بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الابتلاء – أحمد إبراهيم
اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ، وَاسْتَبْرِئُوا لِدِينِكُمْ بِاجْتِنَابِ مَا تَشَابَهَ عَلَيْكُمْ، وَاتْرُكُوا مَا تَظُنُّونَ بِهِ بَأْسًا إِلَى مَا لَا بَأْسَ فِيهِ؛ فَإِنَّ ((الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَالحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكْ أَنْ يُوَاقِعَهُ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
أيها الناس إن معرفةَ الطريق الذي يسير فيه الإنسان لبلوغ هدفه أمر ضروري لمواصلة سيره دون انقطاع أو فتور، لِتَجَنُبَ ما يمكنُ تجنبه من العوائقَ في هذا الطريق. إنَّ طريقَ المسلمِ إلى الله طريق طويل وشاق، إذ إنه يبدأ منذ أن يعقل الإنسان دوره ووظيفته في هذه الحياة، ولا ينتهي إلا إذا انتهت المسافة التي حددها الله له في هذا السفر وهي عُمُرُه، والتي لا يدري عنها المسافر شيئاً، هذا إذا واصل في هذا الطريق، ولم يستطلِ المسافة أو يستصعب السير فيبحث عن طُرق أخرى يراها أقصرَ أو أسهل وقد يكون فيها هلاكه المحقق السمة البارزة لهذا الطريق كما يذكر الله تعالى في كتابه، وكما يذكر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وكما يذكر التاريخ ويؤيده الواقع أيضاً.
أنه طريق ابتلاء وامتحان، طريق محفوف بالمكاره، يشتد الابتلاء فيه بشتى صوره ويكبر كلما أوغل السائر فيه وهو مُصر على التقدم.
ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً مُعَبِّراً للمؤمن في هذه الحياة فقال((مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ))رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وكذلك المؤمن فإنّ المصائب وإن آلمته وأحزنته فإنها لا يمكن أن تهزمَه أو تنالَ من إيمانه شيئاً، ذلك أنّ إيمانه بالله عاصمُه من ذلك.
الدنيا عباد الله مليئة بالحوادث والفواجع، والأمراض والقواصم فبينا الإنسان يسعد بقرب عزيز أو حبيب إذا هو يفجع ويفاجأ بخبر وفاته، وبينا الإنسان في صحة وعافية وسلامة وسَعة رزق إذا هو يُفجع ويفاجأ بمرض يكدر حياته ويقضي على آماله، أو بضياع مال أو وظيفة تَذهب معه طموحاتُه، وتَفسدُ مخططاتُه ورغباته.
وهيهات أن يضحك من لا يبكي، وأن يتنعّم من لم يتنغَّص، أو يسعدَ من لم يحزن.
قال الحسن رحمه الله "جرَّبنا وجرَّب المجرِّبون فلم نر شيئاً أنفع من الصبر، به تُداوى الأمور، وهو لا يُداوى بغيره"
لقد أمرنا الله بالصبر عند البلاء، وجعله من أسباب العون والمعيّة الإلهية فقال سبحانه وبحمده (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ثم أخبر مؤكِّداً أنّ الحياة محل الابتلاء بالخوف والجوع ونقص الأرزاق والأموال والأنفس والثمرات، وأطلق البشرى للصابرين، وأخبر عن حالهم عند المصائب، وأثبت جزاءهم فقال (وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ, مِّنَ الـخَوفِ وَالـجُوعِ وَنَقصٍ, مِّنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إذَا أَصَابَتهُم مٌّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيهِ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الـمُهتَدُونَ)
على المسلم أن يهيِّئ نفسه للابتلاء قبل وقوعه، وأن يدرِّبها عليها قبل حدوثه، وأن يعمل على صلاح شؤونها
لأنّ الصبر على البلاء عزيز ونفيس، وكل أمر عزيز يحتاج إلى دُربة عليه. عليه أن يتذكّر دوماً وأبداً زوالَ الدنيا وسرعةَ الفناء، وأن ليس لمخلوق فيها بقاء، وأنّ لها آجالاً منصرمة، ومدداً منقضية، وقد مثَّل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حالَه في الدنيا ((كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)) أخرجه ابن حبانَ والحاكم وأحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
من آمن بالقضاء والقدر، وعلم أنّ الدنيا دار ابتلاء وخطر، وأنّ القدر لا يُرَدُّ ولا يُؤجَّلُ اطمأنت نفسُه، وهان أمرُه وَسَلِمَ من الصدمات والنكسات قال صلى الله عليه وآله وسلم ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف)) رواه الترمذي وصححه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه.
ومن تأمَّل أحوال السـلف الصـالـح وَجَدَهَم رضي الله عنهم قد حازوا الصبر عند البلاء على خير وجوهه، مات عبد الملك بنُ عمر بنِ عبد العزيز، فدفنه أبوه، ثم استوى على قبره قائماً، فقال وقد أحاط به الناس "رحمك الله يا بُنيّ. قد كنت براً بأبيك، والله ما زِلْتُ مُذْ وهبكَ الله لي مسروراً بك، ولا والله ما كنتُ قطّ أشدَّ بك سروراً، ولا أرجى بِحَظِّيٍ من الله تعالى فيك منذ وضعتُك في هذا المنزل الذي صيَّرك الله إليه"
المؤمن الصادق في إيمانه يُحسِن ظنَّه بربه، وقد قال اللهُ كما أخبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ((أنا عند ظن عبدي بي)) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
واعلم أن الخيرة التي اختارها الله لك ربما تكون خفيَّة، لمّا قتل الخَضِرُ الغلامَ الذي لقيه مع موسى، أنكر موسى ذلك أولَ الأمر، حتى تبيّن له أنّ قتله كان لحكمة عظيمة، أخبر الخَضِرُ بها كما حكى عنه الله في كتابه فقال (وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمِنَينِ فَخَشِينَا أَن يُرهِقَهُمَا طُغيَانًا وَكُفرًا*فَأَرَدنَا أَن يُبدِلَهُمَا رَبٌّهُمَا خَيرًا مِّنهُ زَكَاةً وَأَقرَبَ رُحمًا) تأسَّوا بغيركم، وتذكَّروا ابتلاءتهم، وانظروا إلى من هو أشدَّ ابتلاءً منكم، فإنّ في ذلك ما يُذهب الأسى، ويخفف الألم، ويقلِّل الهلع والجزع، وتذكَّروا قول الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ ((مَن يتصبَّر يُصَبِّرهُ الله)) رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فقدَ يعقوبُ يوسفَ عليهما السلام، ومكث على ذلك عقوداً من السنين، وبعد أن كَبُرَ وضَعُف فقد ابناً آخر، فلم يزد على أن قال (فَصَبرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الـمُستَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) الابتلاء بالمصائب من دلائل الفضل، وشواهد النبل، وكيف لا يكون ذلك.
وقد روى الترمذيُّ وصحَّحَه، وابنُ ماجة عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ ((الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ))
سأل أبو بكر رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم مستشكلاً وجلاً، فقال يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية (لَيسَ بِأَمَانِيِّكُم وَلا أَمَانِيِّ أَهلِ الكِتَابِ مَن يَعمَل سُوءًا يُجزَ بِهِ وَلا يَجِد لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) فكلُّ سوءٍ عَمِلنَا جُزينا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض، ألست تنصَب، ألست تحزن، ألست تُصيبك اللأواء)) قال بلى. قال"فهو ما تجزون به"رواه أحمد وأبو بكر المروزي وأبو يعلى.
اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ.
عباد الله لقد وعُدِتَ امرأةٌ بالجنة جزاءً وثواباً، كانت تُصرع إذا ما صبرت على بلواها، كما حدَّث بذلك عطاءُ بنُ أبي رباح قال: قال لي ابن عباس ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت إني أُصرَع، وإني أتكشف، فادعُ الله لي. قال: "إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك" فقالت أصبر. وقالت إني أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها. رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة.
ووُعِد بها الذي فقد بصره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم ((إنّ الله قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة)) رواه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه.
لقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً ((ما تعدون الرَّقُوب فيكم)) قالوا الذي لا يولد له. قال ((ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدِّم من ولده شيئاً)) أيْ يموتُ قبلَ أن يموتَ أحدُ أولاده" رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
أيها المبتلى ابتعد عن العزلة والانفراد فإنّ الوسـاوس لا تزال تجاذب المنعزل المتفرِّغ، والشيطان على المنعزل أقدر منه على غيره، وأشغـل نفـسك بمـا فيـه نفعُـك، واحـزم أمـرَك، واشـتغل بـالأوراد المتـواصـلة والقـراءة والأذكـار والصـلوات، واجعلها أنيـسك ورفيـقك، فـإنّـه بـذكر الله تطمئنّ القلوب.
أترك الجزع والتشكي وتذكر قول ربك (مَا أَصَابَ مِن مٌّصِيبَةٍ, فِي الأَرضِ وَلا فِي أَنفُسِكُم إلاَّ فِي كِتَابٍ, مِّن قَبلِ أَن نَبرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيلا تَأسَوا عَلَى مَا فَاتَكُم وَلا تَفرَحُوا بِمَا آتَاكُم)
حُكي أنّ أعرابية دخلت من البـادية، فسمـعت صُــراخاً في دار، فقـالت ما هذا فقيل لها مات لهم إنسان فقالت ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرّمون، وعن ثوابه يرغبون.
تـذكَّـروا أنّ الجـزع لا يــردُّ الفـائــت، ولكـنه يُحزنُ الصـديق ويَـسرُّ الشـامـت، ولا تَقْرُنـُوا بحُــزنِ الحـادثــةِ قُـنـوطُ الإيـاس. فإنـهـما لا يـبقـى معـهمـا صـبر، ولا يتّسع لهما صدر.
إنّ الصـبر على المصائـب يُعقِـبُ الصابرَ الـراحــة منها، ويُكسبه المثوبة عنها، فإن صبر طائعاً وإلا احتمل همّاً لازماً، وصبر كارهاً آثماً، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سُلُوَّ البهائم.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "إنّك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور"
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إنَّا وجدنا خيرَ عيشنا الصبر"
وروي عن علي رضي الله عنه قوله "اعلموا أنّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ألا وإنه لا إيمان لمن لا صبر له"
وقال الحسن رحمه الله "ما تجرَّع عبدٌ جُرعةً أعظمُ من جرعةِ حلمٍ عند الغضب، وجرعةِ صبرٍ عند المصيبة"
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله "ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوَّضه خيراً مما انتزعه"جعلنا الله جميعاً من الصابرين الشاكرين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد