بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحمْد لله الذي مَدحَ الصِّدقَ وَأثَاب علْيه، وَرَفَع مَقَام الصِّديقِين مِن أنْبيائه وقَرَّبَهم إليْه، قَال تَعَالى: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)[1]، وأوصى النَّبي ﷺ بالصِّدق فقال: (عَليْكُم بالصِّدق؛ فإنَّ الصِّدق يهْدى إلى البِر؛ وإنَّ البر يهْدى إلى الجنَّة، وما يزَالُ الرَّجل يصْدقُ ويتَحَرَّى الصِّدق حتى يُكتب عنْد الله صِدِّيقًا)[2].
إنه من تمعن في أخلاق النبي ﷺ وخصاله وشيمه وجد خلة الصدق والأمانة أعظم هذه الخصال وأتمها، فكان ﷺ في قمَّة الصدق وعَلْيَاء الأمانة، فهو صَادق اللهْجة، صريح القول واللسان، ثابت الجنان، لا ينفي قوله فعله، ميمون النقيبة، يصدق الناس، ويبدل لهم النصح، ولو كان فيه ضرره، حتى ارتبط الصدق بدمه وشحمه وعظمه صلوات ربي وسلامه عليه، نَبِيُّنا الآمِر النَّاهي فَلا أحَدٌ أبرَّ فِي قَول لَا منْه وَلا نَعَمِ[3].
قال القاضي عياض رحمه الله: «وأما عدله ﷺ وأمانته وعفته وصدق لهجته، فكان ﷺ آمن الناس، وأعدل الناس، وأعف الناس، أصدقهم لهجة منذ كان، اعترف له بذلك مُحَادُّوهُ وَعِدَاه، وكان يسمى قبل نبوته: «الأمين»[4].
ولما اختلفت قريش وتحازبت عند بناء الكعبة فيمن يضع الحجر حكَّمُوا أول داخل عليهم فإذا بالنبي ﷺ داخل وذلك قبل نبوته فقالوا: «هذا محمد؟ هذا الأمين قد رضينا به»[5].
وقد تواتر صدق النبي ﷺ وأمانته على لسان محبيه وأعدائه معا، وشهد بذلك الذكر الحكيم قال تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)[6].
وسأل هرقل أبا سفيان عن حال النبي ﷺ فقال له: «هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا»[7].
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : «قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، فقال: يا معشر قريش، إنه والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر»[8].
وفى حديث علي في وصفه ﷺ: «كان رسول الله ﷺ أجود الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله ﷺ»[9].
قال ابن القيم رحمه الله: وقوله: «أصدق الناس لهجة»: هذا مما أقر له به أعداؤه المحاربون له، ولم يجرب عليه أحد من أعدائه كذبة واحدة قط، دع شهادة أوليائه كلهم له به، فقد حاربه أهل الأرض بأنواع المحاربات، مشركوهم وأهل الكتاب منهم، وليس أحد منهم يوما من الدهر طعن فيه بكذبة واحدة صغيرة ولا كبيرة»[10].
أَصْدَقُ لَهْجَة، وَأَوْفَى ذِمَّهْ*** أَلْيَنُهُمْ عَرِيْكَةً فِي الأُمَّهْ[11].
قال المسور بن مخرمة: «قلت لأبي جهل ـ وكان خالي ـ: يا خال ! هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول مقالته؟ فقال: والله يا ابن أختي لقد كان محمد وهو شاب يدعى فينا الأمين، فلما وخطه الشيب لم يكن ليكذب. قلت: يا خال ! فلم لا تتبعونه؟ فقال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف؛ فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، فلما تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي، فمتى نأتيهم بهذه أو كما قال»[12].
وثبت عن سعد بن معاذ رضي الله عنه أنه كان يطوف بالكعبة قبل الفتح فلقيه أبو جهل فقال: «من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ فقال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمد وأصحابه؟ فقال: نعم، فتلاحيا بينهما، فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي، ثم قال سعد: والله لئن منعني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام. قال: فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك، وجعل يمسكه، فغضب سعد فقال: دعنا عنك فإني سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال: نعم، قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد، قال: فلما خرجوا إلى بدر، وجاء الصريخ، قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فأراد أن لا يخرج، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يوما أو يومين، فسار معهم فقتله الله»[13].
فهذا قبس من صدق النبي ﷺ أوردت بعضا من أنواره؛ لأن المقام مقام تذكير، فأسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله في ميزان حسناتي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
جريدة المصادر والمراجع:
1. ألفية السيرة النبوية المسماة: نظم الدرر السنية في السيرة الزكية: لزين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، ت: محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار المنهاج بدون تاريخ.
2. جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام: لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، ت: شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، دار العروبة – الكويت، ط2، 1407 هـ/ 1987م.
3. دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ت: د. عبد المعطي قلعجي. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط1/1408هـ / 1988م.
4. الزبدة شرح البردة : لبدر الدين محمد الغزي، ت: د. عمر موسى باشا، وزارة الثقافة الجزائرية، ط1، 2007م.
5. سنن الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، ت: أحمد محمد شاكر وآخرون، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1395 هـ /1975م.
6. السيرة النبوية لابن هشام، بيروت: دار إحياء التراث العربي،الطبعة الثانية،1391هـ ـ 1971م.
7. الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ: للقاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي، ت: عبده علي كوشك، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، وحدة البحوث والدراسات، ط1، 1434هت/2013م.
8. الشمائل المحمدية والخصائص المصطفوية: للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279هـ).تحقيق: محمد عبد العزيز الخالدي. دار الكتب العلمية، بيروت، ط1/1416هـ ـ 1996م.
9. المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، ت: عبد الرحمان مقبل بن هادي الوادعي. دار الحرمين للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ ط1،1417هـ/ 1997م.
10. مسند أحمد بن حنبل: للإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي: ت: شعيب الأرنؤوط و عادل مرشد. مؤسسة الرسالة، بيروت ، ط1/ 14116هـ ـ 1995م.
11. المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
هوامش المقال:
[1] مريم: 50.
[2] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (رقم الحديث: 6805).
[3] الزبدة شرح البردة (ص: 34).
[4] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (ص: 177).
[5] أخرجه أحمد في المسند (3 /425)، والحاكم في المستدرك (1 /628)(1683) وصححه ووافقه الذهبي من حديث مجاهد عن مولاه عبد الله بن السائب.
[6] الأنعام: 33 -34.
[7] أخرجه أحمد في المسند (3 /425)، والحاكم في المستدرك (1 /628)(1683) وصححه ووافقه الذهبي من حديث مجاهد عن مولاه عبد الله بن السائب.
[8] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2 /77)(507(
[9] أخرجه الترمذي في سننه كتاب: المناقب باب (5 /299)(3638)، في الشمائل (ص: 7) من حديث علي رضي الله عنه.
[10] جلاء الأفهام لابن القيم (ص: 197- 198).
[11] ألفية السيرة للعراقي (ص: 197- 198).
[12] السيرة النبوية لابن هشام ) 1 /315(
[13] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: المغازي، باب: ذكر النبي صلى الله عليه و سلم من يقتل ببدر (رقم الحديث: 3433).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد