من إعجاز القرآن: سلطانه على القلوب


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

أجمع العلماء على أن القرآن معجز، ثم اختلفوا في الوجه الذي يقع به الإعجاز، وجعل شيخ الإسلام ابن تيمية اختلاف الناس فيه دليلاً على إعجازه، قال رحمه الله: "وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه ولا يناقض ذلك، بل كل قومٍ تنبهوا إلى ما تنبهوا له"([1]).

ولا يعني الخلاف في وجه الإعجاز، أن من أثبت وجهًا أنكر غيره، بل هناك قدرٌ اتفقوا على أنه معجز، كالإعجاز (البياني)، فقد أثبته جميع العلماء، وهو الذي وقع به التحدي.

والمشكلة التي تواجهنا اليوم هي دقة هذا العلم، ولطف مأخذه، مع ضعفنا العام في العربية، وقد قال الباقلاني: "لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية، من العجم والترك وغيرهم، أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك"([2]).

وقال في موضع آخر: "وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان من هذا الشأن، ما يعرفه العالي في هذه الصنعة، فربما حل في ذلك محل الأعجمي"([3]).

بل ذهب إلى أبعد من هذا، وهو أنه لا ينفع الناظر في هذا العلم أن يأخذ منه بلغةً، بل لا بد من أن يمعن فيه، قال: "إن الناقص في هذه الصنعة كالخارج عنها، والشادي فيها كالبائن منها"([4]).

وهذا مفسرٌ كبيرٌ كابن عطية يقول في فاتحة تفسيره: "ونحن تتبين لنا البراعة في أكثر القرآن ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن رتبة العرب يومئذٍ في سلامة الذوق وجودة القريحة"([5]).

ولذلك عانى (مالك بن نبي) في فهم إعجاز القرآن البياني، خاصة أن أكثر قراءاته بالفرنسية، وقال: "منذ وقت طويل لم نعد نملك في أذواقنا عبقرية اللغة العربية"([6])، فألف كتابه (الظاهرة القرآنية) يتلمس أوجهًا أخرى للإعجاز تظهر لكل ناظر.

ولا أقصد من هذا توهين الحديث عن الإعجاز البياني اليوم، كلا، فإنه معقد الإعجاز وعموده، وإنما أريد إجالة النظر في أوجه أخرى تظهر لكل سامع لكتاب الله، أيًّا كان حاله.

فمن وجوه الإعجاز وجهٌ يجده كل تالٍ للقرآن، حتى ممن لا يفهم معناه، وهو سلطانه على النفوس، "وخاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره، دع القارئ يقرأ القرآن، يرتله حقّ ترتيله، فستجد نفسك بإزاء لحن غريب لا تجده في كلام آخر، وهذا الجمال التوقيعي، لا يخفى على أحدٍ ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب، فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟"([7]).

وكان أول من تنبه لهذا الوجه من الإعجاز: الخطابي([8])، حيث قال: "وفي إعجاز القرآن وجهٌ آخر، ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى - ما يخلص منه إليه. تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتغشَّاها من الخوف والفرق ما تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب. يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها؛ فكم من عدو للرسول- صلى الله عليه وسلم- من رجال العرب وفتاكها، أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانا "([9]). ثم أورد من المثل التاريخية، والآيات القرآنية ما هو مصداق لما وصفه من أمر القرآن.

وقال القاضي عياض: "ومن وجوه إعجاز القرآن: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته"([10]).

وهذه صورٌ وشواهد لذلك:

1- قال الله تعالى: (كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله).

2- عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) إلى قوله: (المصيطرون) كاد قلبي يطير. رواه البخاري.

3- مات أناسٌ لسماعهم زواجر الوعظ تتلى، وصنف في ذلك أبو إسحاق الثعلبي كتابه: (قتلى القرآن)، وهو مطبوع.

4- ذُكِر عن نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكى فقيل له: مم بكيت؟ قال: للشجا والنظم([11]).

5- قال ابن فضلان في رحلته: "وقال بعضهم (من الترك)، وسمعني أقرأ قرآنًا، فاستحسن القرآن، وأقبل يقول للترجمان قل له: لا تسكت([12]).

6- قال الأستاذ سيد قطب: "منذ حوالي خمسة عشر عامًا، كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك؛ من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم، وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة.. وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة؛ والركاب الأجانب -معظمهم- متحلقون يرقبون صلاتنا!، وبعد الصلاة جاءت سيدة مسيحية - كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها، جاءت تشد على أيدينا بحرارة؛ وتقول: إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح!، وتقول وهو موضع الشاهد: إن الإمام كانت ترد في أثناء كلامه فِقْرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أعمق إيقاعاً. وقد أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة"([13]).

7- قال د. إبراهيم السامرائي: "عرفت نصرانيًّا في إحدى قرى جبل لبنان، وكنت أستمع من مكتبه في الفندق الجبلي تلاوة جميلة للشيخ أبي العينين شعيشع، فقلت له مرةً: يا معلم جورج، إني لأستمع صوت الشيخ شعيشع يأتي من مكتبك بعد ساعة الغداء، فقال: نعم، تعال اليوم واستمع معي، ففعلت وذهبت إلى مكتبه، فرأيته يستمع وهو طربٌ مسترخ يتناول النبيذ، فقلت له: كيف يكون هذا؟ فأجاب بلبنانيته: "في أحسن من هيك؟" يستمع الناس للزِّعران (يريد المغنين الأولاد) وللمغنيات في صراخهن وزعيقهن، ولا يستمعون مثلي"([14]).

فهذا كله من قوة أثر القرآن على النفوس، وقد قال ابن عاشور: "ولم يزل شأن أهل الخطابة والحكمة الحرصَ على تحصيل المقصود من كلامه؛ لأن الكلام إنما يواجه به السامعون لحصول فوائد مرْجوة من العمل به ، وما تبارى الخطباء والبلغاء في ميادين القول إلا للتسابق إلى غايات الإِقناع، وقد ذكر أرسطو في الغرض من الخطابة أنه إثارة الأهواء، وقال: إنـها انفعالات في النفس تثير فيها حزناً أو مسرة"([15]).

قال الأستاذ سيد قطب: "إن في هذا القرآن سرًّا خاصًّا، يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء، قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها؛ إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن، يشعر أن هنالك شيئاً ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأن هنالك عنصرًا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه بعض الناس واضحًا ويدركه بعض الناس غامضًا، ولكنه على كل حال موجود، هذا العنصر الذي ينسكب في الحس، يصعب تحديد مصدره: أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم أنها هي وشيء آخر وراءها غير محدود؟!

ذلك سر مودع في كل نص قرآني ، يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء، ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله"([16]).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

1- الجواب الصحيح (4/75). وينظر: أدب الخواص للحسين المغربي (83).

2- إعجاز القرآن (113). والباقلاني -نسبة على غير قياس- إلى الباقلاء وهو الفول بلغة أهل الشام، فمن شدد اللام في النسبة قصر الألف، فيقول: الباقلِّي، ومن خففها مد الألف فتكون الباقلاني، كما قال ثعلب. ينظر: الفصيح مع شرحه التلويح (70)، وفيات الأعيان (4/269).

3- إعجاز القرآن (25).

4- السابق (126).

5- المحرر الوجيز (1/49).

6- الظاهرة القرآنية (58). وأما قول الدكتور صلاح الخالدي في كتابه: البيان في إعجاز القرآن (223): "إن التراث الأدبي والنقدي الذي نملكه الآن، ونملك من خلاله أن نقوِّم النصوص الأدبية، يفوق ما كان عليه الوليد بن المغيرة وغيره، ممن بهرهم القرآن" =فغير صحيح؛ فإن من حصلت له علومٌ ضروريةٌ لا يمكنه دفعها عن نفسه لم يكن بمنزلة مَنْ تعارضه الشبهة، ويجتهد في دفعها بالبحث والنظر.

7- النبأ العظيم (101).

8- وقد توفي سنة (388هـ). وذكر الدكتور محمد أبو موسى في كتابه شرح أحاديث من صحيح البخاري (118) أن الرماني (ت386هـ) ذكر ذلك، ولم أره له.

9- رسالة الخطابي (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 70).

10- الشفا (1/384).

11- الشفا (1/384).

12- رحلة ابن فضلان (93).

13- في ظلال القرآن (3/1786).

14- حديث السنين (395).

15- التحرير والتنوير (11/387).

 

16- في ظلال القرآن (6/3399).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply