، فاضلاً، يذكر عنه أنه رابط اثنتين وسبعين غزوة.

هذه سيرة الإمام "بقيّ بن مخلد" يراها كثير من الناس من ضروب الخيال، ويراها الصالحون العاملون فيعلمون أنها ترجمة عملية لحياة بعضهم ولأشواق كثيرٍ منهم.

فهو رحمه الله: قد عبدَ الله أحسن ما تكون العبادة، ولم ينس تلاميذه وأصحابه، ولم يغفل جيرانه، وكان يتعهد أهله ويحدثهم، ولم يمنعه كل ذلك من الانتصار للمظلومين والسفر من أجلهم، وقد توّج أعماله الصالحة بالجهاد، ثم إنه فهم الشرط الأسلاسي والمهم لكل تلك الأعمال الصالحة.. ألا وهو الدوام والدَّأب عليها.

أما الأمر الآخر وهو إمكانية حدوثه في هذا الزمان ففيه توضيح وضوابط:

بدايةً فإن هذا الزمان أصبح من الصعوبة والتعقيد بمكان، وتداعت الأعداء من كل جانب، وقلت بركة الزمان، وكثرت الهموم والمطالب الدنيوية، وتباعدت الأمكنة والديار، وكثرت شواغل الحياة.. ومع ذلك فهنالك ضوابط إن استقامت للشخص يستطيع أن يفكر في مثل هذا ويوفقه الله في تحقيقه.

 

·       أسس وضوابط لتحقيق التوازن:

تقسم هذه الضوابط إلى قسمين:

1-  صفات لا بد من توفرها في الشخص.

2-  صفات أخرى لا بد من توفرها في بيئته.

أما عن الصفات الواجب توفرها في بيئته فهي:

1-  الطمأنينة والأمن: كوجود المسلم في دولة يقل فيها النزاع بين الناس بعضهم بعضاً، وبين الناس وولاتهم، بحيث يغلب على أهل البلد الطمأنينة والاستقرار.

2-  الخلو من الكدورات والهموم: فلا بد من إيجاد مناخ نفسي ملائم، بحيث تكون المشاغل عنه بمنأى، أما من ابتلي بزوجة عسرة كثيرة المطالب، أو من ابتلي بوالدة أو بوالد لا يريدان فراقه، أو من كان همه توفير لقمة العيش حيث أنه في بلد فقير، فهذا لا يستطيع تحقيق المطلوب.

3-  انتشار العلم والثقافة: كوجود الشخص في بيئة علمية وثقافية قوية، لأن قلة العلم والثقافة قتل للإبداع وحصر للفكر وتسببان الرتابة في العمل والانزواء في الأفكار.

أما الأسس والضوابط اللازم توفرها في الشخص:

1- الإعداد المبكر: فاهتمام الشخص منذ الصغر ببعض الجوانب المذكورة في المباحث السابقة أمرٌ مهم، فلا يعقل أن يبلغ الشخص مبلغ الرجال، ثم يفكر في تحقيق هذه الأمور، فقد كان أئمتنا منذ حداثة أسنانهم يطلبون الكمال في كثير من الجوانب الشرعية وغيرها، وقد أعدّهم الله للتصدر والرفعة والإمامة منذ صغرهم، وهذا لا يعني أن الكبير قد فاته جمع الفضائل، ولكنه يثقل عليه، ولقد نبغ جماعات من السلف تعلموا على كِبر مثل العز بن عبدالسلام وغيره.

2- النجابة والذكاء:فظهورهما على الشخص عامل مهم في تحقيق هذا الأمر، أما من علم قصوراً فلا ينبغي له الخوض في مثل هذا، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.

3- توفر صفات خَلقية وخُلقية في الشخص تعينه على المطلوب: كالهمة وقوة الإرادة، وكثرة الحركة الفعالة المنتجة، والتفاؤل وانشراح الصدر، وسعة الأفق والقدرة على استجماع الفكرة ونسيان الأحزان، وكرم الخلق.

4- توافر التوازن الذاتي: كل الضوابط المذكورة مهمة، ولكنها لا تصلح للتطبيق إن لم يكن عند الشخص توازن ذاتي، بحيث يكون مكتمل النضج العقلي والنفسي، وشخصيته مبنية على دعائم قوية وعزيمة ثابتة تمكنه من حسن التكيف والتفاعل، واتخاذ المواقف حتى لا يفقد اتزانه العقلي ولا يختل توازنه النفسي، وكذلك تحمله مسؤولياته في الحياة بقوة وصلابة، وتكوين مناعة ذاتية ضد الضعف، وصون النفس من التقليد والانسياق الأعمى وراء الآخرين.

5- الحفاظ على الوقت وعلو الهمّة: ويجب الاطلاع على تجارب البارزين في هذا الجانب كابن الجوزي والنووي والسيوطي وغيرهم.

6- التنظيم والترتيب: فيكون منظماً مرتباً في شؤونه، بعيداً عن العشوائية والارتجال، يخطط ويفكر ثم ينفذ، ولا يكون تخطيته استجابة لنصائح الآخرين، بل يخطط طبقاً لما يريد لنفسه أن تكون.

7- تنمية الأسس الفكرية: ويقصد بها تكوين القدرة على حسن المحاكمة والاستدلال، والتفكير قبل العمل، والاتساع في التفكير، والاستيعاب الكافي للمفاهيم والتصورات.

8- النظرة الشاملة للحياة: فلا بد من تخليص العقل من التركيز على النظرة الجزئية لأنها تؤدي إلى آفات عقلية ليس أقلها العجز والانحسار، وتضخيم دور بعض الفروع والجزئيات مما يقتل الإبداع ويصيب قدرة الإنسان على العطاء.

9- معرفة الأولويات: وتسلسلها وإعادة تصنيف المشكلات الخاصة بحيث يحمى من التشتت ويسلم من الإحباط.

10- عدم الخلط بين الأمنيات والأمكانات: فالأماني سلم للوصول إلى المطلوب ولكن بقدر، فأحلام الأمس حقائق اليوم، والضابط هو عدم الإكثار من هذه الأماني حتى لا يصاب الشخص بالمثالية وينعت بعدم الواقعية.
يقول القرضاوي واصفاً الأمر: "جيل يحتكم إلى الحقائق لا إلى الأوهام، ولا ينسى وهو يتطلع إلى السماء أنه واقف على الأرض، فلا يجري وراء خيال كاذب أو حلم فارغ، أو أماني موهومة فيسبح في غير ماء ويطير بغير جناح، جيل كبير الآمال ولكنه واقعي التفكير، يرنو إلى شاطئ الأحلام ولكنه يتوقع هياج البحر وغضب الموج، ومفاجآت الأعاصير.. لا يحرث في البحر ولا يبذر في الصخر، ولا ينسج خيوطاً من الخيال، ولا يبني قصوراً من الرمال".

11- عدم الاستعجال: فطريق الألف ميل يبدأ بخطوة، أما التعجل الذي يريد جمع كل الفضائل ونفي الرذائل في مدة وجيزة فهذا لم يفهم السنن الكونية ولن يطيق الصبر على الطريق الطويل.

12- التفرغ ولو بقدر: فلا يكون هذا الأمر لشخص يعمل عملين في الصباح والمساء، أو ممن ابتلاه الله بأمر المال فيجمعه آناء الليل وأطراف النهار، أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما تسلم مهام الخلافة فرغه الصحابة لإدارة شؤونها.

13- الإقلال من الاجتماع بالناس ومخالطتهم: وهذا من أعظم الأسس والضوابط، فمن يقضي وقته مخالطاً الناس بغير هدف ولا غرض فكيف له أن يحقق ما يصبو إليه، وهو مرض اجتماعي أصاب كثيراً من الملتزمين، فسرق الشيطان أوقاتهم الغالية وزين لهم ما يصنعونه.

14- معرفة أن النوازع يترتب بعضها على بعض: فالدعوة لا بد لها من علم، وثمرتها الجهاد، وضابط الجهاد هو العلم الشرعي، والجهاد يحسن معه توفر المال اللازم، وهكذا...

 

يقول ابن الجوزي رحمه الله: أول أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن وحسن صورة الباطن، فصورة البدن تسمى خَلقاً، وصورة الباطن تسمى خُلقاً، ودليل كمال صورة الباطن حسن الطبائع والأخلاق، فالطبائع: العفة والنزاهة، والأنفة من الجهل ومباعدة الشره، والأخلاق: الكرم والإيثار وستر العيوب وابتداء المعروف والحلم عن الجاهل، فمن رزق هذه الأشياء رقته إلى الكمال وظهر عنه أشرف الخلال، وإن نقصت خلة أوجبت النقص.

ومن لوازم هذا الدين أن يكون المسلم متوازناً في أموره كلها، معتدلاً في شؤونه الخاصة والعامة، فلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط، ولا مبالغة ولا تهاون، وإنما اعتدال وقصد وتوسط.

وشخصية الإنسان المسلم: شخصية متوازنة تعطي للجسم حقه من العناية، وللمظهر ما يستوجبه من الرعاية، ولا يلهيها هذا المظهر عن المخبر اللائق بالإنسان الذي كرمه الله وأسجد له ملائكته، بل تعنى بما يكوّن فيها العقل الراجح والتفكير السديد، والمنطق السليم والفهم العميق لحقائق الأشياء، ولا يغيب عليه أن الإنسان ليس مكوناً من جسم وعقل فحسب، وإنما له روح ترفرف وأشواق عليا تدفعه للاستعلاء على هذه الحياة المادية، والصعود في معارج الخير والفضيلة والنور. مع توازن محكم دقيق بحيث لا يطغى حانب من هذه الجوانب على آخر.

قال الأستاذ عبدالكريم زيدان: "المثالية في الإسلام تتصف بالشمول، لأن الإسلام يريد من المسلم أن يبلغ الكمال المقدر له بتناسق وفي جميع شؤونه، فلا يقبل على جانب واحد أو عدة جوانت، ويبلغ فيها المستوى العالي من الكمال بينما يهمل الجوانب الأخرى حتى ينزل فيها إلى دون المستوى المطلوب، إن مثله مثل من يقوي يديه ويترك سائر أعضائه رخوة هزيلة ضعيفة.
وعلى هذا الأساس فهم الصحابة الكرام مثالية الإسلام، فلم تأسرهم عبادة ولم تقيدهم عادة، إنما تقلبوا في جميع العبادات والأحوال وبلغوا فيها المستوى العالي من الكمال، فلم يحبسوا أنفسهم في مكان ولا على نوع من العبادة ولا على نمط معين من الأعمال وإنما باشروا الجميع، فعند الصلاة كانوا في المسجد يصلون، وفي حلقات العلم يجلسون معلمين أو متعلمين، وعند الجهاد يقاتلون، وعند الشدائد والمصائب يواسون ويساعدون، وهكذا كان شأنهم في جميع الأحوال".

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply