بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
التناسب بين بلاغة الجمال وجمال البلاغة
التناسب من أشهر المبادئ وأقدمها في تفسير الجمال وتعليله، حيث كان الانسجام هو السمة المرادفة للجمال؛ فمنذ عصر اليونان اعتقد الفيثاغوريون «أنَّ الجمال هو انسجام في الكون.
وتعددت آيات القرآن الكريم التي تشير إلى التناسب الكوني، وإحكام نظامه، قال تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)، فهذه الآيات وغيرها تدل على التناسب العجيب في خلق الكون، والتقدير الدقيق المنتظم.
وهكذا فإنَّ التناسب لم يكد يغيب عن مجمل النظريات المفسرة للجمال، بل هو من أبرز أسس الجمال التي تجعل الجمال محسوساً ملحوظاً.
والتناسب من أهم معايير الجمال في الدراسات الحديثة، وهو معيار قائم على مراعاة النسب بين عناصر العمل الفني، وبذا صار هذا المعيار ضرورياً في الفنون لتحديد قيمة الجمال؛ لأنَّه أساس الحكم على جمال الأشياء باعتباره أساس صياغة الفن.
ويؤكد البلاغيون والنقاد على تناسب الألفاظ، وتلاؤم المعاني، وينصون على أنَّ من أبرز عيوب الكلام تنافر ألفاظه، وعدم انسجامها؛ لمخالفتها للنسق الذي هي فيه، يقول الجاحظ: «ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر، وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض الاستكراه، فمن ذلك قول الشاعر:
وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفرٍ
وليس قربَ قبرِ حربٍ قبرُ
والتنافر مضاد للتلاؤم، وابتداء البلاغيين مصنفاتهم بالتشديد على عيوب الكلام، تأكيد منهم على أهمية تناسب الكلام وانسجامه، فالتناسب مطلب من أهم مطالب بلاغة النص؛ لارتباطه باللفظ والمعنى والصوت، حتى جعله بعض البلاغيين – كالجاحظ- موازياً للفصاحة، وتعريف ابن رشيق للبلاغة يجعلها مرادفة للتناسب أيضاً، فيقول: (لبلاغة أن يكون أول كلامك يدل على آخره، وآخره يربط بأوله).
ورؤية الإمام البقاعي لعلم المناسبة مرادفته للبلاغة، يقول في مقدمة كتابه: (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور): (فإنَّ البلاغة - كما أطبقوا – مناسبة المقال مقتضى الحال، وهذا الكتاب لبيان الداعي إلى وضع كل جملة في مكانها، وإقامة حجتها في ذلك وبرهانها، لأنَّ هذا العلم – على العموم – علم تعرف منه علل الترتيب).
ويؤكد هذا المعنى د.محمد أبو موسى بقوله: «المناسبة باب من أبواب البلاغة، وبعض أوائلنا ارتقى به حتى جعله باباً من أبواب الإعجاز، وجعله موازياً لعلم البلاغة وعدلاً له تتساوى به كفة الميزان).
فالمتأمل لمقولات نقادنا وعلمائنا في مرادفة مفهوم التناسب لعلم البلاغة يدرك أنَّ مدار البلاغة مفهوماً وجمالاً على تناسب النصوص وانسجامها، وبيان الجماليات التناسبية في النص الإبداعي؛ لتذوق جماله البياني.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد