بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إذا وافق يوم العيد يوم الجمعة فهل تسقط الجمعة عمن صلى العيد؟
سأحاول بيان ذلك بإيجاز قدر الاستطاعة، فأقول وبالله التوفيق:
أولًا: ذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة: إلى أنه إذا وافق يومُ العيد يومَ جمعة فلا تسقط صلاة الجمعة بصلاة العيد، واحتجوا بقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾[الجمعة: 9].
قال الإمام القرطبي: "لا تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد، خلافًا لأحمد بن حنبل فإنه قال: إذا اجتمع عيدٌ وجمعة سقط فرض الجمعة، لتقدُّم العيد عليها، واشتغال الناس به عنها، وتعلق في ذلك بما رُوي أن عثمان أَذِنَ في يوم عيد لأهل العوالي أن يتخلَّفوا عن الجمعة، وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خُولف فيه، ولم يُجْمَع معه عليه، والأمر بالسعي متوجِّه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام"[1].
والعوالي جمع عالية، وهي: قرية بالمدينة النبوية تَبْعُد عن المسجد النبوي مسافة حوالي 5 كيلو مترات من جهة الشرق.
واستدلوا لذلك أيضًا بأنه لم يصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه أنه أسقط صلاة الجمعة بصلاة العيد، بل على العكس من ذلك؛ إذْ صحَّ عنهم الالتزام بالصلاتين معًا.
وقد رخَّص الشرعُ الحنيفُ لأهل الأماكن البعيدة إذا حضروا إلى المسجد الجامع وصلُّوا العيد أن ينصرفوا ويتركوا الجمعة؛ لأنه يشقُّ عليهم أن يرجعوا مرةً أخرى لصلاة الجمعة؛ فقد روى البخاري في صحيحه أن عثمان رضي الله عنه قال في خطبته: "أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم، فمَنْ أراد مِن أهل العالية أن يُصلِّيَ معنا الجمعة فليصلِّ، ومَن أراد أن يَنْصَرِفَ فلْيَنْصَرِف"[2].
واختار هذا القول العلامة ابن جبرين في رسالة له بعنوان: "الرأي السديد فيما إذا وافق يوم الجمعة العيد".
وقد ذهب الحنابلة في إحدى الروايتينِ -وهو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة، والعلامة ابن باز وابن عثيمين- إلى أنَّ مَن صلى العيد لا يُطالَب بصلاة الجمعة مطلقًا، وإنما يُصلي الظهر، قال ابن قُدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ): "وإن اتفق عيدٌ في يوم جمعة سقَط حضور الجمعة عمَّن صلى العيد إلا الإمام، فإنها لا تَسْقُط عنه...، وقال أكثر الفقهاء: تَجِب الجمعة؛ لعموم الآية والأخبار الدالة على وجوبها، ولأنهما صلاتان واجبتان فلم تسقُط إحداهما بالأخرى؛ كالظهر مع العيد"[3].
واستدل الحنابلة ومَن وافقهم على مذهبهم بما أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: "مَن شاء أن يُصلِّيَ فليُصَلِّ".
وقد اعترض بعضُ أهل العلم على هذه الرواية وما في معناها بأن أسانيدها ليستْ بالقوية، وعلى فرض صحتها، فيُمكن الجمعُ بينها وبين النصوص الأخرى، والجَمْعُ مُقدَّم على الترجيح عند التعارض، وعلى هذا جاءتْ أقوال العلماء، ولا بأس بأن نستأنسَ ببعضها:
قال الإمام ابن حزم (المتوفى: 456هـ): "إذا اجتمع يوم عيد في يوم جمعة صُلِّيَ للعيد ثم للجمعة ولا بد، ولا يصحُّ بخلاف ذلك أثرٌ...، والجمعة فرضٌ والعيد تطوُّع، والتطوُّع لا يُسقط الفرض"[4].
وقال الإمام أبو بكر بن المنذر (المتوفى: 319 هـ): "أجمع أهلُ العلم على وُجوب صلاة الجمعة، ودلَّت الأخبارُ الثابتةُ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على أنَّ فرائض الصلوات خمسٌ، وصلاة العيدين ليس مِن الخمس، وإذا دلَّ الكتابُ والسنةُ والاتفاق على وُجوب صلاة الجمعة، ودلت الأخبارُ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على أنَّ صلاة العيد تطوُّع، لم يَجُزْ تَرْكُ فَرْضٍ بتطوُّع"[5].
والخلاصة: إذا اجتمع عيدٌ وجمعة، فإنَّ الواجب هو الالتزام بأداء الصلاتين، كل صلاة في وقتها، هذا هو ما جرى عليه العملُ منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى يومنا هذا، فما أجمل اجتماع مناسبتين لتكثير الثواب والأجر، ومن كان عنده عُذر يمنعه مِن أحدهما فله رخصةٌ.
أما القولُ بأن صلاة العيد تُسْقط صلاةَ الجمعة فهو قولٌ مَرْجُوح، وإن قال به جَمْعٌ مِن أئمة الهدى ممن يُقتدى بهم.
والله تعالى أعلى وأعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
[1] تفسير القرطبي 18/ 107
[2] أخرجه البخاري في صحيحه.
[3] المغني لابن قدامة 2/ 265
[4] المُحَلَّى بالآثار 3/ 303
[5] الأوسط في السُّنن والإجماع والاختلاف (4/ 291)، وذكر نحو هذا ابن عبد البر في: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (10/ 274)، (10/ 277)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 3/ 187.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد