بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في صمتٍ، وحيدًا، في دارِ غربةٍ، مضى راحلاً عن دنيا زاهدًا فيها راغبًا عنها إلى ما هو خيرٌ وأبقى... ذلكم هو الشيخ القارئ "أبو مصعب عبد القادر بن عبد الله بامعلان، الذي فاضت روحه إلى باريها في وقت متأخر من مساء يوم الجمعة (18/6/1438هـ الموافق 17/3/2017م) في مصر بعد أزمة قلبية.
والشيخ - رحمةُ الله عليه- من أهل العلم والفضل الأخفياء ، نحسبه كذلك والله حسيبه، فما كان محبًّا للشهرة ولا متصدرًا لها، بل كان أبعدَ شيءٍ عن ذلك، ولذلك نجد شحًّا نادرًا في المواد التي ترجمت أو تحدثت عنه رغم اتفاق محبيه ومَن خالطه على فضله وعلوِّ أخلاقه وتواضعه وكرمه.
نشأته:
نشأ الشيخ عبدالقادر في مدينة الطائف، وهناك تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي، قبل أن ينتقل إلى المنطقة الشرقية، حيث درس في المرحلة الجامعية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن وتخرج منها . ثم انتقل إلى مدينة الثقبة بمحافظة الخبر حيث تولى إمامة مسجد أبي ذر الغفاري في حي البايونية، ولاحقًا، أصبح إمامًا وخطيبًا لجامع الرحمة في الثقبة أيضًا.
اشتُهر -رحمه الله- عند الناس بصوته الجميل وقراءته العذبة، وكان مسجده يمتلئ بالمصلين، وكان له وقتئذٍ دروس يومية في تفسير القرآن الكريم، وصحيح البخاري، والتجويد.
ثم عُرف عند كثير من أبناء المنطقة الشرقية بالرقية الشرعية على منهج السلف الصالح، فكان يتوافد عليه الكثير من الناس من مختلف مدن المملكة، ومن سائر مدن الخليج العربي؛ فكان رحمه الله لا يرد سائلاً؛ فنفع الله به عز وجل خلقًا كثيرًا من عباده المبتلين بالسحر والعين وما هنالك.
ويروي بعض مرافقي الشيخ قصة ابتلاءٍ أصاب الشيخ نفسَه إبان دراسته في الجامعة؛ الأمر الذي جعله يتجه إلى الاهتمام بمسألة الرقية الشرعية حتى اشتُهر بها. وذلك أن الشيخ ابتُلي بعينِ حاسدٍ فظهرت على جسده بثور كبيرة جدًّا دفعته للسفر إلى اليمن طلبًا للعلاج، واعتذر وقتها عن استكمال الدراسة في الجامعة لفصليْن دراسيَّيْن، وبعد أن شفاه الله أكرمه المولى عز وجل ومنَّ عليه بأن أجرى على رقيته الشفاء فكان مذَّاك يرقي الناس، ولا يتقاضى على ذلك أجرًا أبدًا. حتى إنه كان يلبس ثوبا بدون جيوب تحاشيًا لأن يضع أحدٌ النقود له في جيوبه وهو لا يعلم.
ومما يميز الشيخ رحمه الله أنه حين كان يرقي الناس كان يتجنب الخوض فيما ليس له به علم؛ فكان بعض الناس يسأل: هل عندي عين أو سحر؟ ... هل عندي عين إنسية أو عين شيطانية؟ وغيرها من تلك الأسئلة الغريبة التي تشيع بين الرُّقاة، إلا أن الشيخ كان يُعرض عن هذه الأسئلة ويرد على الناس بأن القرآن شفاء {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وهذه أمور غيبية لا نعرف عنها، لكنَّ القرآن شفاء لها بإذن الله.
وكان الشيخ رحمه الله في أمر الرقية الشرعية على منهج السلف الصالح وينأى بنفسه عن أن يظن الناس فيه شيئًا نافعًا، بل كان يطالبهم بأن يرقوا أنفسهم بأنفسهم ولا يطلبوا الرقية منه أو من غيره. يقول أحدُهم: "في أحد الرمضانات أيام الدراسة في الجامعة صلينا عند الشيخ التراويح، وبعد صلاة التراويح كان هناك محاضرة في مسجده ... فتأخر المحاضر... فجاء الشيخ -رحمه الله- وجلس على الطاولة -يقول الراوي: والله إني أتذكره الآن في مخيلتي كأني أراه أمامي- فجلس على الطاولة؛ فقال له الحاضرون الذين كانوا ينتظرون المحاضرة: ياشيخ؛ اقرأ علينا؛ فرد الشيخ مباشرة قائلاً: نعم؛ هذه مناسبة طيبة أقول لكم يا إخوة إلى أن يأتي المحاضر؛ فكان مما قال: يا إخوة لا تطلبوا الرقية من أحدٍ؛ لا مني أنا عبد القادر أو من أي أحدٍ، إنما أنتم ارقوا أنفسكم ولا تنتظروا من عبد القادر أو غيره الرقية.
وتميزت رقية الشيخ بأمريْن، وهما: الأول: صدقه واحتسابه، فكان يقرأ محتسبًا قبل أن تصير الرقية إلى ما آلت إليه الآن من تجارة للبعض أو لمآرب أخرى، والثاني: إتقانه لقراءة القرآن مع عذوبة في الصوت.
إمامًا وخطيبًا:
وحين اشتُهر الشيخ بين أبناء المنطقة الشرقية كان مناسبًا أن ينتقل من مسجد أبي ذر الغفاري، وهو مسجد صغير، إلى مسجد الرحمة في الثقبة، وهو جامع كبير؛ حيث تولى إمامة المسجد والخطابة فيه.
وكان لعذوبة صوته وجمال تلاوته يجتمع عليه خلق كثير في صلاة التراويح في رمضان، وعُرف عن الشيخ أنه كان يطيل القيام والركوع والسجود، ويصف أحدُهم الشيخ بأنه "من أخشع مَن قد تسمع تاليًا لكتاب الله". وكان يغلبه البكاء متأثرًا بآي القرآن الكريم، ويروي مَن صلى وراءه أن الشيخ كان إذا تلا خواتيم سورة النازعات {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}[النازعات: 40، 41] أخذتْه العَبرة وبكى.
ويتذكر الآخرُ تلاوة الشيخ فيقول: كان رحمه الله إذا قرأ في صلاة التراويح قول الله تعالى في سورة البقرة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} [البقرة: 210] فكان رحمه الله يبكي حتى لكأنك تشعر أنه لن يكمل الصلاة!
وكان رحمه الله في دعاء القنوت يدعو دائما بالدعاء المأثور عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَحْينا مَا علمتَ الحَيَاةَ خَيْراً لنا، وَتَوَفَّنا إِذَا علمتَ الوَفَاةَ خَيْراً لنا» ويبكي -رحمه الله-.
أما عن الشيخ واعظًا فقد كان خطيبًا مُصقعًا وبليغًا مُسمعًا، وأكثر ما كان يخطب بدون ورقة، وعُرف بخطبه المؤثرة التي كانت تجذب إلى مسجده العديد من الناس الذين كانوا يؤمون مسجده من المدن المحيطة بمدينة الثقبة طلبًا لشهود الجمعة معه.
والشيخ وإن لم يكن قد برز اسمه بين المشايخ المشهورين ، إلا أنه قد حصَّل ثمرة ما يسعى إليه أجلة المشايخ ؛ وقد ذُكِرَ مَعْرُوفُ الْكَرْخِيُّ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ، فَقِيْلَ: قَصِيْرُ العِلْمِ. فَقَالَ: أَمْسِكْ، وَهَلْ يُرَادُ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَعْرُوْفٌ؟ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابن الإمام أحمد: قُلْت لِأَبِي: هَلْ كَانَ مَعَ مَعْرُوفٍ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ؟ فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ كَانَ مَعَهُ رَأْسُ الْعِلْمِ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى .
ولكأن قول الإمام الأحمد يصدق أيضًا في الشيخ عبد القادر بن عبد الله -رحمة الله على الجميع-، وسيرته خير شاهد بذلك، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا.
ولهذا لا تعجب إذا سمعتَ أحدهم يصف شعوره وقد جلس جلسة واحدة -فقط واحدة- في حلقة القرآن الخاصة بالشيخ في مسجده؛ فيقول: "والله إني شعرت أني في روضة من رياض الجنة، وخرجت منبهرا بإيمانيات الشيخ وصدقه وخلقه وطريقة تعامله.
قضاء حوائج المسلمين:
وللشيخ -رحمه الله- في قضاء حوائج المسلمين سيرة حسنة يقف عندها المرء طويلا ولا ينقضي عجبه منها؛ فقد كان الرجل باذلاً من وقته وصحته ما هو فوق طاقة الإنسان العادية حتى إن جميع من رافقه أو خالطه شهد له بأنه لم يكن يرد سائلاً مطلقًا.
ومن غريب ما يروى عنه في ذلك أنه كان في بعض الأيام يقصده للرقية الشرعية ما يزيد عن خمسمائة شخص؛ فلا يرد أحدًا مطلقا حتى ينتهيَ من الجميع!
وكان الناس يغشونه في مسجده وبيته وفي كل مكان؛ فلا يرد أحدًا منهم.
وكان للشيخ عبد القادر -عليه سحائب الرحمة وشآبيب المغفرة- مقر خيري لمساعدة الفقراء والمساكين، بل لقد اشتُهر بالعمل الخيري في مساعدة المحتاجين، وكم نفع الله به في مساعدة الأرامل ومَدِّ يد العون لهم وتسديد الإجارات عنهم، وكان ينفق في السر أكثرَ مما ينفق في العلن.
ولعل مما أعانه على هذا الأمر أنه كان موضع ثقة العديد من التجار والأعيان والوجهاء الذين استأمنوه على أموالهم ليخرجها للمساكين والمحتاجين والفقراء. وأصبح هذا المقر الخيري علامة بارزة لمساعدة المحتاجين والفقراء في المنطقة حتى تم إغلاقه بسبب عدم وجود ترخيص له!
ومما يُذكر من عظيم بذله في هذا الشأن أنه كان بعد أن يقرأ على الناس بجامع الرحمة، تنتظره العوائل المحتاجة فيسعى في قضاء حوائجهم حتى إن ذلك لا يمكِّنه من الرجوع إلى بيته إلا في وقت متأخر من الليل ؛ وما ذاك إلا رغبةً منه في إدخال الفرحة على بيوت المسلمين.
ومن حرصه على نفع الناس وتخفيف الآلام عنهم أنه كان أحيانا في أيام القراءة على الناس لا يكلم أحدًا بعد الصلوات الجهرية ويستمر في الذكر حتى يخرج من المسجد؛ لأنه كان يقابله الناس في الطريق فيرقيهم فكان حريصًا على ألا يفصل بين الصلاة والقرآن والذكر بكلام دنيوي حتى يرقيَ مَن يقابله خلال خروجه من المسجد في الطريق.
ولا ابالغ إذا قلت أنه لا يوجدُ بيتٌ فقيرٌ خصوصاً في مدينة الثقبةِ والخبر إلا وقد وصلته من طريق الشيخ عبد القادر أيادٍ بيضاء!".
تواضعه:
وشهد الجميع للشيخ عبد القادر بأنه كان متواضعًا، محبًا للمساكين، محبوبًا من الجميع، لا تفارق الابتسامة محياه، دمث الأخلاق، لا يكسر قلبَ أحدٍ، عطوفًا جدًا، صاحب شفاعات لدى من يعرف من الأمراء والوجهاء والأعيان، ساعيًا في حوائج المساكين والفقراء.
ومن تواضعه رحمه الله ما يروي أحدهم أنه كان يملك سيارة "كابرس بكس" سماوية اللون، وكان فيها "انتل" تلفون سيارة يبلغ طوله المتر تقريبًا، وكان حين يصل إلى الموضع الذي يرقي فيه الناس بالثقبة -والذي كان يسميه الناس (عيادة)- يحول هذا "الانتل" دون دخول السيارة في الموقف ذي السقف المظلل المخصص لها أمام (العيادة)؛ فكان الشيخ ينزل بنفسه من السيارة ويصعد على باب السيارة ويمد يديه ويفك "الانتل" ليتمكن من إدخال السيارة في موقفها... ولو أراد الشيخ لوجد عشرين شخصًا يكفونه هذا الأمر وهم سعداءُ بخدمة الشيخ، ولكنَّه رحمه الله كان بسيطا متواضعا على علو قدره وتسابُق الناس لمساعدته.
ابتلاءات:
في الحديث حين سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قَالَ: (الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ).
وجريًّا على هذه السنة الربانية الماضية في ابتلاء الصالحين الأمثل فالأمثل؛ فقد تعرض الشيخ عبد القادر بن عبد الله رحمه الله لبعض الابتلاءات وامتُحن حتى وافاه الأجل، وهو في مصر، إثر نوبة قلبية فاجأته وهو في السيارة حيث كان في طريقه إلى المستشفى. وكان قبل موته يأمل في عودة قريبة إلى أهله وأسرته بالمملكة العربية السعودية التي أحبها كثيرا وعاش فيها طول عمره .
لقد مات الشيخ عبد القادر وحيدًا، في دار غربةٍ، وقد كان يومًا جميع الناس حوله! وقد كان يومًا مقصد المئات في اليوم الواحد! وقد كان يومًا تصلي خلفه الجموع الغفيرة من المصلين! ولعل في هذا مناسبةً لتمرير همسة عتاب لبعض الدعاة وبعض أصحاب المصالح ! الذين ساعدهم الشيخ عبد القادر ودعمهم ثم هم يبخلون عليه بدعاءٍ ومواساةٍ لأهله!!
وما أحوج سيرة الشيخ إلى مَن يقوم بها من طلابه ورفاقه؛ جمعًا وتمحيصًا ونشرًا؛ حتى نقدم قدوةً حسنةً لأجيالٍ تجهل أقل القليل عن الشيخ. وحسبك أن تعلم أننا بعد بحث حثيث لم نظفر للشيخ -وهو من هو- على شبكة الإنترنت سوى مواد صوتية قليلة جدًا !!
رحم الله الشيخَ رحمةً واسعةً وأسكنه فسيح جنانه وألحقه بالصالحين من أنبيائه وأوليائه ...
"رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي الدِّينِ مَا كَانَ أَبْصَرَهُ، وَعَنِ الدُّنْيَا مَا كَانَ أَصْبَرَهُ، وَفِي الزُّهْدِ مَا كَانَ أَخْبَرَهُ، وَبِالصَّالِحِينَ مَا كَانَ أَلْحَقَهُ، وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ، عَرَضَتْ لَهُ الدُّنْيَا فَأَبَاهَا، وَالْبِدَعُ فَنَفَاهَا".
قَالَها أَبُو عُمَرَ ابْنُ النَّحَّاسِ حين ذَكَرَ الإمامَ أَحْمَدَ يَوْمًا، وفي مثل الشيخ عبد القادر بن عبدالله تصدق أيضًا، رحمة الله على الجميع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد