بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
خطبة أحوال الناس يوم القيامة - محمد السبر
عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق ، حتى تكون منهم كمقدار ميل". قال سليم بن عامر -أحد رواة الحديث-: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض؟ أم الميل الذي تكتحل به العين. قال صلى الله عليه وسلم: "فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ". قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه. رواه مسلم.
بعد أن ينفخ في الصور ويبعث الناس من قبورهم ويحشرون إلى ربهم ، ينقسم العباد إلى قسمين وإلى فريقين كل على حسب أعماله. قسم الأشقياء من الكفار والفجار وقسم السعداء من المتقين الأبرار. (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ).
أما حال الأشقياء فقد بينه تعالى بقوله :{ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء}.
وقال تعالى :{وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}.
وقال سبحانه: {وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار}.
وقال تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً}.
وقال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون}.
وقال تعالى: {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض}.
وعندما يعاين الكفرة ما أعد لهم من العذاب المهين فإنهم يمقتون أنفسهم ويمقتون من كانوا يتخذونهم أحباباً وخلاناً في الحياة الدنيا ويعادونهم ويتبرأون منهم ، قال تعالى: {الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} .
ويخاصم أهل النار بعضهم بعضاً ويحاج بعضهم بعضاً. قال تعالى: {وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}، وقال تعالى: {وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد}.
ويخاصم المرءَ أعضاؤه قال تعالى: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون} .
أما المتكبرون على عباد الله فإنهم يحشرون في أذل صورة وأشدها امتهاناً وصغاراً .
قال صلى الله عليه وسلم: "يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة، في صور الرجال يغشاهم الذل من مكان". رواه الترمذي ، والذر صغار النمل، وصغار النمل لا يعبأ به الناس، فيطؤونه بأرجلهم وهم لا يشعرون.
وهذه الحالة المخزية تناسب ما كانوا فيه في الدنيا من تعاظم وغرور بأنفسهم، لأنهم كانوا في الدنيا يتصورون أنفسهم أعظم وأجل المخلوقات؛ فجعلهم الله في دار الجزاء أحقر المخلوقات وأصغرها. (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) .
وهناك فئام لا يكلمهم الله يوم القيامة لعظيم جرمهم وكبير جنايتهم وقبح معاصيهم التي اقترفوها في الدنيا.
فمن هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب قال تعالى في شأنهم: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم..}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار". رواه أبو داود والترمذي.
ومن هؤلاء: ثلاثة مذكورون في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. قلت يا رسول الله ، من هم؟ خسروا وخابوا. قال: وأعاده رسول الله ثلاث مرات، قال: المسبل، والمُنَفِّقُ سلعته بالحلف الكاذب، والمنان". رواه مسلم.
ومن هؤلاء: ثلاثة مذكورون في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر". رواه مسلم.
ومن هؤلاء: من جر ثوبه خيلاء. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه بطراً ". رواه البخاري ومسلم.
أما من كان غادراً فإنه يفضح يوم القيامة. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان ابن فلان". رواه مسلم.
فالغادر ترفع له راية تسجل عليها غدرته، فيفضح بذلك يوم القيامة، وتجعل هذه الراية عند مؤخرته.
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل غادر لواء عند أُسْتِه يوم القيامة". رواه مسلم .
ومن كانت جنايته الغلول فإن الله يفضحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ويجعل ما غله في ذلك اليوم في عنقه قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: أي يأتي به حاملاً له على ظهره وعلى رقبته، معذباً بحمله وثقله، ومرعوباً بصوته ، وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد.
وعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "ما بال العامل نبعثه على عمل، فيقول: هذا لكم وهذا لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه ، فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي منه بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر". رواه البخاري ومسلم.
وأما غاصب الأرض فإنه يخسف به سبع أرضين يوم القيامة. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين". رواه البخاري .
أما ذو الوجهين، فإنه يكون شر الناس يوم القيامة لأنه متلون لا يثبت على حال واحدة وموقف واحد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجدون شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه". رواه البخاري ومسلم.
أما الحاكم الذي يحتجب عن رعيته، فإن الله يحتجب عنه. عن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه أنه قال لمعاوية رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ولي أمر المسلمين شيئاً فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم، وفقرهم ، وفاقتهم، احتجب الله عنه يوم القيامة، دون خلته وحاجته وفاقته، وفقره". فجعل معاوية رجلاً على حوائج الناس. رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح. رواه أبو داود والترمذي.
أما الذي يسأل الناس تكثراً وله ما يغنيه فإنه يبعث وليس في وجهه مزعة لحم. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "ما يزال الرجل يسأل الناس؛ حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم" . والجزاء من جنس العمل.
أما أهل السعادة والفوز والحبور ، فإنهم لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يحزنون إذا حزنت الخليقة، أولئك أولياء الرحمن الذين آمنوا بالله، وعملوا بطاعته استعدادا لذلك اليوم، فيؤمنهم ربهم رحمة منه وفضلاً.
فعندما يبعثون من قبورهم تستقبلهم الملائكة تهدئ من روعهم وتطمئن قلوبهم {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون * لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} .
والفزع الأكبر هو ما يصيب العباد عندما يبعثون من القبور، وفي ذلك اليوم ينادي منادي الرحمن أولياء الرحمن مطمئناً لهم:{يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون * الذين آمنوا وكانوا مسلمين} ويقول لهم: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
وسِرُّ هذا الأمن أن قلوبهم كانت تخاف ربها في الدنيا، فقاموا من ليلهم، وأظمأوا نهارهم، واستعدوا ليوم الوقوف بين يدي الله، كما قال تعالى مخبرا عن مقالتهم: {إنا نخاف من ربنا يوما عبوساً قمطريرا} ومن كانت هذه حاله وقاه الله شر ذلك اليوم: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً * وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً}.
الخطبة الثانية:
اتقوا الله عباد الله حق التقوى، وأعلموا أن توحيد الله تعالى وطاعته سبب للأمن في الدنيا والآخرة قال تعالى: (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ).
وهناك طائفة آمنة في ظل عرش الرحمن يتنعمون فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". رواه البخاري .
أما أهل القسط والعدل فإنهم يوم القيامة في مقام رفيع. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور ، عن يمين الرحمن عز وجل ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا ". رواه مسلم.
أما المؤذنون ، فهم أطول الناس أعناقاً في ذلك اليوم فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة " رواه مسلم. وطول العنق جمال وحسن .
والمؤذن يشهد له في ذلك اليوم كل شيء سمع صوته في الدنيا، روى البخاري في صحيحه أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال لعبد الرحمن بن صعصعة: "إني أراك تحب الغنم والبادية ، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأنت في الصلاة فارفع بالنداء ، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ".
ويأتي المصلون المتوضئون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء". رواه البخاري ، والمراد: النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه الغرة وذلك التحجيل تكون للمؤمن حلية يوم القيامة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". رواه مسلم. وهي مزية لهذه الأمة المحمدية دون غيرها، ففي رواية لمسلم: " لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ؛ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ".
فهذه هي الحال التي يأتي عليها المتوضئون، فطوبى لمن جاء ذلك اليوم، والنور في وجهه، وهكذا يأتي أهل الإيمان وجوههم بيضاء مستنيرة قال الله تعالى:﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران:107]، وقال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [عبس:38-39]، ومسفرة: قيل مشرقة، وقيل مضيئة، وقيل مستنيرة وكلها معانٍ متـقاربة.
نسأل الله من فضله ورحمته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد